الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «كان ملك فيمن قبلكم..» (3-9)
تاريخ النشر: ١٤ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3037
مرات الإستماع: 3041

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زلنا نتحدث عن حديث الغلام والراهب والساحر، وكان آخر ما تحدثنا عنه هو مجيء الغلام إلى الراهب حيث أخبره بما جرى له من قتل تلك الدابة التي عرضت للناس في طريقهم.

فلما أخبره قال له الراهب: أيْ بُنيّ... وهذه كلمة تقال على سبيل التلطف، ولا يعارض ذلك قوله -تبارك وتعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5]، بمعنى: أن الإنسان لا يجوز أن يتبنى أحداً ليس من صلبه، فلا يجوز لإنسان أن يقول لأحد من الناس: يا بني، على سبيل التبني، ولا يقول أحد لأحد: يا أبتِ، على سبيل –أيضاً- الانتساب إليه، لكن يقوله على سبيل الاحترام والتقدير، فلا بأس بذلك.

يقول: أيْ بني، أنت اليوم أفضل مني... وهذا يدل على تواضع هذا الراهب، وهذا هو المطلوب في الإنسان، لاسيما المنتسب إلى الدين أو الدعوة إلى الله ، فهذا الراهب يعلمه، يدعوه إلى الله ، ويقول له: أنت أفضل مني، وهذا يدل على أن التلميذ قد يصل إلى مراتب يكون فيها أعلى درجة ومقاماً من شيخه، سواء في العلم، أو في العمل، والعبادة، أو في القبول، وكم من إنسان ذاع صيته، وانتشر الخير على يده، وأُجرى على يده من أمور الإصلاح الشيء الكثير وشيوخه قد لا يُعرفون، وليسوا بمشهورين، وليس لهم ذلك القبول أو التأثير عند الناس، ولهذا ينبغي للإنسان أن لا يكون همه الكثرة، وإنما يكون همه أن يبذل، وأن يقدم، وأن يقوم بما أمره الله به، فيكون في مرضاته، وأما كثرة الناس وقلتهم فهذا أمر لا ينبغي الالتفات إليه، والنبي ﷺ يقول: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم[1].

وأيوب السختياني -رحمه الله- كان يجلس بعد صلاة الجمعة إلى سارية في المسجد، يحدث الناس، ويسألونه وهو إمام كبير من أئمة التابعين، يقول: فكان إذا كثروا وجدت انشراحا، ونشاطاً وسررت بهذا، وإذا قلوا وجدت انقباضاً، وحزناً، فسألت عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله، فقال له: ذاك مجلس سوء، فلا تعد إليه.

فانظر كيف كانت نظرتهم وتربيتهم وخوفهم مما يخل بالنية والعمل؟.

وهذا الشيخ ابن باز -رحمه الله- إمام كبير، وكان رئيساً للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكان له درس في المسجد النبوي، فجاءه أحد أهل العلم المعروفين، وهو من أقران الشيخ، وقال له: يا شيخ، أنت إنما تخاطب: اتقِ الله يا عبد الله، اتقِ الله يا عبد الله، لماذا لا تغير هذا الأسلوب وتتحدث بطريقة بليغة فصيحة، تستهوي السامعين، كما يفعل فلان وفلان؟.

فقال: كم يحضر؟، قال: يحضر عندك خمسة، ستة، وأولائك يحضر عندهم المئات، قال: الحمد لله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.

يقول: فلم أملك حتى قبلت رأسه، وقلت: هذا هو الإخلاص، منكم نتعلم، ومنكم نستفيد، مع أنه من أقران الشيخ، وهو رجل معروف لو سميته لعرفتموه.

فانظر إلى تواضع هذا الراهب، وانظر ماذا خرّج، فقد خرج هذا الغلام الذي أجرى الله على يده هذا الخير العظيم، فآمن أهل البلد، وصار ما صار في قصة ذكرها الله في القرآن: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ۝ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ۝ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ۝ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ۝ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ [البروج :1-5] فذكر الله خبرهم وقصتهم، وهذا أمر ليس بالسهل، فلا تحقرن من المعروف شيئاً، وليست العبرة بالكثرة.

وكان بعض السلف ينظر إلى كتّاب الحديث الذين يحضرون مجلس السماع، فلربما حزروهم بالآلاف، فكان يحضر خمسة آلاف في المسجد، وأكثر من هذا أحياناً، فكان بعضهم يقول: انظر هؤلاء لا يخرج منهم خمسة، يقول: فحزرناهم بعد ذلك فوجدنا أنه لم يخرج منهم إلا فلان وفلان وفلان، فكان يحضر عدد هائل، لكن الذي يتخرج منهم ويكون عالماً، وينفع الله به عدد بسيط، فهذه قضية مهمة أن الإنسان يتواضع، ولا يتعالى على الآخرين، وأن هذا فضل من الله ، قد يعطي من هو دونك ما هو أكثر منك.

ويأتي الحسد إذا كانت النفس قد خلت من مراقبة الله ، ولم يتعاهدها صاحبها، فتعشعش فيها الأمراض، والأوبئة، فيحسد الناس، ويكون عدوه الذي يعاديه هو هذا الإنسان الذي لربما كان يحثه على العلم، ولربما تتلمذ على يده، فهذا ليس من الإخلاص في شيء.

قال له: أنت اليوم أفضل مني، وهذا يدل على أن المدح في الوجه إذا احتيج إليه فلا بأس به، فهذا قاله للحاجة، لما سيذكره بين يدي هذا الكلام.

قال له: قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ...فعرف أنه سيبتلى؛ لأن هذا الطريق معروف، ولا حاجة إلى ما قاله بعض أهل العلم من أن الرجل أطلعه الله على ذلك عن طريق الغيب، أو عن طريق الفراسة، قال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ [التوبة:16]، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31]، فهذا الطريق مليء بالبلاء، ولكن كل إنسان يبتلى بحسبه، وبحسب إيمانه، وكل إنسان يبتلى بنوع من البلاء، ولا يتبين هذا للناس.

قال له: إنك ستبتلى ذكر هذا على سبيل الجزم، والتأكيد، فهذا أمر معروف، قال ﷺ: كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيجعل نصفين، يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه[2].

قوله: فإن ابتليت فلا تدل عليّ أقرب معنى نستفيده من هذا: هو أن الإنسان لا يتمنى البلاء، لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموه فاصبروا[3].

فالإنسان ينأى بنفسه عن البلاء، خاصة إذا عرف في نفسه ضعفاً، فمن الناس من يكون عابداً، صواماً، قواماً، وقد يكون عالماً، ولكنه لا يحتمل الابتلاء فينكسر، وتخور عزيمته، ويكون موقفه ذاك الذي وقفه لله نكبة عليه، ولهذا قال النبي ﷺ: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل   نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يُطيق[4].

فينبغي للإنسان أن لا يقدم على أمر من الأمور التي يتقرب بها إلى الله وهو يعرف أنه لا يحتمل ذلك، ولا يصبر على ما يلحقه من الأذى بسببه، كأن يأمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، ثم يؤذى، فإذا أوذي بعد ذلك فإنه لربما نكص على عقبيه بالكلية، وتبرأ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما تبرأ من دينه، ومن كل شيء.

بعض الناس يتحدث عن منكر من المنكرات، وعن قضية من القضايا ثم يبتلى، فإذا ابتلي -نسأل الله العافية- نكص على عقبيه، أو نقض كلامه الأول كله، أو نحو ذلك، فإن كان ما قاله حقاً فلا يجوز له أن ينقضه.

فهذا الراهب قال: إذا ابتليت فلا تدل عليّ؛ لأنه أراد أن يعبد ربه وهو سالم من المشوشات، والمزعجات التي تشغل قلبه عن عبادته، وتشوش فكره.

وللحديث بقايا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن (3/ 1357)، رقم: (3498)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب (4/ 1872)، رقم: (2406).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3/ 1322)، رقم: (3416).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو (3/ 1102)، رقم: (2863)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء (3/ 1362) ، رقم: (1741).
  4. أخرجه الترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، (4/ 522)، رقم: (2254)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم (2/ 1332)، رقم: (4016).

مواد ذات صلة