الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
14- العقل والنقل. (القواعد 184-201)
تاريخ النشر: ٣٠ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 5201
مرات الإستماع: 3032

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله تعالى- في كتابه "طريق الوصول إلى العلم المأمول":

وجماع هذا أن يعلم أن المنقول عن الرسول ﷺ شيئان: ألفاظه وأفعاله، ومعاني ألفاظه ومقاصدُه بأفعاله، وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس، وإن كان عند غيره مجهولاً أو مظنوناً ومكذوباً به، وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير المنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم ممن لم يشركهم في عملهم، وكذلك أهل العلم بمعاني القرآن والحديث والفقه في ذلك يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال والأفعال المأخوذة عن الرسول ﷺ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: 

فمرحباً بكم جميعاً، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك لنا ولكم في هذا المجلس، وأن يجعله سبيلاً إلى الزلفى إليه، وأن يتقبل منا ومنكم، ويرزقنا وإياكم علماً نافعاً وعملاً صالحاً ونية.

ذكر الشيخ -رحمه الله- قبل هذا -للربط والتذكير- أن العلوم ثلاثة أقسام في مقام الاحتجاج عليهم من كلامهم في هذا التقسيم: ما لا يعلم إلا بالعقل، ما لا يعلم إلا بالسمع، ومنها ما يعلم بالسمع والعقل، ثم ذكر طرق العلم وأنها ثلاثة: الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر، وتكلم في ثنايا ذلك عن التواتر وما إلى ذلك مما يُقطع معه بصحة النقل، إلى آخر ما ذُكر.  

يقول: "وجماع ذلك أن يُعلم أن المنقول عن الرسول ﷺ شيئان الألفاظ والأفعال"، هذا شيء، يعني: القوالب اللفظية، والصور القائمة من الأفعال الواقعة من الرسول ﷺ هذا الأول، ألفاظ وممارسات -أفعال- هذه أمور ظاهرة، هذه الأمور الظاهرة الأقوال لها معانٍ، وإنما الألفاظ قوالب للمعاني، تؤدي معانيَ، فهناك معانٍ تدل عليها هذه الألفاظ، والأفعال لها مقاصد، يعني لم يفعل ذلك عبثاً، وإنما فعله لعلة، لمقصد.

قال: "كلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة"، عند العامة والخاصة، يعني: الأمور المستفيضة، كون النبي ﷺ مثلاً قال من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار[1]، مثلاً هذا منقول عن النبي ﷺ وهو في غاية الاستفاضة، ويعرفه أهل الاختصاص وغيرهم، أو أي مثال شئت مما تعتقد أنه متواتر عن النبي ﷺ عند العامة والخاصة من أقواله، وكذا من أفعاله، كون النبي ﷺ غزا غزوة بدر، وأحد، والخندق، والفتح، وما إلى ذلك، هذا متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة، يعني قد يعلمه العامة ولكنه ليس متواترًا عندهم، فقد يوجد من أقواله ﷺ وأفعاله ما يعرفه أهل الاختصاص بالتتبع أن ذلك من قبيل المتواتر عن النبي ﷺ فتجد أحدهم يقول: جمعت الحديث الفلاني من مائة طريق، بعضهم يقول: هذا الحديث رواه عن النبي ﷺ عشرون صحابيًّا مثلاً، مثل: حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، فقد ذكر أبو عبيدة القاسم بن سلام -رحمه الله- وغيره أن ذلك من قبيل المتواتر، لكن هل هذا متواتر عند العامة؟

الجواب: لا، لكنهم تتبعوه،أعني هؤلاء العلماء جمعوا المرويات ثم بعد ذلك حكموا بتواتره، هذا في أقواله ﷺ.

وهكذا فيما يتصل بأفعاله ما كان من هذا القبيل، المقصود هو يريد أن يصل إلى أمر قال: "ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس وإن كان عند غيره مجهولاً أو مظنوناً أو مكذوباً به، وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير والمنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم".

هو يشير إلى قضية سبق وأن ذكرتها، وهي أن مسألة القطع والعلم واليقين أنها قضية متفاوتة، فهناك أشياء مقررة لدى الخاص والعام، وهناك أشياء إنما يعرفها من كان من أهل الاختصاص،من عانى هذا الفن، ودرسه، ومحصه، وتمهر فيه فمثل هذا يقع عنده من الجزم والقطع ببعض الأحاديث أن النبي ﷺ قاله، أو ببعض المنقول من سنته أنه فعله، فيحصل له من اليقين ما لا يحصل لغيره من غير المختصين من أهل العلم، فضلاً عن غير أهل العلم من العوام.

وهذه قضية تكلم عليها الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- حينما تحدث عن مسألة ما يفيده الخبر من العلم وغيره، هل يقال: إن خبر الواحد يفيد العلم أو يفيد الظن؟.

وتكلم على أن مسألة العلم والظن أنها مسألة نسبية، وأن ذلك يختلف باختلاف الناس، فأهل العلم بالحديث يحصل لهم من الجزم واليقين في بعض الأحاديث ما لا يحصل لغيرهم؛ لكثرة الممارسة، وهذا كما يعرف أهل الصناعات التي تمهروا بها بما حصل لهم من الحذق يعرفون الزيف من الصحيح من الدنانير والدراهم، وهكذا من الأوراق النقدية، وقل مثل ذلك في غيره مما تحصل به الممارسة.

فيعرف أن هذه الدنانير زيوف، وهذا قد لا يعرفه غيره، لكن هذا بطول الممارسة حصل له هذا العلم الذي لا يقع لغيره، ومن ثَمّ فإن هؤلاء الذين يشككون في المنقول، ويقدمون عليه المعقول، وينازعون في كون ذلك يدل على العلم، وأنه من القطعيات، أو غير القطعيات يقول: هذا أمر يختلف، فهذا المنقول عن النبي ﷺ ألفاظ وأفعال، والألفاظ لها دلالات، والأفعال لها مقاصد، فيقول: أهل الخبرة بذلك -أهل الاختصاص- يعرفون المعاني التي قصدها النبي ﷺ، ويعرفون المقصود من أفعاله؛ لكثرة ممارساته.

والذي يقرأ لعالم كثيرًا مثل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ويتمهر في كتبه يعرف مقاصده بكلامه، ولا يكتفي بعبارة في مواضع قد تكون مشتبهة، فهو يعرف مقصوده، والمتكلم قد يقول كلاماً فيُحمل كلامه على غير مراده، وهذا كثير، وقد يُنسب لهذا العالم ما لم يقل، باعتبار ما يسبق الى ذهن القارئ أو السامع، ولكن من عرف هذا العالم وخبر كتبه فإنه يستطيع أن يحمل وينزل هذا الكلام على المعاني التي أرادها، والمقاصد التي يهدف إليها هذا الكاتب المؤلف، أو القائل.

فيقول: "هؤلاء أهل الاختصاص يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال، والأفعال، المأخوذة عن النبي ﷺ"، فهو يذكر هذا ضمن الوجه الرابع عشر من الرد على القانون الكلي للرازي، وحاصله أن أهل العناية بعلم الرسول ﷺ العالمين بالقرآن، وتفسير النبي ﷺ والصحابة والتابعين، يعني أهل المأثور -علماء الأثر- عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده ما لا يمكنهم دفعه من قلوبهم؛ ولهذا كانوا متفقين على ذلك من غير تواطؤ في كل بلد، يعرفون مقاصد النبي ﷺ؛ ولذلك اتفق أهل السنة على اختلاف أمصارهم كما نقل ذلك الصابوني، وكذلك السمعاني أنهم على اختلاف بلدانهم، وأعصارهم ومع ذلك حينما يتكلمون في أبواب الاعتقاد فهم يأخذون من مشكاة واحدة، فلا ترى في أقوالهم، وفي كلامهم تبايناً واختلافاً، ولذلك لم يحصل هذا التفرق عند أهل السنة والجماعة.

أما أهل الكلام فقد يكون هذا مع أبيه، كما مثلنا بأبي هاشم الجُبائي، وبعليٍّ الجُبائي في المعتزلة في بيت واحد ومع ذلك يختلفون، ويكفر بعضهم بعضاً، ويتحولون إلى فرقتين، وهذا حصل في الفرق والطوائف المختلفة من الخوارج والشيعة، وطوائف أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، أهل السنة لم يقع عندهم هذا الاختلاف، فنحن نقرأ كلام ابن عبد البر حافظ المغرب في القرن الخامس الهجري، ونقرأ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بلاد الشام، ونقرأ كلام ابن جرير الطبري في القرن الرابع الهجري، ونقرأ كلام الإمام أحمد في القرن الثالث الهجري إلى غير هؤلاء ونجد أنه في غاية الاتفاق، تجد بعض هؤلاء العلماء هناك في أقصى المغرب ما انتقل إلى المشرق، ولكنه تلقى من مشكاة النبوة، فجاءت أقوالهم متحدة، وعقائدهم متحدة، بخلاف أهل الكلام، فهؤلاء يجدون من المعاني والفهوم فيما يتصل بمقاصد الرسول ﷺ ومعاني كلامه ما لا يستطيعون دفعه، يعلمون أن النبي ﷺ أراده، فهذا أمر لا يمكن أن ينازع هؤلاء فيه، ويقال: إن هذه أمور ظنية، هي ظنية عند الجاهل، ولذلك فإن هذه إذا قورنت بما يقوله هؤلاء من الأمور المعقولة -التي هم أول من يختلف فيها- لا يمكن أن تؤثر هذا الأثر، وتُوجِد هذا اليقين الذي صار عند هؤلاء العلماء من أئمة السنة، رحمهم الله ورضي عنهم.

قال: المعارضون لكلام الله ورسوله ﷺ من المشهورين بالإسلام ينتهى أمرهم إلى التأويل أو التفويض.    

هذا هو الوجه الخامسعشر ذكر في ضمنه هذه القضية، "المعارضون لكلام الله ورسوله من المشهورين بالإسلام"، يعني: غير الملاحدة، من المشهورين بالإسلام كأهل الكلام، ومن شاكلهم.

يقول: ينتهي أمرهم إلى التأويل، أو التفويض، هم معارضون لاتباع المنقول، فماذا يصير حالهم إليه؟ إلى أي شيء ينتهون؟ هؤلاء من المحسوبين على المسلمين، يعني هؤلاء ينتسبون إلى الإسلام ليسوا من الملاحدة، إلى أي شيء ينتهون؟

يقول: "ينتهي أمرهم إلى التأويل أو التفويض"، التأويل أن يقولوا: إن هذا الظاهر المتبادر غير المراد، وإنما المراد معنى آخر، سواء حددوا هذا المعنى قالوا: معنى كذا كذا، يعني غير المراد، التأويل عند المتأخرين هو صرف الكلام من المعنى الراجح إلى المرجوح بقرينة، فيقولون في صفات الله : إن اليد المقصود بها القوة، أوّلوها إلى معنى آخر، وهذا خطأ، فما حملوها على ظاهرها، فهذا تأويل حُدد معه المعنى، أو الطائفة الأخرى من المؤولة الذين يؤولون يقولون: الظاهر غير مراد، ولكننا نتورع عن التحديد، يحتمل أن يكون المراد القوة، أو القدرة، أو النعمة، بالنسبة لليد مثلاً، فنحن لا نحدد؛ لئلا نتحكم على الله  هذا تورع الآن، وكلاهما يتفق على أن الظاهر غير مراد، فهذا حال أهل الكلام، عامة طوائف أهل الكلام بهذه الطريقة.

أما أهل التفويض فهم أيضاً منهم من يقول: إن هذه الظواهر قد تكون مرادة، وقد لا تكون مرادة، فالله أعلم، ومنهم من يوغل ويغلو، ويقول: نحن لا نفهم منها شيئاً، ومنهم من يقول: يُفهم منها معنى ظاهر، ويفهم لها معنى آخر وهو المؤول، ولكننا لا نعلم هل المراد الظاهر أو المؤول، فلا نؤول، بل نفوض.

والكثير من المتكلمين المتأخرين القائلين بأن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم، منهم من يقصد سلفهم؛ لأن الغالب على المتقدمين من أهل الكلام التفويض -تفويض المؤولة- يقول: الظاهر غير مراد، ولا نحدد معنى بعينه، فيقولون: هذا أسلم، يقصدون سلفهم، الغالب على المتقدمين من أهل الكلام التفويض بهذا المعنى.

وقد يريد به بعضهم أن السلف فوضوا معاني هذه الصفات، وأنهم ما فهموها، وما عرفوها، وما تكلموا فيها، وأنهم خوطبوا بأمور محتملة، مجملة، تحتمل الحق والباطل فلم يتطرقوا لها، فيقولون: ترك ذلك أسلم، بعضهم هكذا يقصد سلف الأمة، فنسبوا الصحابة خيار الأمة إلى الجهل بأشرف الأشياء، ونسبوا الشارع إلى الإيهام والإبهام والإجمال في أشرف الأبواب وأعظمها، الذي جاءت الرسل -عليهم الصلاة والسلام- داعين إليه، وهو باب التوحيد، يقولون: جاءوا بأشياء لا يؤخذ منها حق ولا باطل، تحتمل الحق والباطل، فلجئوا إلى هذه التحريفات.

فهؤلاء المعارضون للنصوص يدورون بين هذا وهذا، إما أن يقولوا: نحن نؤول غير المراد، أو يقولوا: نحن نفوض، لا ندري هل الظاهر مراد أو غير مراد، لا ندخل في هذا، وهؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام.

والذين لا ينتسبون إلى الإسلام وهم أهل التخييل، -نسأل الله العافية- مثل: طوائف الباطنية الذين قالوا: للدين ظاهر وباطن، وضلوا ضلالاً عظيماً وجاءوا بكفر واضح وصريح، وقالوا: هذه الظواهر هي فقط من أجل التقريب للعامة، وإلا فإنها رموز، وإشارات، ولم يقف هؤلاء عند أبواب الصفات مثلاً بل أجروا ذلك في أمور المعاد، بل حتى الشعائر التعبدية، فقالوا: الصفا يرمز إلى كذا، والحج يرمز إلى كذا، والعمرة ترمز إلى كذا، والغسل من الجنابة يرمز إلى كذا، والصيام يرمز إلى كذا، والجنة ترمز إلى كذا، والنار ترمز إلى كذا، وقالوا: هذه الظواهر غير مرادة، وإنما يعرفها أهل الحقيقة، نسأل الله العافية.

ويقولون: إن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أوهموا، أو خيلوا هذه الأمور التي لا حقيقة لها، هؤلاء ملاحدة وزنادقة، وليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، أو الثلاث والسبعين فرقة؛ ولهذا حكم العلماء على طوائف الباطنية بأنهم ليسوا من هذه الفرق التي قال عنها النبي ﷺ: تفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة[2]، قالوا: أولئك أهل القلبة، لكن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة أصلاً، فالصلاة عندهم رمز لمناجاة الولي فقط، والصيام كتم الأسرار، فهم لا يتجهون للقلبة، والغسل من الجنابة هو توبة من إفشاء السر، والحج قصد الولي، والعمرة زيارة الولي، والصفا عليٌّ، والمروة فاطمة، وجاءوا بأمور عظيمة من هذا القبيل، فالباطنية والقرامطة الذين يقولون: الدين له ظاهر وباطن، وأهل الحقيقة هم أهل الباطن، والعامة والجمهور هم أهل الظاهر، -قبحهم الله- فالغلاة منهم ليسوا من المسلمين أصلاً، فهو يتكلم عن الذين انتهى أمرهم الى التأويل والتفويض، يعني طوائف المتكلمين ومن شاكلهم.

وقال -رحمه الله-: والتأويل المقبول هو ما دل على مراد المتكلم، فإن لم يكن التأويل كذلك كان من باب التحريف، والإلحاد لا من باب التفسير، وبيان المراد.

وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه ومعرفته.

هذا الكلام تابع لما قبله مع شيء من الاختصار، فالشيخ -رحمه الله- لما ذكر أن حال هؤلاء ينتهي إلى التأويل أو التفويض؛ من أجل أن لا يحملوا النصوص على ظواهرها؛ لأن أمامهم النص الآن وهم يتبعون العقل، فالنص ماذا يُفعل به؟ قالوا: كل نص يعارض العقل فهو مؤول، أو نفوض معناه، نقول: الله أعلم بالمراد به، ولكن نأخذ بما دل عليه العقل.

فهنا شيخ الإسلام يناقشهم بجملة أمور، منها: أن التأويل المقبول هو ما دل على مراد المتكلم، وأن التأويلات التي يذكرونها هم لا يُعلم أن النبي ﷺ أرادها، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول ﷺ يقول: المسألة ليست مجرد قدرة على صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى آخر بمجرد احتمال اللفظ، بل إن التأويل الصحيح هو ما دل على مراد المتكلم، لابد من مراعاة هذا؛ لأن الألفاظ لها معانٍ -كما سبق- والأفعال لها مقاصد، فلابد من معرفة معاني كلام النبي ﷺ ومقاصده في أفعاله.

فالمسألة ليست مجرد احتمال يلوح فيُصرف المعنى له، فهذا قد لا يعجز عنه أحد، لكن هل نكون بذلك قد حققنا أو وقفنا أو وصلنا إلى المعنى المراد؟ هذا أمر لابد منه.

فهو يقول: فإن لم يكن التأويل كذلك، أي: لم يكن مقصود المتأول معرفة مراد المتكلم، وإنما بما يحتمله في الجملة -يعني في كلام من تكلم بمثله من العرب، الاحتمالات التي ترد على الكلام- فإن مثل هذا من قبيل التحريف والإلحاد لا من باب التفسير وبيان المراد، وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله، رد على الذين قالوا بالتأويل قال: التأويل الصحيح هو ما كان فيه حمل الكلام على مراد المتكلم، وتأويلات هؤلاء أبعد ما تكون عن مراد المتكلم.

وأما التفويض فيرد عليهم، يقول: "الله أمرنا أن نتدبر كلامه وأخبرنا أنه أنزله: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195]، وأخبرنا أنه جعله هادياً: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]"، وأعظم الأبواب التي يهدي إليها هي باب التوحيد والإيمان، والاعتقاد، وصفات المعبود  أن نعرفه، وأن نوحده، فكيف يكون بهذه المثابة؟

يقول: كيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله، يقال: فوِّضْ وانتهى، هذا لا يمكن، ثم احتج على الطائفتين: بأنه يمتنع أن يكون ظاهر الخطاب الذي أراد به الشارع هدايتنا، أن يكون كفراً وضلالاً كما يقولون، يقول بعضهم: "الأخذ بظواهر الكتاب والسنة -بظواهر النصوص- أصل من أصول الكفر"، كيف تكون ظواهر هذا الكتاب الذي جاء للهداية كفراً؟ تعالى الله عما يقولون، وتنزه وتقدس كتابه.

ثم يرد على المفوضة يقول: كيف يُتصور أنه لم يُرَد منا أن نعرف لا الظاهر ولا الباطن، فهذا أمر لا يكون، كأنه خاطبنا بطلاسم، وأمور مبهمة، وألغاز، أو بلغة أخرى لا نفهمها، هذا رد على أهل التفويض.

وقال -رحمه الله-: وحقيقة قول الطائفتين أن المخاطِب لنا لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً، أو نفهم منه ما لا دليل عليه فيه، وهذا مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد، وبهذا احتج عليهم زنادقة الفلاسفة، وألزموهم بطرد هذا في المعاد وغيره، فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم.

الكلام الأول قد مضى الكلام والتعليق عليه ضمن ما قبله، أما احتجاج زنادقة الفلاسفة فكما قلنا في كلام أصحاب التصوف الفلسفي والملاحدة من الباطنية، أصحاب التصوف الفلسفي: إذا نظرت إلى كلامهم في التفسير -معاني القرآن- تجد أنهم يذكرون هذه الأشياء التي لا تخطر على بال، مثل ما قلنا لكم: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة: 158] الصفا عليٌّ، والمروة فاطمة، هؤلاء زنادقة، هؤلاء أصحاب التصوف الفلسفي، وطوائف الباطنية.

وهكذا من تأثر بهم من بعض الطوائف وإن لم يبلغوا مبلغهم يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، قالوا: عائشة، هذا يقوله بعض الرافضة -قبحهم الله-  

وهكذا قول بعض الصوفية الذين اشتغلوا بما يسمى بالتفسير الإشاري بالنسبة لأهل التصوف العملي الذي هو عبارة عن الزهد إلى آخره، فأرادوا -كما يقال- أن يلمحوا من ظواهر النصوص معانيَ يقررونها، ويشتغلون بها ويدعون إليها، مع أن النصوص ما سيقت لهذا، وهم يقولون: نحن نؤمن بظاهر النص، ولا نقول: هذا تفسير، ولكن نقول: من باب الشيء بالشيء يذكر، هذا الذي يسمونه بالتفسير الإشاري وهو نوعان: نوع عند أرباب التصوف العملي، يعني السلوك، مثل: كلام الجنيد، وكلام من كان على شاكلته، ونوع عند أصحاب التصوف الفلسفي مثل: ابن سبعين، وابن الفارض، والحلاج، والتلمساني، وأمثال هؤلاء، هؤلاء ملاحدة، زنادقة.

فأصحاب التصوف الإشاري في الأمور العملية يقولون في: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] هي النفس تذبح بسكين الطاعة.

لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ [البقرة: 68]، قالوا: ليس في شرخ الشباب ولا في سن الكهولة والضعف، هذا الصوفي، عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة: 68].

وحينما قال: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة: 69]، قالوا: صفرة أصحاب الرياضة النفسية، التصوف والعبادة، صفرة عبادة، وليست صفرة مرض.

لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ [البقرة:71]، قالوا: هذا الصوفي ليس بسخّاب في الأسواق، وإنما هو خلوة وعبادة.

هذا عبث وتحريف، ولهذا قال أهل العلم كابن الصلاح وغيره: إن اعتقدوا أن هذا ظاهر القرآن فإن ذلك يكون كفراً، ولكن من يعتذر لهم يقول: إنهم يقولون: نؤمن بالمعاني الظاهرة، وليس هذا معاني القرآن الظاهرة، لكن هذا من باب الشيء بالشيء يذكر، ويقولون: إن تفسيرهم -هذا المنحرف- من قبيل المعنى الذي يلمحه الصوفي وينقدح في ذهنه عندما يسمع الكلمة، أو الآية، أو الحديث؛ لأن هناك تفسيرًا إشاريًّا يتعلق بالأحاديث.

أما الملاحدة فهؤلاء -كما سبق- يقولون في: يَخْرُجُ مِنْهمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22] الحسن والحسين، وخذ من هذا ما شئت، كلام على أمور يحتاج أحياناً إلى تمرس في معرفة كلام الفلاسفة حتى يُشرح التفسير الذي قالوه، يعني الطائفة الأولى مساكين، يتكلمون كلامًا مفهومًا لكن لا تدل عليه الظواهر، يزعمون أنه ينقدح في نفس الصوفي، وهو تحريف.

وأشد من هؤلاء أولئك الذين يقولون: الظواهر غير مرادة، والمراد هذه الباطنة التي يعرفها أهل الحقيقة، فهؤلاء في الغالب تجد كلامهم في غاية العسر، وعليه صبغة فلسفية، فيحتاج إلى شرح وبيان، وما إلى ذلك.

فهذا هو المراد، فاحتجوا على طوائف الكلام، قالوا: أنتم تؤولون الصفات، وتقولون: الظاهر غير مراد، ونحن أيضاً سنقول: المعاد غير مراد، الجنة الرمز إلى كذا، والنار والعبادات هذه التكاليف كلها رموز، ليس المراد منها الظاهر، فالصلاة رمز لشيء آخر، فما هناك صلاة، ولا صوم، ولا حج، ولا زكاة، ولا شيء أبداً، ولا غسل جنابة، طوائف الباطنية، خذ ما شئت من المسميات: النصيرية، الإسماعيلية، طوائف البهرة وما أشبه ذلك من الطوائف التي تتشعب من بعض هذه الفرق الباطنية.

قال -رحمه الله-: ما هو مطلق كليٌّ في أذهان الناس لا يوجد إلا معيناً مشخصاً مخصوصاً متميزاً في الأعيان، وإنما سمي كليًّا؛ لكونه في الذهن كليًّا، وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلاً.

وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم، فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه، فيحتاج أن يفهم في كل موضع يُحتاج إليه فيه، وبسبب الغلط فيه ضل طوائف من الناس حتى في وجود الرب.

هذا ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في ضمن الوجه السابع عشر، في كون المعارضين للكتاب والسنة بما يسمونه عقليات إنما يبنون أمرهم على أقوال مشتبهة مجملة، تحتمل معانيَ متعددة، ثم بدأ يتطرق لهذه القضايا الملبسة المحتملة التي يحصل بها لبس الحق بالباطل فيما يدندنون حوله، ويشتغلون به، وجرّه الكلام إلى التطرق إلى عدد من المسائل، هل الأمر بشيء أمر بلوازمه أو لا؟

 ثم بدأ يفصل فيها، وتجدون مثل هذه القضايا في كتب أصول الفقه، وكما قلنا في بعض المناسبات: إن علم أصول الفقه سُرق من أهل السنة من بعد الشافعي -رحمه الله- سرقه أهل الكلام، فأكثر الذين ألفوا في أصول الفقه كانوا على طريقة المتكلمين من المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، وهو بحاجة إلى تجديد، وتخليص من مثل هذه القضايا الكلامية: هل الأمر بالشيء أمر بلوازمه مثلاً؟ هل هو أمر بضده؟ ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب، أو يقال: ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب؟.   

كل هذا من الجدل الذي تطرقوا له، والواقع أنه يحتاج إلى شيء من التفصيل، فيه تفصيل، والعبارات محتملة، ومبهمة، أو مجملة أحياناً، تحتمل حقًّا وباطلاً، وجلس الشيخ -رحمه الله- يفصل في هذه القضايا، من هذه الأمور الملبسة التي يتطرقون لها، وكانت سبباً في ضلال كثير منهم هي مسألة الوجود، يقول: ما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معينًا مشخصًا، مسألة الوجود المطلق والوجود المعين، أو ما كان أخص من ذلك.

أقرِّب لكم هذه القضية: الوجود إمّا ذهني، لمّا نقول: كلمة وجود، لما نقول هذه الكلمة الذهن يعرف معنى وجود مطلق، لا يختص بوجود الإنسان أو وجود الحيوان، أو وجود النبات، أو وجود الجماد، أو وجود الرب -تبارك وتعالى- هذا اسمه الوجود المطلق هذا لا يوجد إلا في الذهن، فعندنا وجود ذهني، وعندنا وجود خارجي، وهذا الوجود الخارجي لابد أن يكون معينًا، لا يمكن أن يكون مطلقاً، فنقول: بحسب الإضافة، وجود زيد, وجود زيد يليق به، وجود الله يليق به، هذا لابد أن يكون متشخصًا إذا أضيف إلى شيء في الخارج، هذا يسمى الوجود الخارجي، وهناك وجود ذكري يعني باللسان، وهناك وجود رسمي يعني بالكتابة، هذه أربعة أقسام، والذي عليه الكلام هو الوجود الذهني، والوجود الخارجي، فهم لم يفرقوا هذا التفريق فوقعوا في خبط عشواء.  

وكلمة الحياة لها وجود في الذهن مطلق، وحينما نقول: الوجه، نعرف معنى الوجه، وحينما نقول: اليد، نعرف معنى اليد، فهذا وجود مطلق في الذهن، فإذا قلت: يد الله، وجه الله، سمع الله، بصر الله، فهذا لابد أن يكون معيناً، قلت: وجه زيد، وجه الإنسان، يد الإنسان، يد زيد، فيما هو أخص، فهنا يكون معيناً في الخارج، لا يكون مطلقاً، فالوجود المطلق لا يكون إلا في الذهن. 

ولما نقول مثلاً: كتاب، له وجود ذهني مطلق يصدق على أي شيء اسمه كتاب، ولما نقول: كتاب الأعمال هذا يكون معينًا، هل كتاب الأعمال الذي تكتب فيه الملائكة مثل الكتاب الذي بيدك؟ لا.

لكن لما أقول: كتاب زيد، غير كتاب عمرو، غير لما نقول: اللوح المحفوظ، لكن كلمة كتاب غير قلم، لما نقول: قلم، هذه الكلمة لها وجود مطلق، أين الوجود المطلق؟ في الذهن فقط، قلم، لكن القلم الذي عندك صار مشخصًا الآن، القلم الذي مع (س) من الناس من نوع معين، لونه معين، غير القلم الذي عند غيره، هذا معه قلم ثانٍ، صار متشخصًا، وعندما نقول: القلم الذي أمره الله بالكتابة إنّ أولَّ ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة[3]، هل هو مثل القلم الذي بيدك؟ لا، فهو قلم معين، فإذا أضفناه إلى شيء في الخارج لا يكون وجوده مطلقاً، أهل الكلام ما عندهم هذا التفصيل فوقعوا في إشكالات، ونفوا أوصاف الكمال لله -تبارك وتعالى- باعتبار أنه يوجد قدر مشترك، فحينما نقول: يد، المخلوق يقال: له يد، والله يقال: له يد، إذن هناك تشابه.

يقال لهم: لا، هذا القدر من المشابهة هو في الذهن، فحينما نقول: كلمة يد، لكن يد الفأس غير يد الباب، ورأس الإنسان غير رأس الطريق، غير رأس الحيوان، رأس الجمل غير رأس الضأن، فهذا الذي في الخارج لابد أن يكون معيناً، لمّا ما فرقوا وقع عندهم إشكالات في إثبات الصفات وقالوا: هذا يقتضي مشابهة الله المخلوقين، نقول لهم: لا، هذا لا يقتضي مشابهة، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ولهذا لو أردنا التدقيق في لفظ المشابهة؛ فإن الأدق أن يعبر بنفي المماثلة؛ لأن هذا الذي ورد في الكتاب والسنة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ لأن كلمة المشابهة فيها إجمال، ففي الأذهان يوجد قدر من المشابهة؛ لأن اليد غير الرأس، العلم غير الكلام، فإذا قلنا: علم نحن نعرف أن العلم غير اليد، غير الوجه، علم، لما نقول: علم الله، وعلم زيد، هنا يحصل الافتراقلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، علم زيد ليس كعلم الله، ومن ثَمّ علم زيد يليق به، وعلم الله يليق به، فهذا الوجود المطلق لا يوجد إلا في الذهن، فإذا حُدد وأضيف في الخارج فيكون لكل واحد ما يليق به، ومن ثَمّ تنتفي المماثلة، فإذا كان هذا التفاوت موجودًا بين المخلوقين فتقول: يد الشاة، ويد الجمل، ويد الفيل، ويد الإنسان، ويد الباب، هذه بينها تفاوت عظيم، فإذا كان هذا التفاوت بين المخلوقات، فكيف يكون الحال بين الخالق والمخلوق؟!

فعندما ينفون صفة اليد، الصفات الذاتية غير المعنوية، وبعض الصفات الفعلية فيردّ عليهم فيقول لهم: هذا القدر من المشابهة موجود في الأذهان فقط، فتتكرر الحاجة إليه، يقول: فلهذا يتعدى ذلك ذكره في كلامنا، ويحتاج أن يفهم في كل موضوع بحسبه.

يقول: بسبب الغلط به ضلت طوائف من الناس، حتى في وجود الرب، يعني جعلوه وجودًا مطلقًا، نقول لهم: هذا الوجود المطلق لا يوجد إلا في الذهن، بمعنى أنهم جردوه عن كل الصفات، لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت، ولا سمع، ولا بصر، ولا إرادة، ولا شيء، كل هذا -بزعمهم- فرارًا من التشبيه.

وقال -رحمه الله-: كل من تكلم بألفاظ لم تَرد في الكتاب والسنة نفيًا أو إثباتًا فإن كان في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب على أحد أن يجيب داعيًا إلا إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ ولو كان ذلك المعنى حقًّا.

هذا الكلام وما بعده يذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في بيان الموقف من الألفاظ المجملة، نحن قلنا: إن أهل الكلام هؤلاء، وأهل البدع يستعملون ألفاظًا مجملة، تحتمل حقًّا وباطلًا، مثل: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة، فإذا قيل لهم: الله متصف بالعلو، قالوا: هذا فيه إثبات الجهة لله، يقول لهم: الجهة لم ترد في الكتاب والسنة، فنحتاج إلى استفصال، ماذا تقصدون بالجهة؟ هل تقصدون فوق العالم؟

فهذا معنى صحيح، أو تقصدون جهة مخلوقة تحيط به ؟ فالله أعظم من أن يحيط به مخلوق، فهذا لفظ مجمل، فيستفصل في الألفاظ المجملة، فهو يقول: هذه الألفاظ المجملة إما أن يستفصل فيها، يعني نجاريهم، وإذا عبروا بهذه الألفاظ نقول لهم: ماذا تقصدون؟ هذه تحتمل معنيين، أي المعنيين تقصد؟

وإما أن نمتنع من موافقتهم أصلًا عليها، ونردّ ذلك تمامًا، ولا نتكلم به، يقول شيخ الإسلام: المشكلة في بعض المقامات قد يُنسب الشخص إلى العجز في المناظرة، فيضطر إلى شيء من هذا، يقول: وقد يكون المقام إذا تكلم احتجوا عليه وعلى غيره بذلك، وحملوه على المعنى الذي يريدون، واحتجوا بكلامه، وقالوا: هذا عبّر بالجهة بنفي الجهة، أو بإثبات الجهة، فيشغبون عليه، أو على غيره بسبب هذا، إذا وافقهم وعبر بمثل هذه الألفاظ، فيقول: إن مثل هذا يراعى فيه المصلحة بحسب المقام، ثم يذكر هذه التفاصيل، يقول: كل من تكلم بألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة نفيًا أو إثباتًا حسب المقام، إن كان في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزامهم به، يمكن أن يقال: لا يجب على أحد أن يجيب داعيًا إلى ما دعا إليه إلا ما دعا إليه النبي ﷺ ولو كان ذلك المعنى حقًّا، كما حصل في فتنة القول بخلق القرآن، فبدأ ابن أبي دؤاد ومن معه لما كانوا يناظرون الإمام أحمد -رحمه الله- فكان في بعض الإيرادات التي أوردها بعضهم عليه كان يقول: هذا لم يرد في الكتاب، ولا في السنة، هاتوا دليلا من الكتاب أو من السنة، هنا هم في مقام دعوة يدعونه إلى هذا الشيء، يقول: هذا لم يرد، أعطونا دليلا، كيف تدعون إلى شيء لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ﷺ؟ يقول: هذا إذا كانوا يدعونك إلى هذا.

فهذا ضمن كلام طويل فيما يتصل بالألفاظ، واستعمال الألفاظ المجملة، والمحتملة، والمحدثة، هل تستعمل أو لا تستعمل؟ فيه كلام في الأصل من أراد أن يتوسع يجد فيه بسطاً كثيرًا.

قال -رحمه الله-: وإن كان المُناظِر معارضًا للشرع بما يذكره من هذه الألفاظ استُفسر عن مراده بذلك، فإن أراد معنى صحيحًا قُبل، وإن أراد باطلاً رُد، وإن اشتمل على حق وباطل قُبل ما فيه من الحق، ورُدّ الباطل.

الأول: في مقام الدعوة، فيقال له: نحن لا نوافقك، ولا نستجيب إلا لما دل عليه الكتاب والسنة، الثاني: هذا مناظر معارض للشرع، بما يذكره من هذه الألفاظ كأن ينفي العلو مثلاً، يجادل في هذه المسألة، فيقال له: هذه الجهة التي تتكلم فيها ماذا تقصد بها؟ إن كنت تقصد أنها جهة غير مخلوقة فوق العالم فهذا صحيح، الله متصف بالعلو، فهو فوق العالم، فوق السماوات العُلى، فوق عرشه، وإن كنت تقصد جهة مخلوقة فالله -تعالى- لا يحيط به مخلوق.

وقال -رحمه الله-: ويقال لمن لم يتقيد بالشريعة: إطلاق هذه الألفاظ نفيًا وإثباتًا بدعة، وفي كل من الإثبات والنفي تلبس، وإنما العصمة في إطلاق ألفاظ الشارع من الكتاب والسنة.

الذين يتقيدون بالشريعة يقال لهم: ماذا تقصدون؟ يريدون تنزيه الله بزعمهم، لكن من لا يتقيد بالشريعة يبين له موقف الشريعة من مثل هذه القضايا.

لا بأس أن أذكر مثالًا، أو بعض الأمثلة اليسيرة التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- في هذا المقام من مناظرات الإمام أحمد -رحمه الله- وتنوع الأجوبة التي أجاب بها في فتنة خلق القرآن، انظر مثلاً يقول هنا: لما ناظروه صار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم، فلما ذكروا حججهم في قولهم: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102]، يعني: أن القرآن مخلوق إلى آخره، أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم.

ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم، قال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟

ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى الملقب ببرغوث -وكان من أحذقهم بالكلام- ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلامًا غير مخلوق لزم أن يكون جسمًا -هذا كلام برغوث- فأجابه الإمام أحمد بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، يعني: الجسم بالنسبة لله -تبارك وتعالى- فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله، وأخبره أني أقول: هو أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فلا أقول: هو جسم، ولا ليس بجسم؛ لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، إنما الناس عليهم إجابة الرسول ﷺ فيما دعاهم إليه، وإجابة من دعاهم إلى ما دعاهم اليه النبي ﷺ لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع، إلى آخر ما ذكر، هذا في مناظرة الإمام -رحمه الله- وعلم الإمام أحمد وفقهه وسرعة بديهته.

وقال -رحمه الله-: نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لابد أن يكون مما بينه الرسول ﷺ إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله، فكيف يجوز أن يترك الرسول ﷺ أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس؟

ومن هنا يُعرف ضلال من ابتدع طريقًا، أو اعتقادًا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به، مع العلم بأن الرسول ﷺ لم يذكره، وهذا الأصل مما احتج به علماء السنة على من دعاهم إلى قول الجهمية وغيرهم.

هو ذكر هذا -رحمه الله- عند بيان ترك الألفاظ المبتدعة، وأن المعاني الصحيحة ثابتة في الكتاب والسنة، ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلى ما لم يبينه الله ورسوله ﷺ لم يكن الله قد أكمل للأمة الدين، ولا أتم عليهم النعمة، فكل ما يحتاجون من الهدايات في أصول دينهم لابد أن يكون مما بينه الرسول ﷺ.

إذن ما الحاجة إلى الألفاظ البدعية، والعبارات المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلاً؟ وعليه فالواجب حينما نتكلم ونقرر وننظر أن نتقيد بالألفاظ الشرعية، وسيأتي في كلامه -رحمه الله- استثناءات لهذا.

وقال -رحمه الله-: والإنسان في نظره مع نفسه، ومناظرته غيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم.

يعني: أنه يلزم هذا في الألفاظ والمعاني، ويتقيد بما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ فيَسْلم بذلك، لكن هؤلاء من أهل الكلام لم يتقيدوا بشيء، وجعلوا أذهانهم -كما يقولون- حرة، ولم يتوقفوا عند حد؛ ولذلك حصل في كلامهم من إساءة الأدب مع الله ما لا يخفى، وناقشوا كل شيء، وفي مقام المناظرات والمجادلات، نسأل الله العافية.

وقال -رحمه الله-: وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضاً فعليه أن يعتصم أيضاً بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول ﷺ بالأقيسة العقلية، والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة، فإن الله ضرب الأمثال في كتابه، وبين بالبراهين العقلية توحيده، وصدْق رسله، وأمر المعاد وغير ذلك من أصول الدين، وأجاب عن معارضة المشركين، كما قال تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: 33]، وكذلك كان الرسول ﷺ في مخاطباته.

في مقام المناظرة، مقام الدعوة، مقام التقرير، كل ذلك يتقيد بما جاء في الكتاب والسنة، هذا من حيث الاختيار، ويقول: إن دلائل الكتاب والسنة فيها من الأقيسة العقلية، والأمثال المضروبة، يعني: أنها لا تخلو من القضايا والحجج العقلية، ولهذا يحتج عليهم بأمور تُلزمهم كما ذكرت في كلام الشاطبي -رحمه الله- أن هذا النوع من الاستدلال يصلح للمُوالف والمخالف، يعني حينما يحتج عليهم مثلًا في قضية البعث بأنه هو الذي خلقهم أول مرة، وهو قادر على أن يعيدهم ثانية، هذه حجة عقلية، وهكذا حينما يحتج عليهم بإخراج النبات، أو حينما يحتج بأنه -تبارك وتعالى- يُخرج من الشجر الأخضر ناراً، يعني: يخرج الشيء من ضده، هذا دليل على عظيم قدرته، وهكذا النبي ﷺ في مخاطباته، فلما أخبرهم النبي ﷺ بأنه ما منهم إلا وسيخلو به ربه... إلى آخره، فسألوه عن هذا -يعني كثرة الناس- فمثّل لهم النبي ﷺ ذلك بالقمر، وكذا في الرؤية: إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته[4]، لا يحتاجون إلى تزاحم، وتضاغط، ولا يحصل لهم بسبب ذلك شيء من الضيق، فبين لهم هذا المعنى الذي يعقلونه ويشاهدونه، والله أعلم.

وقال -رحمه الله-: وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص؛ فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته، وبيان بطلانها بإبطال الواضحات، والاستفصال عن المشتبهات من الألفاظ، واستفسار صاحبها ماذا يريد بها؟

فإن أراد بها حقًّا قُبل، أو باطلاً رُدّ، وإن أراد حقًّا وباطلاً قُبل الحق ورُدّ الباطل.

هذا في مقام الاحتجاج والمناظرة للمخالفين الذين يحتجون بمثل هذه الألفاظ والعبارات، فيكون الموقف أنه يستفصل عن ذلك لكن لا يعبر به ابتداءً واختيارًا.

وقال -رحمه الله-: والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:

نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان مدحًا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذمًّا استحق الذم، وإن أثبت شيئًا وجب إثباته، وإن نفي شيئًا وجب نفيه؛ لأن كلام الله حق، وكلام رسوله ﷺ حق، وكلام أهل الإجماع حق، وذلك كما ذكر الله في كتابه من أسمائه وصفاته وأفعاله، أو ذكره رسوله ﷺ ومن دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذمومًا، كاسم الكافر، والمنافق الملحد، ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في الشرع كان محمودًا، كاسم المؤمن، والتقي، والصدِّيق، ونحو ذلك.

وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها إلا أن يُبيَّن أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تُعارَض بها النصوص هي من هذا الضرب، كلفظ الجسم، والحيز، والجهة، والجوهر، والعرض، ونحوها.

بالنسبة للقسم الأول الوارد في الكتاب والسنة هذا واضح لا إشكال فيه، وأن مضامينه تُثبَت، وتُقر، ونؤمن بها، وننقاد لها، ونعبّر بها -بهذه الألفاظ- ويبقى النوع الثاني وهو ما لم يرد في الكتاب، ولا في السنة، فهذا يقول: لا يعلق فيه المدح والذم، لكن إذا كان موافقًا فهذا لا إشكال فيه، أما إذا كان مجملًا يحتمل الحق والباطل، أو كان باطلًا محضًا فإن الباطل المحض يُرد، وما كان محتملاً يُبين، ويستفصل فيه، فيُقبل ما فيه من حق، ويُرد الباطل، مع أننا لا نُقر بهذه الألفاظ، ولا نستعملها، هذا الموقف من هذه الألفاظ.

فمن هذه الألفاظ التي تحتمل حقًّا وباطلًا، ويجادلون فيها، وترد كثيرًا في كلامهم: الجوهر، والعرض، والحيز، والجهة، ويذكر في مقامات أخرى أن مثل هذه الألفاظ التي يستعملونها كثيرًا، يقول: كثير منها مترجم من لغات اليونان، والهند، والفرس، وما إلى ذلك؛ لأنه ترجمت كتب الفلسفة التي عند أولئك الأقوام، فترجمت هذه الألفاظ، فهذه الألفاظ لم ترد في الكتاب، ولا في السنة، ونقلت على عواهنها، فينبغي أن يفصل فيها، وأن يُعرف المراد، وما كان باطلًا رُد، وما كان حقًّا قُبل، وما كان محتملًا فُصل.

وذكر الجسم والحيز والجهة إلى آخره، كما يقولون مثلاً في الكلام على الجسم، وشيخ الإسلام أطال في الكلام على هذه القضايا جدًّا، فهم يقولون مثلاً: إثبات الصفات الذاتية غير المعنوية فيه إثبات الجسمية لله  أنه جسم من الأجسام، نقول: هذه لم ترد في الكتاب، ولا في السنة كما سبق في كلام الإمام أحمد -رحمه الله-.

وهكذا مسألة الحيز في الكلام على قضية إثبات العلو، قول النبي ﷺ للجارية: أين الله؟[5]، قالت: في السماء، وأشارت إلى أعلى.

وهكذا الجهة، والجوهر، والعرض، الجوهر يعني الأمور الذاتية غير الطارئة.

وأما العرض فهو الشيء الذي يحصل زمانًا دون زمان، مثل: الرضا والغضب والضحك، وأشياء يعبرون بها، وبعضهم يجعلون الصفات من هذا القبيل، ومن ثَمّ يقولون: إثبات هذه الصفة يقتضي كذا، وإثبات هذه الصفة يقتضي كذا، وتسلطوا على هذه الصفات العظيمة فنفوها فوقعوا في شيء من التكذيب للنصوص، والجرأة على الله  يعني تصور أناسًا لا يثبتون أن الله رحيم أصلًا، أناس يعبدون ربًّا لا يعتقدون أنه رحيم، ولا يعتقدون أنه يرضى، أو أنه يضحك، أو أنه يُحِب، أو أنه يُحَب، وما إلى ذلك، فهؤلاء كيف يكون نظرهم للمعبود ؟

وقال -رحمه الله-: لا كفر بمخالفة العقليات مهما كانت، وإنما يكون الكفر بتكذيب الرسول ﷺ فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول ﷺ.

هذا الكلام رد به شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على من يقول من أهل الكلام: إن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم الكلام الذي يُعرف بمجرد العقل، وسبق الكلام على أصول الدين عندهم، وسؤال السائل الذي سأل شيخ الإسلام في مصر عن أصول الدين هذه هل تكلم فيها النبي ﷺ أو لم يتكلم؟ وهل يجب معرفتها على التفصيل أو لا؟ وهل يلحقه حرج أو لا؟

شيخ الإسلام يقول: لا يكفر بكونه لا يعرف هذه الأمور العقلية التي جعلوها أصول دين، أو خالفها، وإنما يكون الكفر متعلقًا بما جاء به الرسول ﷺ فهؤلاء أصّلوا أصولًا فوقعوا في إشكالات، أصّلوا أصولًا بدعية، جعلوها أصول الدين هذه، ثم أيضًا أنكروا ما خالفها مما جاءت به النصوص، ثم كفّروا من خالفها، فجاءوا بمثل هذه العظائم المتتابعة بسبب هذه الأصول التي ابتدعوها وأصّلوها.

وقال -رحمه الله-: فلا إيمان مع تكذيب الرسول ﷺ ومعاداته، ولا كفر مع تصديقه وطاعته.

هذا تابع للكلام الذي قبله، وهكذا الذي بعده تابع للذي قبله.

وقال -رحمه الله-: وأهل البدع يبتدعون بدعًا تخالف الكتاب والسنة، ويكفرون من خالفهم.

ومن أراد أن يناظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح فلا يلتزم لفظًا بدعيًّا، ولا يخالف دليلاً شرعيًّا، ولا عقليًّا، فإنه يسلك طريق أهل السنة والحديث، والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق النفي والإثبات في الألفاظ التي لا توجد في الكتاب والسنة، بل يستفصلون ويستفسرون كما تقدم.

وهذا يفيدنا في ما نقرره، وما نقوله، اليوم الفتنة في بعض الألفاظ المجملة التي أخذت من عبارات مترجمة فيما يتداوله من يسمون أنفسهم بالمثقفين أحيانًا عبارات مجملة، فيرددونها، ويكتبونها، ويتناقلونها، وهي عبارات في الواقع جوفاء، ولو نظر الإنسان في معانيها ودلالاتها لوجد أنها إمّا أن تحمل معانٍ باطلة مخالفة، وإمّا أن تحمل معانٍ بين بين، يعني محتملة، وفي كثير من الأحيان لا يدرون ما تحتها، فاللائق بالإنسان حينما يقرر المعاني أن يقرر ذلك بألفاظ صحيحة غير محتملة، وهذا حتى في الشعارات التي يستعملها أحيانًا، أو في الرسائل التي نرسلها عبر الوسائط، أو غير ذلك.

أحيانًا كثيرة يسأل الناس هذه العبارة محتملة أو لا؟ هذه نريد أن نجعلها شعارًا لمخيم، أن نجعلها شعارًا لملتقى، أن نجعلها شعارًا لجمعية، وإذا نظرت إلى هذه العبارة تجد أنها محتملة، مجملة تحتاج إلى تفصيل، تحتاج إلى ورشة، فيقال لهم: هذه إن كنتم تقصدون بها كذا فهي كذا، وإن كنتم تقصدون بها كذا فهي كذا، ثم يحصل عليهم شغب بسبب هذا، فيأتيهم من يقول: هذه اللفظة التي جعلتموها شعارًا تدل على معنى باطل، فكيف تستعملونها؟ يقولون: نحن نريد بها كذا، غير المعنى الذي فهمته.

نقول: من البداية تقيدوا بالألفاظ الصحيحة غير المحتملة، وتجنبوا الألفاظ المجملة المحتملة، وهذا كثير في كلام الناس وحتى بعض الأشياء التي يزعمون أو يرون أنها من نتاج أفكارهم من الحِكم والجمل المعبرة التي يريدون إرسالها للآخرين ونشرها، فتجد العبارة أحيانًا تحتاج إلى مناقشة، ماذا تقصد؟ وهذه تحتمل كذا، وما تحتمل كذا.

وقال -رحمه الله-: أهل البدع من الجهمية ونحوهم في تحريفهم لنصوص الصفات ارتكبوا أربع عظائم: ردهم لنصوص الأنبياء، وردهم لما يوافق ذلك من عقول العقلاء، وجعل ما خالف ذلك من أقوالهم المجملة الباطلة هي أصول الدين، وتكفيرهم، أو تفسيقهم، أو تخطئتهم لمن خالف هذه الأقوال المبتدعة المخالفة للعقل والنقل.

هذه الأحوال الأربعة التي ذكرها هي التي أشرت إليها قبل قليل، وهكذا من أعرض عن الحق واشتغل بالباطل فلابد أن يكون هذا على حساب الحق.

وقال -رحمه الله-: وأما أهل العلم والإيمان فهم على نقيض هذه الحال، يجعلون كلام الله ورسوله ﷺ هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقًّا وما خالفه كان باطلًا، ومن كان قصده متابعته من المؤمنين، و أخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ فيه وسعه غفر الله له خطأه، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية، أو المسائل العملية.

هذا الكلام الذي عليه النور، اتباع الكتاب والسنة والإعراض عما خالف ذلك، ومن وقع منه مخالفة بسبب اجتهاد لم يكن منه تفريط بل بذل وسعه فهو معذور سواء كان في المسائل العلمية قضايا الاعتقاد، أو كان في المسائل العملية التي هي الفقه والأحكام، فهذا كلام أهل السنة، ولذلك الذين يشغبون اليوم ويتهمون أهل السنة ويلمزونهم بألقاب، كما كانوا في عصر شيخ الإسلام يقولون: تيمية، والآن يقولون: وهابية، وما إلى ذلك، والحملة الكبيرة على السلفيين، وهم أهل السنة في مصر، وغيرها، من أكثر الأشياء التي يشغبون بها عليهم يقولون: إنهم يكفرون الناس، وكثيرًا ما كان هذا الكلام يوجه للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وإلى تلامذته، وأجوبتهم في هذا كثيرة ومعروفة.

وكنت أتمنى أن يجمع أحد كلام الطوائف من أهل الكلام وغيرهم في مسألة التكفير، فسيجد ذلك عند هذه الطوائف من أهل الكلام من الأشعرية، والماتريدية فضلًا عن المعتزلة فضلًا عن الرافضة، سيجد شيئًا هائلًا عظيمًا لا يخطر على بال، يكفرون من خالفهم في هذه الأمور العقلية التي لم ترد في الكتاب، ولا في السنة، فتجد كل طوائف هؤلاء يكفر بعضها بعضًا.

وأهل السنة لا يوجد بينهم هذا إطلاقًا، وهم أكثر الناس عذراً، ولكن للأسف، وقد جُمع من كلام الرافضة من كتبهم وما أشبه ذلك أشياء من هذا القبيل من قضايا التكفير، تكفير الرافضة لغيرهم، وهذا جيد، لكن لو جُمع كلام الأشاعرة، وكلام الماتريدية على حدة، وكلام المعتزلة يجمع منه مجلدات، وإذا قورن بأصول أهل السنة، وما عند أهل السنة فإنك تجد بونًا شاسعاً، فأرحم الناس بالناس، وأبعد الناس عن رميهم بالتكفير، هم أهل السنة والجماعة، وإنما يقع ذلك كثيرًا لمن خالفهم، إما بضلالات وأصول أصلها كأهل الكلام، وإما بجهالات أعرض بها عما جاء في نصوص الكتاب والسنة، وما دلت عليه هذه النصوص، وانطلق لسانه بمثل هذه القضايا، وقد يكون ذلك ممن ينتسب إلى السنة، ولكنه لا يعرف، لا بصر له في هذا الباب، فيكون بسبب جهله يقع في مثل هذه الأمور.

لكن المقصود طوائف أهل الكلام، نحن لا نقصد الجهلة الذين يسرعون في هذه القضايا، وينطلقون فيها، إنما نتكلم عن الذين ينتسبون للعلم، ولهم مؤلفات من الماتريدية، والأشعرية، والمعتزلة فستجد في كلامهم ما لا يوصف، في أمور تتعجب منها، قضايا جزئية في أمور هي ترجع إلى قضايا عقلية، ومع ذلك يرمون من خالفهم بالكفر.

ومن كان من أهل الاختصاص ونظر في كتبهم عرف هذا، والله المستعان.

  1. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي ﷺ، برقم (107)، ومسلم في المقدمة، باب في التحذير من الكذب على رسول الله ﷺ، برقم (2).
  2. أخرجه ابن ماجه، أبواب الفتن، باب افتراق الأمم، برقم (3993)، وأحمد في المسند، برقم (12208)، وقال محققوه: "حديث صحيح بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف النميري: وهو زياد بن عبد الله"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2042).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم (4700)، والترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرضا بالقضاء، برقم (2155)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2018).
  4. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (554)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما، برقم (633).
  5. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، برقم (537).

مواد ذات صلة