الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه..»
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3196
مرات الإستماع: 47166

إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أنس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه[1]، رواه البخاري.

هذا الحديث من جملة الأحاديث القدسية، وقد أشرت إلى بعض ما يتعلق بها في مجلس مضى قريباً، النبي ﷺ يخبر عن ربه -تبارك وتعالى- عظم الجزاء لمن وقع له عظيم البلاء في هذه الأحاديث، فهذا الذي يصبر في حال الطاعون، ولا شك أنه مصيبة يكفي سماعه لتضطرب كثير من النفوس، فكيف بالصبر عند مواجهته؟ فيكون له أجر شهيد، وكذلك من قبض صفيه من أهل الدنيا، وهو من يصافيه، -من أحب الناس إليه- فلا تسأل عن وحشته وحسرته على فقده، فمثل هذا إذا احتسبه ليس له جزاء إلا الجنة.

وهكذا في مثل هذا الحديث، إذا فقد الإنسان حبيبتيه وهما عيناه، وذلك أن الإنسان إذا فقد نعمة البصر فاته كثير من نعيم الدنيا، فإن كثيراً من النعيم إنما يدرك بحاسة البصر، وأما من فقد ذلك فإنه لا يميز بين حسن وقبيح، وليس له في نزهة مطلب، ولا يتمتع كما يتمتع غيره في الدور الفارهة، والمناظر الجميلة، والزوجات الحسان، وما إلى ذلك مما يتنافس عليه المتنافسون في دنياهم، بل لربما تكاثروا بالأموال من أجل تحصيل تلك المطلوبات التي يجدون فيها متعة بتسريح أنظارهم فيها، من زوجة حسناء، أو دار واسعة جميلة، يُزوّقون جدرانها وسقفها، ويزينونها بألوان الزينات، إلى غير ذلك من ألوان الأثاث، فهذا الإنسان الذي فقد بصره لو وضعته في مكان مظلم، ولو وضعته على أثاث لا منظر له، ولا وجه من وجوه الحسن لو أنك زوجته بأقبح نساء الدنيا من حيث الصورة فإن ذلك لا يفترق بالنسبة إليه، فكم فقد هذا الإنسان من النعيم، فضلاً عن الافتقار إلى الناس في كل شأن من شئونه، يفتقر إليهم في حاجته الخاصة، وما إلى ذلك ثم هو يشعر بالترقب الدائم، ولماذا شرع الاستئذان؟، من أجل أن يطمئن الناس في بيوتهم، فتستكين نفوسهم، وتستقر وتهدأ، فلا يبقى الإنسان في حال ترقب دائم يرهق نفسه، ويتآكل في داخله، ويجلس بهيئة معينة، ويلبس متهيئاً للقاء كل أحد في كل لحظة، ولكن هذا الإنسان الذي لا يبصر هو يتوقع أن الأنظار تنظر إليه، وأن الداخل يدخل عليه في كل لحظة وهو لا يراه، بل لربما لا يأمن نظر الناظرين وهو في أخص حالاته مع أهله في خلائه أو في غير ذلك، دعك مما يقع له من ألوان الحرج بسبب أنه لا يرى، فيضطر إلى كثير من الأمور التي ترهق نفسه.

فالمقصود أن فقد البصر أمر لا يستطيع الإنسان أن يتصوره إلا إذا وقع له وجربه، وانظر إلى حال الناس إذا انطفأت عليهم الكهرباء فجأة في الليلة كيف تكون حالهم من التخبط في الظلام، ويرون أن الأوقات تمضي عليهم من غير طائل، لا يستطيعون فيها القيام بعمل شيء من مصالحهم الدنيوية، أو طلب العلم، أو غير ذلك، بينما هذا الذي فقد بصره هو هكذا في كل أحواله.

فالمقصود أن مصيبته عظيمة فعَظُم الجزاء عليها، قال: فصبر عوضته منهما الجنة، فلا يضيع على الإنسان شيء، كما ورد في أول هذا الباب: عجباً لأمر المؤمن..[2].

أضف إلى ذلك ما يعوضه الله فيه في هذه الدنيا مما هو مشاهد من السلوة، فإن عامة من يفقد بصره يورثه الله من الانبساط ما لا يوجد عند غيره، هذا أمر مشاهد، ثم إن فقد هذا البصر ينعكس على البصيرة، فيعوضه الله من البصيرة، والفهم الثاقب، والحافظة القوية ما لا يوجد عند كثير من الناس، وذلك أن المشوشات التي تسبب خلخلة في ذهن الإنسان غير موجودة بالنسبة لهذا الإنسان غالباً، لأن عامتها يكون بسبب المشاهد التي يراها، فتنطبع في ذهنه فتشغله، فهو يعيد النظر فيها مرة بعد مرة، ويفكر فيها إلى غير ذلك، وأما هذا فإنه لا يحصل له شيء من ذلك، فيكون عنده من قوة الإدراك والحافظة، والتمييز ما لا يوجد عند كثير من الناس، ولذلك لو سألت كثيراً ممن فقدوا أبصارهم فإنك تجد عنده من الحس المرهف الذي يميز به بين كثير من الأشياء، ويميز بين الناس بالأصوات، ويميز بينهم حتى في قبضة اليد، والملامسة، ولو بعد سنين، ويستطيع في الغالب أن يحدد عمر الإنسان الذي يتحدث معه لأول مرة، إذا سئل كم عمر فلان؟ فيأتي بالعمر، لربما زاد سنة، أو نقص سنة، ولربما أعطاه الله المزيد، فيدرك الألوان في الجملة، يدرك أن هذا الإنسان يلبس ثوباً فاقعاً، أو شديد الحمرة، أو نحو ذلك، وقد سألت بعض هؤلاء فأخبرني بذلك، رأيت بعضهم يشتري أغلى الأثاث والحقائب وأموراً من هذا القبيل، فسألته قلت: ما شأنك بهذه الأشياء، حقيبة دبلوماسية بخمسة وعشرين ألف ريال، ما شأنك بهذه الأشياء؟ هل تدرك؟ قال: نعم يوجد عندي إدراك، بعضهم لما أراد أن يتزوج كان يشترط شروطاً من طول المرأة، طول قامتها إلى آخره، فقلت: يستوي عندك السوداء كالليل، والبيضاء كالكافور، فقال لا، أدرك في الجملة، أدرك أن الذي أمامي طويل، أو قصير، أو متوسط القامة، أدرك هذه الأشياء، وأدرك لوناً من الجمال، وإن لم يكن كالمبصرين بطبيعة الحال، هذا شيء مشاهد، وبعضهم قد يستغني عن القائد، فيذهب، ويجيء، ويعمل، بل لربما عمل في الأعمال الدقيقة لنفسه ولغيره، ويقوم بأمور لا يقوم بها المبصرون، بل لربما أدرك أن بالحضرة أحداً، أن بحضرته بالمجلس هنا أحداً، من الموجود هنا؟ من الذي دخل؟ من الذي جالس؟ لربما من الأنفاس أو شيء آخر الله أعلم.

فالمقصود أن الله يعوض هؤلاء في الدنيا، ومن صبر عوضه الله الجنة في الآخرة، فالإنسان إذا أصلح التفكير فإنه لا يبتئس، هي مصيبة عظيمة تحصل، ولكن إذا أصلح تفكيره أدرك أن الله أخذ منه شيئاً وأعطاه أشياء وعوضه، وأبقى أيضاً له أشياء، أضف إلى ذلك أنه يستريح من كثير من الحساب، ويستريح من كثير من العناء؛ لأن أكثر ما يورط الناس بالموبقات إنما هو البصر، ينظر ثم يجره هذا النظر إلى أمور أخرى، فيقع فيما لا يحمد عقباه، أما هذا فقد استراح، فكثير من فتنة الدنيا لا يقع له، فإذا نظر الإنسان إلى هذا واعتبره هانت عليه مصيبته، أضف إلى ذلك ما يحصل له من الأجر العظيم.

هذا، وأسأل الله أن يلطف بنا جميعاً، وأن يجعل السمع والبصر هو الوارث منا، وأن يسددنا ويثبتنا بالقول الثابت، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب فضل من ذهب بصره (5/ 2140)، رقم: (5329).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (4/ 2295)، رقم: (2999).

مواد ذات صلة