الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «لك ما نويت يا يزيد..»
تاريخ النشر: ٣٠ / رجب / ١٤٢٣
التحميل: 5656
مرات الإستماع: 14300

لك ما نويت يا يزيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الأحاديث التي أوردها المصنف -رحمه الله- في باب الإخلاص وإحضار النية: حديث أبي يزيد معن بن يزيد بن الأخنس ، أي عنه وعن أبيه وعن جده؛ لأنهم صحابة، يقول: وهو وأبوه وجده صحابة، والصحابي من لقي النبي ﷺ مؤمناً به ومات على ذلك.

قال: كان أبي يزيدُ أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردتُ، فخاصمته إلى رسول الله ﷺ فقال: لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن[1]، أخرجه البخاري في صحيحه.

هذا الحديث فيه فوائد ومسائل مفيدة يحتاج الناس إلى معرفتها، فيزيد بن الأخنس أخرج دنانير ووضعها عند رجل في المسجد للصدقة، وهذا يدل على أن الإنسان يمكن أن يتوسط ويتوسل إلى أحد، أن يجعل واسطة بينه وبين المحتاجين الفقراء، ففي هذا إظهار لعمله أمام هذا الوسيط، وأن هذا لا يعارض الإخلاص، بل ربما كان أقرب إلى الإخلاص؛ لأن هذا المتصدق لربما أعطى عشرات فكلهم يشاهده، ولربما لحقهم حرج من ذلك، أن له يدًا عليهم، لكن الأدعى في الإخلاص أن لا يعرف من هو المتصدق، فإذا عرفه رجل واحد وأتمنه على هذه الصدقة فإن ذلك لربما يكون أقرب إلى إخفاء العمل، ثم إن هذا الإنسان الذي توسط بهذه الصدقة لا شك أنه يشترك في الأجر؛ بسبب إيصاله هذا المال من الغني إلى الفقراء، ومن فقه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في بعض رسائله إلى بعض تلامذته أنه كان يدعو لهذا الإنسان في بعض المرات؛ لأنه أرسل له بمال من الزكاة، أو من الصدقة ليوصله إلى المحتاجين، فكان يدعو له ويشكره على أن جعله وسيطًا في الخير، ومشاركًا له في هذا البر، فهذا أمر لا ينبغي للإنسان أن يأنف منه، والناس كانوا يعطون النبي ﷺ الصدقات وهو يوصلها إلى المحتاجين، والله يقول لنبيه ﷺ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة:103]، وكان ﷺ يدعو الناس دعاء عاماً للصدقة، وليس معنى هذا أنه يأتي إلى كل إنسان بعينه، ويقول له: يا فلان تصدق، فهذا قد يلحق الناسَ فيه حرج، ويستثقلون هذا الذي يتردد عليهم، ولذلك كان الإمام أحمد يكره هذا، ولا يحبذه لما سئل عنه، لكنه ليس بمحرم، والله يقول: وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:18] أي: يحض بعضكم بعضاً، فهذا أمر يؤجر عليه الإنسان.

يقول: أخرجَ دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد، وهذا يدل على أنه يجوز التصدق في المسجد، ويدل عليه أيضاً حديث أبي بكر حينما سأل النبيُّ ﷺ من تصدق اليوم؟، من أصبح صائماً؟ إلى آخره، فذكر أبو بكر أنه وجد فقيرًا في المسجد فأعطاه صدقة.

وليس معنى هذا أن الفقراء يقفون ويخطبون في المساجد، ويذكرون حاجتهم، فهذا أمر محرم لا يجوز، والمساجد لم تُبنَ لهذا، وينبغي أن يمنع هؤلاء لكن برفق؛ لأن الله يقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:10] فلا يجوز نهر السائل مهما كان، ولكن يمنعون برفق؛ لأن المساجد ما بنيت للمسألة، ولو أن الفقير جلس وسكت وتعرض للناس عند الباب فلا بأس به، بغض النظر عن حكم المسألة بالنسبة لهذا الفقير الذي يسأل تكثراً، أو الثلاثة الذين يحل لهم المسألة فقط، ليس الحديث عن هذا، بل الكلام هل يجوز التصدق في المسجد؟، هل يجوز لأحد أن يوزع الصدقات في المسجد؟، والدليل عليه هذا الحديث الذي أخرجه البخاري.

ولا شك أن الصدقة تعظم باعتبارات متعددة، باعتبار ما يقوم في قلب صاحبها من الإخبات، والوجل من الله، فيخاف أن لا تقبل منه، ويستحي من الله، ويستشعر أن هذا المال هو نعمة من الله ، فهو الذي أكرمه وأعانه على نفسه فأخرج هذه الصدقة، فيستحضر العبد هذه المعاني، ولكن أيضًا تعظم الصدقة إذا كان ذلك بحسب الحال حيث توجد الحاجة الشديدة، المسغبة، فإذا أخرج الإنسان الصدقة في وقتٍ الناسُ فيه في غناء ورغد لم يكن كالذي يخرجها في وقت المجاعة، وكذلك تعظم بحسب المكان والزمان، فالذي يخرج الصدقة في المسجد ليس مثل الذي يخرجها في السوق، والذي يخرجها في الحرم ليس كالذي يخرجها خارجه، والذي يخرجها في وقت شريف كالأشهر الحرم، أو العشر الأولى من ذي الحجة أو في رمضان أو نحو ذلك ليس كالذي يخرجها في سائر الأوقات.

يقول: فجئت فأخذتها، أي: جاء ولد المتصدق وهو لا يعلم أن والده هو الذي دفع هذه الصدقة لهذا الرجل، وكان معنٌ من الفقراء، فجاء إلى هذا الرجل لما عرف أن عنده صدقة، فأخذ هذه الدنانير، فجاء بها إلى أهله، إلى بيته، فعلم أبوه بذلك، فقال: والله ما إياك أردتُ، يقول: فخاصمته إلى رسول الله ﷺ، فمعن لم يترك الصدقة.

يقول: فخاصمته، يعني: خاصم أباه عند رسول الله ﷺ، وهذا يدل على شدة تحري الصحابة ﷺ وتجردهم في الصدقة، بحيث إنه يعطيها لأطراف لا يمتّون له بصلة، كل ذلك من أجل أن تقع عند الله موقعًا لا نصيب للنفس فيه، ولذلك احتج على ولده، مع أن ولده فقير، واليوم الكثير من الناس يسألون عن زكواتهم، ويقولون: نريد أن نعطيها الوالدة والوالد.

فنقول: هؤلاء يجب النفقة عليهم، فكيف تعطيهم أوساخ المال؟ كيف ترضى لأبيك ولأمك بالزكاة؟ فأعطهم من حر مالك، ومن أطيب مالك، والناس يسألون عن هذا كثيراً.

فهذا الصحابي أخرجها هذا الإخراج وخاصمه ابنه عند رسول الله ﷺ، وهذا أيضاً يدل على أن الخصومة التي تقع بين الوالد والولد في بعض الأمور التي تختلف فيها وجهة النظر لا تعد من العقوق على كل حال، ولا يلزم أن يكون عقوقاً، لكن إن كان فيه جناية من الولد وتعدٍّ فهو من العقوق، أما إن كان ذلك ليس من باب الجناية فليس من العقوق، ولهذا لم ينكر عليه النبي ﷺ، ما قال: كيف تخاصم والدك، هذا من العقوق؟، إنما أقره النبي ﷺ.

فقال النبي ﷺ: لك ما نويت يا يزيد، أي: أنك نويت الصدقة فوقعت صدقة، فنيتك حصل المقصود بها، وهذا هو الشاهد من الحديث، ولك ما أخذت يا معن؛ لأنه فقير محتاج، فالصدقة أمرها يختلف عن الزكاة، لو كانت زكاة لم تحل للولد؛ لأنه يجب النفقة عليه، ولكنها لما كانت صدقة حلت للولد، كما أنها تحل للوالد، ولمن تجب النفقة عليه، يمكن أن يعطيه الإنسان على سبيل الصدقة.

وقوله:الأكثرون هم الأقلون إلا من قال هكذا وهكذا[2]، وتعرفون حديث الرجل الذي قال: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية؟ لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي غنيّ، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق وعلى زانية وعلى غني؟ فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله[3].

فالحاصل أن هذه الصدقة قبلت من هذا الإنسان مع أنها وقعت على سارق إلى آخره، وفي تاريخ ابن عساكر في ترجمة جعفر بن محمد -رحمه الله- وكان من أجواد الناس- أنه لما مر به قول الشاعر:

إنّ الصنيعةَ لا تُعد صنيعةً حتى يصابَ بها طريقُ المصنعِ

قال: هذا أراد أن يبخل الناس.

الصدقة كالغيث أينما نزلت نفعت

فالمنفق والمتصدق مثل المطر، ومثل السحاب، ولهذا كان النبي ﷺ أجود الناس، كان أجود بالخير من الريح المرسلة ﷺ، والريح المرسلة ما تنزل على الأرض القحط فقط، وإنما تسوق السحاب فينزل على الأرض المعشبة، وينزل على البحر، وينزل على الأرض المفتقرة إليه، ينزل على الجميع، هكذا يكون الجواد والمنفق، لا أنه يتعنت في سبيل أن يعرف أن هذه الصدقة وقعت فعلاً في يد إنسان في مسغبة، وحاجة شديدة، افترض أنه ضحك عليك، افترض أنه استغفلك، هي وقعت عند الله في موقع، ولهذا يقول الله : لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] لا تمنعهم الصدقة رجاء هدايتهم، الهداية على الله ، امرأة بغي من بني إسرائيل غُفر لها لما سقت كلبًا، في كل كبد رطبة أجر.

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ [البقرة:272] فلا يضركم حال المنفق عليه، هو طيب أو رديء، هو إنسان مستقيم أو منحرف، هذا ليس شأنكم، أنتم تريدون ما عند الله، وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:272]، فهذه ثلاث جمل: الأولى: في أنكم تنفقون لأنفسكم، الثانية: أنكم تريدون وجه الله، الثالثة: أن جزاء ذلك يوفَّى إليكم، وبعض الناس لربما توهم أن الجمل مكررة، والواقع أنها ليست كذلك، كل جملة منها في معنى يخصه، فالصدقة لله وتصل ولا يضرك أن هذا الإنسان مستقيم أو غير مستقيم.

والأوْلى بالصدقة أهل الخير والاستقامة، لكن لو علمت أن الصدقة وقعت في يد إنسان منحرف فلا داعي أن تتحسر، وإذا أتاك إنسان سائل فأعطه ولو قليلاً، لا تتركه بحجة أنه يمكن أن يكون متلاعبًا، والشيخ ابن باز -رحمة الله عليه- سئل عن الذين يجلسون في المساجد ولربما بعضهم غير صادق، ولربما معهم صكوك وأوراق غير صحيحة، فقال: هذا لا يخلو إما أن يكون هذا الإنسان بحاجة إلى الصدقة فأعطيته، وإما أن يكون هذا الإنسان غير محتاج لكنك غلّبت جانب العفو وجانب البذل احتياطًا، ثم أجرها موفور عند الله لا تضيع عليك فأنت أعطِ في كل الأحوال.

هذا ما يتعلق بهذا الحديث من الفوائد، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر (2/ 517)، رقم: (1356).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: ما يسرني أن عندي مثل أحُد هذا ذهبًا (5/ 2312)، رقم: (5913)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة (3/ 75)، رقم: (2351).
  3. أخرج البخاري، كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم (2/ 516)، رقم (1355)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها (2/ 709)، رقم: (1022).

مواد ذات صلة