الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «إن شئت صبرت ولك الجنة..» (2-2)
تاريخ النشر: ٠١ / ذو الحجة / ١٤٢٥
التحميل: 3143
مرات الإستماع: 12039

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زلنا مع حديث ابن عباس -ا- في خبر تلك المرأة السوداء التي جاءت إلى النبي  ﷺ فقالت له: إني أصرع، وإني أتكشف، فادعُ الله تعالى لي.

وقولها: فادعُ الله تعالى لي هذا يدل على ثقتها بالله -تبارك وتعالى- وإيمانها به، وأن الله بيده كشف الضر، وأن الله -تبارك وتعالى- يستجيب دعاء من دعاه، لاسيما النبي ﷺ، ويدل أيضا على كمال ثقتها برسول الله ﷺ.

وهذا أيضاً يتصل به مسألة معروفة، وهي: هل يشرع للإنسان أن يطلب الدعاء من غيره؟ أما رسول الله ﷺ فلا شك في ذلك، والنبي ﷺ أقر هذه المرأة، وكذلك لما كان يخطب الجمعة فدخل عليه ذلك الرجل الأعرابي، وطلب منه أن يستسقي لهم، فرفع النبي ﷺ يديه ودعا[1]، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على هذا المعنى.

وأما غير النبي ﷺ فهل يشرع للإنسان أن يطلب من غيره الدعاء، فيقول: يا فلان، ادع لي؟

من أهل العلم من قال: إن ذلك على خلاف الأولى، وعللوا ذلك بأمور ثلاثة:

الأمر الأول: هو أنه لا يخلو من نوع تزكية إلى من طلب منه الدعاء، كأنك تقول له بطريقة غير مباشرة: يا فلان أنت ما شاء الله، يرجى أن تقبل دعوتك، لقربك من ربك -تبارك وتعالى، فادعُ الله لي، وإلا لماذا لا يدعو لنفسه، هو حينما يقول لك هذا الكلام يعتقد أنك أقرب منه إلى الله ، فهذا فيه تزكية، والتزكية قد تحدثنا في مجلس سابق عنها.

الأمر الثاني: وهو أن فيه نوع افتقار إلى المخلوقين، والإنسان إنما يوجه حاجته وفقره ومسغبته إلى الله وحده لا شريك، ولا يفتقر إلى أحد من المخلوقين بشيء من الأشياء، وهذه مرتبة عالية من مراتب العبودية أشرت إليها في مجالس سابقة في مناسبات مضت، وقد بايع النبي ﷺ بعض أصحابه أن لا يسألوا أحداً من الناس شيئاً، فكان السوط يسقط من أحدهم ولا يقول لصاحبه: ناولنيه[2].

استغنِ عمن شئتَ تكن نظيره، واحتجْ إلى من شئت تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، هذه قاعدة ذهبية تكتب بماء العينين، فهذا الإنسان الذي يطلب من غيره أن يدعو له قد افتقر إليه، وعلق قلبه به، وإنما يكون الافتقار إلى الله ، مع أن هذا النوع من الافتقار ليس بمحرم، ولكن من أراد تحصيل الكمالات والمراتب العالية فلا يفتقر للمخلوق بشيء في أموره كلها، طبعاً ليس هذا يقتضي تضييع ما ولاه الله إياه، فالأب في بيته لابد أن يوجه ويعلم ويؤدب، والإنسان المدير في المدرسة لا يقول: النبي ﷺ بايع بعض أصحابه أن لا يسألوا أحداً.

لا، لا تسأل لأمر يتعلق بشخصك، لكن المصالح العامة كلٌّ يقوم بعمله، فالمُراسل في المدرسة –مثلا- أعطيه الدفتر ويذهب به إلى إدارة التعليم، يذهب به إلى مدرسة أخرى، يقوم باللازم يعطيه الأستاذ الفلاني ليوقع عليه، أو نحو هذا، هذا لا إشكال فيه، وهكذا المدير في الشركة، وما إلى ذلك.

الأمر الثالث: وهو أن الدعاء من أفضل وأجل العبادات التي يحبها الله ، فهو قد تعبدك بها، فمن الخطأ أن تترك ذلك، وأن تطلب غيرك أن يقوم به نيابة عنك، فالله يحب من دعاه، فتقرب إلى الله بهذه العبودية الشريفة، فادعُ ربك، وهذه ثلاثة أمور يمكن بناء عليها أن يقال: إنه لا يحبذ للإنسان أن يطلب من الآخرين أن يدعوا له.

الذين قالوا: لا بأس أن يطلب الإنسان من غيره الدعاء احتجوا بمثل هذه النصوص، هذه المرأة جاءت إلى النبي ﷺ قالت: ادعُ الله لي، فنقول: النبي ﷺ إذا طلبت منه فلا شك أنه رسول الله ﷺ ومن يكون بمنزلة النبي ﷺ؟.

ويحتجون بحديث أويس القرني -رحمه الله- من التابعين، وذلك أن النبي ﷺ أخبر عمر بما سيقع من مجيئه في أمداد اليمن، وأن له أمًّا هو بار بها، ووجّه عمر أنه إن لقيه أن يطلب منه أن يستغفر له، فكان عمر يسأل كثيراً إذا جاء أمداد اليمن، هل فيكم أويس القرني؟، حتى وجده -وهو في عداد التابعين- فطلب منه أن يستغفر له[3].

فيقال: هذا خاص، النبي ﷺ زكى أويساً، لكن هذه النصوص يمكن أن يردّ فيها على من قال: إن هذا الدعاء فيه نوع افتقار للمخلوق، وأنه ترْكُ ما هو بصدده وما طُولب به إلى أن يكل ذلك إلى غيره، لكن تبقى مسألة التزكية هذه النصوص ما تجيب عنها، فأويس زكاه النبي ﷺ، أما أنت إذا طلبت من إنسان آخر فهذه تزكية له، وإن كانت غير مباشرة.

فالمقصود أن الإنسان يعلق حاجته بالله ولا يفتقر للمخلوقين بشيء، ويدعو ربه ويتقرب إليه بألوان القربات، ولا حاجة أن يقول: يا فلان، ادعُ لي، مع جواز ذلك، ولكن تركه أكمل، والله تعالى أعلم.

فقالت: فادعُ الله تعالى لي، قال: إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة...، تصبر على الصرع، والصرع ليس علة دائمة، وإنما من يصرع يكون في عافية ويذهب ويجيء ويتحرك، وليس به بأس كما هو مشاهد إلا إذا وقعت له هذه النوبة، ويتأثر بعدها لربما يعتل ليوم أو ليومين أو لثلاثة، لكنه في باقي أحواله لا يشتكي من صداع، لا يشتكي من ألم بطن، ولا عضو من أعضائه، ومع ذلك قال لها: إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة.

فإذا كان هذا بهذه المثابة، فما ظنك بمن يبتلى بالسرطان -أجارنا الله وإياكم-؟ أين السرطان من الصرع؟

السرطان أعظم، وأخطر، وفيه من الآلام -لاسيما في مراحله المتقدمة- ما هو أشد بكثير من الصرع، وكذلك بعض الأمراض التي تكون في غاية الإيلام، والإزعاج، أو يحصل للإنسان بسببها إقعاد عن مصالحه وحوائجه والتقلب في شئونه، هذا أخطر من الصرع وأشد.

فهذا فضل عظيم، يمكن أن يُعتبر به غيره من ألوان العلل والأوجاع، يدل على سعة فضل الله ، ورحمته، وهو مصداقٌ لما سبق من الحديث عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير[4].

فإذا تصور الإنسان هذا المعنى، واستشعره بقلبه لا ينزعج من الأمراض، فالحياة قصيرة، وستعبر وستمضي، انظر إلى الأجيال الماضية، هي مثل هذه الصفحات من هذا الكتاب، كل جيل صفحة، تلك الأجيال التي مضت ما فيهم نفس الأمراض الموجودة عند الناس الآن: صرع، وسرطان، وحصبة، وسكري وضغط، وجميع أنواع العلل والأمراض؟ موجودة فيهم، الذي جزع والذي صبر، هل غيّر صبره أو جزعه من حقيقة الأمر شيئاً؟

لا، لم تبرأ أمراضهم بالجزع والتسخط، فما هو الشيء الذي يسلّي الإنسان به نفسه ويقوى به عزمه؟ هو أن يعتقد أن هذه الحياة معبر قصير، وأنه لن يموت قبل يومه، مهما كان المرض خطيراً لا يمكن أن ينقص دقيقة واحدة أو لحظة من العمر، فالمرض لا ينقص العمر، الأجل إذا جاء -يوجد مرض في الإنسان أو لا يوجد- سيموت.

لا تقل: كان مسرعاً، نعم ينبغي للإنسان أن يتعاطى الأسباب، لكن لو لم يسرع سيموت ولو جلس على عتبة بيته، قال تعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154]، هذه أمور لا يمكن أن تتخلف، فلا داعيَ أن يقال: والله فرط، ويجلس الناس يتحسرون ويتلاومون.

على الإنسان أن يتعاطى الأسباب الصحيحة، لكن لا يقتل نفسه على هذا، تأخر في العلاج ما تأخر في العلاج، كان يرفض أن يعالِج، والذي عالج طار أو نزل إذا جاء الأجل لا يمكن، ولو اجتمع عليه أطباء الدنيا، كم من إنسان بادر وفي اللحظات الأولى، وكم من إنسان كان واقفاً عند الإشارة فجاءه إنسان من طريق آخر فصدمه وقتله شر قتلة.

فهذا لا ينفي ملاحظة الأسباب، لكن لا تنقضي نفس الإنسان حسرات على هذه الأمور، وإذا ابتلي بمصيبة بمرض أو نحو ذلك يوطن نفسه على أن هذا الأمر مكتوب قبل أن يخلق، وأيضاً أرسل الله الملك وهو في بطن أمه فكتب رزقه وأجله وعمله، شقي أو سعيد، فالأجل مكتوب، وكل ما يجري على الإنسان مكتوب، مكتوب أنه سيمرض في اليوم الفلاني، فلا داعي للتآكل الداخلي، ولا داعي لتفاقم الأحزان على ما يقع للإنسان في هذه الدنيا من الآلام والمصائب وفقد الأحبة وما أشبه ذلك، ولكن الإنسان يتصبر.

وما هو مثل الصرع أو أعظم من الصرع يرجى له أن يكون كذلك، ولذلك مثل الذين يموتون في حوادث السيارات، يموت ويتشحط في دمائه في صحراء منقطعٌ عن الناس، ولربما في ليلة ظلماء وأمام أطفاله، مناظر مؤلمة جداً، هؤلاء يرجى لهم من الخير عند الله الشيء الكثير، وربنا سبحانه واسع الرحمة، فالغريق شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد، والهدم شهيد، ولا تقلّ حوادث السيارات عن هذه الأشياء، فيرجى لهم أن يلحقهم الله بمنازل الشهداء، وكلما عظم البلاء كلما عظم الجزاء، فهذه أمور يعتبرها المؤمن.

قال: وإن شئتِ دعوتُ الله تعالى أن يعافيك، فقالت: أصبر، وهذا يدل على فقهها، وفهمها وفطنتها، فهي تعرف أن الحياة دار قصيرة، تصور لو أن هذه المرأة قالت: لا يا رسول الله، ادعُ لي، لكنها قالت: أصبر، فادُّخر ذلك لها.

فالآن لو سألنا: أي الأمرين كان خيراً لها أن تصبر أو يدعو لها؟ قطعاً بلا تردد الناس سيقولون بصوت واحد: أن تصبر، فضع نفسك مكانها، تريد أن تصبر والجنة، أو تريد أن يرتفع عنك هذا البلاء، هذه الحياة ما هي إلا وقت يسير ثم ينقضي بكل آلامه وأحزانه ومصائبه.

ولاحظ الشيء الذي يؤرقها، قالت: إني أتكشف، فادعُ الله أن لا أتكشف، فدعا لها، متفق عليه.

قطعاً دعا لها، واستجيب دعاؤه ﷺ، وصارت لا تتكشف، لاحظ الله -تبارك وتعالى- كيف يوقع بعبده هذه الابتلاءات، تصور هذه امرأة تقع وتتخبط إذا صُرعت فتتكشف، فقالت: لا، ادعُُ الله فقط أن لا أتكشف، فتصور حال هذه المرأة صارت تصرع لكن من غير تكشف.

فإذا وثق العبد بربه انبلجت الدنيا أمام عينه، واتسعت، وحلّق بقلبه واستراح من كثير مما يشده إلى الأرض ويُقعده، وصار يطير من غير نظر إلى الوراء، لكن الإنسان هو الذي يُقعد نفسه، وهو الذي يثقل نفسه، وهو الذي يُعوّر نفسه، ويعوقها.

أسأل الله أن يرزقنا وإياكم اليقين والإيمان الثابت الراسخ، وأن يرزقنا وإياكم الصبر والثبات في الحياة وفي الممات، وأن يجعل عاقبتنا في الأمور كلها إلى خير، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يتقبل منا ومنكم في هذه الأيام الشريفة، وأن يعيننا وإياكم فيها على الذكر والشكر والدعاء والطاعة وألوان القربات، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء على المنبر (1/ 344)، رقم: (969).
  2. عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: من يتقبل لي بواحدة أتقبل له بالجنة؟، قال: قلت: أنا يا رسول الله، قال: لا تسأل الناس شيئا، قال: فربما سقط سوط ثوبان وهو على البعير فما يسأل أحداً أن يناوله حتى ينزل إليه فيأخذه، أخرجه أحمد (37/ 102)، رقم: (22423).
  3. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أويس القرني (4/ 1968)، رقم: (2542).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (4/ 2295)، رقم: (2999).

مواد ذات صلة