السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
حديث «إن الله كتب الحسنات والسيئات..»
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الأوّل / ١٤٢٤
التحميل: 5718
مرات الإستماع: 12407

إن الله كتب الحسنات والسيئات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أبي العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، عن رسول الله ﷺ فيما يروي عن ربه، تبارك وتعالى، قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة. متفق عليه. 

ترجمة عبدالله بن عباس

فأبي العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، وهو من صغار الصحابة، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي سنة ثمان وخمسين للهجرة بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وهو من بني عمومته، محمد بن علي بن أبي طالب ، وقيل عند موته: اليوم مات حبر الأمة، وكان حينما توفي النبي ﷺ شاباً، ذكر بعض أهل العلم أنه بلغ العاشرة، وقيل: بلغ الخامسة عشرة، وقيل غير ذلك، وهو من المكثرين من رواية الحديث عن النبي ﷺ حيث روى ستين وستمائة وألفاً من الأحاديث، وأخرج الشيخان منها خمسة وتسعين حديثاً، تفرد البخاري بثمانية وعشرين، وأما مسلم فقد روى تسعة وأربعين حديثاً.

الفرق بين الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية
ابن عباس يروي عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه -تبارك تعالى- قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ...[1].

الأحاديث القدسية حينما تروى فإنها تروى بمثل هذه الصيغة وما في معناها: "قال رسول الله ﷺ فيما يروي عن ربه".

ومعنى الحديث القدسي: أن الله تكلم به، فلفظه من الله، ومعناه من الله، وأما الأحاديث النبوية فإن معانيها وحي من الله -تبارك وتعالى، إلا أن ألفاظها من النبي ﷺ، والفرق بهذا الاعتبار بين الحديث القدسي والحديث النبوي: أن الحديث القدسي لفظه من الله كما أن معناه من الله، ويشتركان في أن المعنى من الله في كليهما، وأما الفرق بين الحديث القدسي وبين القرآن: فإن القرآن معجز، والحديث القدسي ليس كذلك، ثم إن الله تكفل بحفظ القرآن، ولم يتكفل بحفظ الحديث القدسي، ثم إن القرآن لا يجوز روايته بالمعنى، والحديث القدسي يجوز روايته بالمعنى.

قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات: يحتمل أن يكون القائل هو الله ، ويحتمل أن يكون القائل هو النبي ﷺ، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا الحديث ليس من الأحاديث القدسية، وإنما هو من الأحاديث النبوية، فالنبي ﷺ يخبر عما أوحى الله إليه من المعنى بمثل هذا السياق، ويقولون: المراد أن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه يعني: فيما يروي عن فضل ربه وحكمه، ولكن هذا بعيد، ويرده ما جاء في بعض الروايات، يقول الله : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة...[2]. فهذا صريح وهو نفس الحديث، فدل على أن هذا الحديث من الأحاديث القدسية.

قوله: فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله -تبارك وتعالى- عنده حسنة كاملة.

الإرادة المتوجهة من الإنسان إلى العمل تنقسم إلى أقسام: أدناها الخاطرة، وهي: ما يخطر في بال الإنسان، والواردات التي ترد على ذهن الإنسان لا تنحصر، ولا يستطيع الإنسان أن يسيطر عليها، ولا يتعلق بها الثواب ولا العقاب، فلو خطر في باله حسنة ولم يهم بها فإنه لا يثاب عليها، ولا يدخل في هذا الحديث، وكذلك لو خطر في باله سيئة فإنه لا يعذب على ذلك.

والدرجة التي فوق الخاطرة أن تتحول هذه الخاطرة إلى هم، فينتقل من مجرد الوارد الذهني والخاطر إلى هم يدفعه إلى العمل، فهذا زيادة على الخاطرة، وهي المذكورة في هذا الحديث.

قال: من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله -تبارك وتعالى- عنده حسنة كاملة، فإذا هم بأن يتصدق ولم يتصدق فإنها تكتب حسنة كاملة، فكيف إذا عملها فإنها بعشر إلى سبعمائة ضعف، أما بمجرد الهم فإن الحسنة تكتب حسنة كاملة، يعني: لا نقص فيها.
يقول: وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة.

هم بسيئة فلم يعملها فإنها تكتب حسنة، وهذا يمكن أن يقيَّد -والله تعالى أعلم- بأن يكون تركها خوفاً من الله ، فتكتب له حسنة، أما لو أنه تركها؛ لأنه رأى أن الطريق إليها متعذر فإنها لا تكتب له، فلو أراد أن يدخن فوضع يده في جيبه فلم يجد هذه المادة، ففي هذه الحال لا تكتب له حسنة؛ لأنه لم يجدها، وكذلك لو أنه ذهب إلى مكان محرم، فلما ذهب إليه ووصل إليه وجده مغلقاً، فلا يقال إن هذا الإنسان يؤجر، ولو أراد أن يفعل معصية فوجد إنساناً ينظر إليه فترك ورجع، فلا يقال هذا الإنسان يؤجر، أما إذا تركها خوفاً من الله -تبارك وتعالى- فتكتب له حسنة.

والله قال عن يوسف وعن امرأة العزيز: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]، فهمُّ امرأة العزيز هنا هو بمعنى العزم، بدليل أنها غلقت الأبواب، وقالت له: هيت لك، ولم تكتفِ بهذا بل طاردته، وشقت قميصه من قفاه في المطاردة، فهذا عزم مصمم يكتب لصاحبه سيئة كاملة، وأما همُّ يوسف ﷺ فهو كما قال الإمام أحمد -رحمه الله: إنه هم خطرات في باله، والخطرات لا يستطيع الإنسان أن يسيطر عليها، فلا يؤاخذ بها، وهذا أحسن ما فسرت به الآية.

قوله: إن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة.

هذا من لطف الله ومن رحمته، أن الحسنات بالعشرات إلى سبعمائة ضعف، فهذا الريال الذي تتصدق به يأتي يوم القيامة وتجده مثل الجبل قد تنامى، والتمرة أو الخبزة التي تصدقت بها لا تجدها يوم القيامة هكذا، بل تكون مثل الجبل، يربيها الله كما يربي أحدُنا فَلُوَّه[3]، وهو الفرس الصغير، يعتني به فيعظم، فهذا شأن الحسنات، وأما السيئة فإنها تكون واحدة، ولو كانت السيئة تتعاظم كما تتعاظم الحسنات لهلك الخلق، ولهذا يقول بعض أهل العلم: ويل لمن غلبت آحاده عشراته، فالآحاد هي السيئات، ومع ذلك إذا وضعت في الميزان تثقل على الحسنات، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

معنى هذا: أن هذا من المفاليس -نسأل الله العافية، وأنه إنسان ليس عنده نصيب من العمل ولا خلاق له، السيئة بسيئة، والحسنة بعشر أمثالها، ويوضع بالميزان ثم ترجح السيئات، فهذا مسرف على نفسه، فلا يهلك على الله إلا هالك.

أما من عزم على المعصية، ولم يكتف بالهم بها، وعزم وتحرك وبذل الأسباب لتحصيلها، ثم حال دون ذلك حائل، مثلا: لو سافر ليقارف معصية فوقع له حادث في الطريق، أو تعطلت سيارته، أو فاتته الحفلة الغنائية، أو فاتته الطائرة، فيكتب له سيئة كأنه عملها؛ ولهذا قال رسول الله ﷺ:فهما في الأجر سواء.

ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله ينفقه في عير حقه، ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله ﷺ: فهما في الوزر سواء[4].

فينبغي للإنسان أن يراقب قلبه، ومحبته، وإرادته، فقد يأثم وهو لا يشعر، ولذلك يقال: إن من عزم عزماً مصمماً على المعصية فإنه يأثم كالذي عملها تماماً، إلا إن تركها خوفاً من الله .

ويدل على ذلك قول النبي ﷺ: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[5].

فدخل النار مع أنه لم يقتل، ومع ذلك عوقب عقوبة الأول، كان حريصاً يعني: عازماً على قتل صاحبه، ففي هذه الحال يكون هذا الإنسان على وزر كأنما عمل المعصية، هذا بعض ما يتعلق بهذا الحديث، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة (5/ 2380)، رقم: (6126)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (1/ 118)، رقم: (131).
  2. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله (6/ 2724)، رقم: (7062).
  3. قال رسول الله ﷺ: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه، حتى تكون مثل الجبل أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب (2/ 511)، رقم: (1344)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (2/ 702)، رقم: (1014).
  4. أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب النية (2/ 1413)، رقم: (4228)، وأحمد (29/ 552)، رقم: (18024).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (1/ 20)، رقم: (31)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (4/ 2213)، رقم: (2888).

مواد ذات صلة