الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
حديث «إذا أراد الله بعبده خيرًا عجل له العقوبة في الدنيا..»
تاريخ النشر: ٢٠ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 2795
مرات الإستماع: 25283

إذا أراد الله بعبده خيراً

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد جاء في باب الصبر من حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ: إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا[1].

يعني: إذا أراد الله بعبده المقصر العاصي الذي اجترأ على محارمه وحدوده أن يعاقبه فعجل له ذلك في الدنيا فإن ذلك من الخير لهذا العبد؛ لأن العذاب في الآخرة لا يقاس بعذاب الدنيا، والدنيا دار فانية وزائلة، ومهما أصاب الإنسان فيها من الأوجاع والأوجال والأمراض والأعراض فإن ذلك يسير بالنسبة لعذاب الآخرة.

وقد أخبرنا النبي ﷺ عن أنعم رجل في الدنيا أنه يغمس في النار غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا يا رب، ما رأيت نعيماً قط[2]

فهذا أنعم إنسان في الدنيا، من عهد آدم ﷺ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، غمسة واحدة في النار ينسى كل النعيم، فيقول: لا يا رب، ما رأيت نعيماً قط.

وبالمقابل يؤتى بأبأس إنسان في الدنيا، إنسان متشحط بالأمراض والمصائب والبلايا، والفقر وما إلى ذلك من الأمور المكروهة، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال: يا فلان، هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا يا رب، ما رأيت بؤساً قط، لمَا رأى من النعيم، مع أنها غمسة واحدة، فماذا تعادل الدنيا بالنسبة للآخرة؟

فإذا أخذ الله عبده المقصر في الدنيا بذنوبه فإن ذلك من الخير لهذا العبد؛ لأنه إذا ادخر له ذلك في الآخرة فإنه يعذبه عذاباً لا يقادر قدره، وإذا أراد الله بعبده المذنب الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة، يعني: أنه لم يُكفَّر.

ومعلوم أن ما يصيب الإنسان من المصائب والأمراض والآلام حتى الشوكة فإنه يكفر الله بها عنه من خطاياه، فيكون ذلك كفارة حتى يلقى العبد ربه ليس عليه خطيئة، تتحاتّ عنه الخطايا كما يتحاتّ ورق الشجر.

فهذه الآلام التي تصيبنا في الدنيا تؤثر هذا التأثير، ولكن إذا أمسك الله  عن العبد الأخذ في الدنيا، فادخر له ذلك في الآخرة، فإن هذا لا شك أنه أشد وأعظم، فهذا العبد يئول إلى سخط الله وعذابه، ومن ثم فإنه يوافي وهو يحمل الأوزار على كاهله، كما قال الله وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53]، وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، فيأتي وهو محمل بمظالم العباد، والمظالم التي بينه وبين الله -تبارك وتعالى، هذا حديث أنس ، وجاء أيضاً عن أنس أن النبي ﷺ قال: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء[3]، فهذا يدل على أن الإنسان الذي يبتلى أنه يجازى على قدر هذا البلاء، ولهذا قال النبي ﷺ: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه، فإذا كان في دينه رقة خفف عنه، وإذا كان دينه صُلباً شدد عليه[4].

وسبق في الأحاديث التي مرت بنا أن النبي ﷺ كان يُوعَك ضعف ما يُوعَكه الرجل الواحد منا، يضاعف له المرض والحمى فيشتد ذلك عليه ﷺ[5].

والابتلاء بالمكاره يكون بإصابة أبدانهم ومن يحبونه، والإصابة في أموالهم، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186].

يقول: فمن رضي فله الرضا من الله، ومن سخط فله السخط مع أن السخط لا يغني عنه شيئاً، إذ إن السخط لا يرفع عنه الألم، ولا يدفع عنه البلاء والمكروه، ولكنه يرجع بسخط الله -تبارك وتعالى.

وقد جاء في حديث آخر –أيضاً- عن النبي ﷺ وإسناده حسن: يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض[6].

يعني: يتمنون لو أن أجسامهم في الدنيا قرضت بالمقاريض، لما يرون من عظم جزاء أهل البلاء، فما بال الإنسان منا إذا أصابته خدوش يسيرة، أو ألم يسير، أو صداع يسير، أو ألم في ضرسه أو نحو ذلك، لربما تسخط وجزع وضاقت الدنيا في عينه وأظلمت؟!، لو استشعر الإنسان هذا المعنى لما حصل له هذا التسخط.

يقول سفيان بن عيينة -رحمه الله: "من لم يعد البلاء نعمة فليس بفقيه"، فينبغي للإنسان أن يوطن نفسه على هذه المعاني، ويكون ذلك دافعاً له إلى الصبر، والدنيا لا تصفو لأحد، ومهما رأيت الإنسان فيما يبدو لك أنه في غاية السعادة والرفاهية فلابد له من منغصات، وأمور تشوش عليه فكره، وتورثه ألواناً من الهم، والنكد، فلا تصفو هذه الدنيا لأحد.

الأكلة يأكلها الإنسان يشتهيها ويلتذ بها ثم بعد ذلك يتنغص بسببها، بل لربما تنغص بسبب نومة نامها، أو غير ذلك مما يزاوله الإنسان ويشتهيه، ويلتذ به، فما بالك بالأمور الأخرى التي تنزل به من الأمراض والمصائب والفجائع؟!.

وكم من إنسان يمشي وليس فيه شيء، وبعد قليل وهو على سرير بالإسعاف يدعو على نفسه بالويل والثبور كما شاهدنا مراراً.

فأقول: الإنسان يستشعر هذا المعنى الكبير، ويوطن نفسه على الصبر والثبات، ويحتسب عند الله الأجر، ويعلم أن هذه الدار ليست بدار مقام، وليست بدار راحة، وإنما اللذة الكاملة، والراحة التامة إنما هي في الجنة، فهي موطن الراحة، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4].

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4/ 601)، رقم: (2396)، والحاكم في المستدرك (4/ 651)، رقم: (8799).
  2. أخرجه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صَبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصَبغ أشدهم بؤساً في الجنة (4/ 2162)، رقم: (2807).
  3. أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4/ 601)، رقم: (2396).
  4. أخرجه أحمد (3/ 128)، رقم: (1555).
  5. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول (5/ 2139)، رقم: (5324)، ومسلم،  كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (4/ 1991)، رقم: (2571).
  6. أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ (4/ 603)، رقم: (2402).

مواد ذات صلة