الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «إنها ستكون بعدى أثرة..»
تاريخ النشر: ١٦ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 4722
مرات الإستماع: 31832

إنها ستكون بعدي أثرة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمما جاء في باب الصبر حديث ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: إنها ستكون بعدي أثَرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟، قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم[1] متفق عليه.

قوله ﷺ: إنها ستكون بعدي أثَرة، هذا من إخباره ﷺ عن الغيوب المستقبلة، وقد ثبت عنه ﷺ أنه قال للأنصار: إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض[2].

والمراد بالأثرة أي: الانفراد بالشيء دون أصحاب الحق، والاستئثار بالحقوق والأموال، فينفرد بها قوم دون قوم، فمن كان متسلطاً متمكناً فإن ذلك قد يحمله على الاستئثار بالمال أو بغيره من بين سائر الناس.

قوله: وأمور تنكرونها، يعني: من التبديل، والتغيير، وقد حصل ذلك منذ أزمان متطاولة، وقد أخبر النبي ﷺ أنه سيكون بعده ﷺ قوم يؤخرون الصلاة، فكان يأمر أصحابه حينما سألوه أن يصلوا في الوقت ويصلوا مع هؤلاء فتكون لهم نافلة[3].

وحصل ذلك في عهد بني أمية، حيث كان الأمراء من بني أمية يؤخرون الصلاة، ويؤخرون الجمعة إلى قريب من العصر، ويؤخرون العصر إلى قريب من المغرب، وهذا أمر معلوم مستفيض، إلى غير ذلك مما حصل من التغيير و التبديل، حتى إن عائشة -رضي الله عنها- قالت:

ذهبَ الذين يُعاش في أكنافهم وبقيتُ في خَلْف كجلدِ الأجربِ

وجاء عن عدد من أصحاب النبي ﷺ كأنس وجماعة أنهم قالوا: لو بُعث رسول الله ﷺ لم يعرف شيئاً مما كان عليه إلا أنكم تسوون صفوفكم في الصلاة.

وهذا القول قاله أنس في زمن الصحابة ، ومن نظر في التاريخ في زمان التابعين، ومن بعدهم وجد أنهم يقولون مثل هذا، فقد قاله جماعة من التابعين ومن أتباع التابعين، وقاله من بعدهم، حتى جاء زمن ابن القيم والذهبي وابن كثير، وقالوا أكثر من ذلك، وهكذا في كل عصر.

فهذا التبديل أخبر النبي ﷺ أن أوله يكون في الحكم، وأن آخره يكون في الصلاة[4]، وقد رأينا ذلك في الصلاة في هذه الأيام، حيث إن تلك المرأة –أي التي شاع خبرها وذاع في الآفاق- تقدمت تصلي بالناس صلاة الجمعة، وهذه من المهازل والأمور التي لا يكاد الإنسان أن يصدقها لولا أنها أمور واقعة، فهذا من التبديل المستمر الذي يحصل وقتاً بعد وقت.

قال أصحاب النبي ﷺ عندئذ: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ أي: كيف يكون موقفنا حينما نلقى هذه الأثرة وهذا التبديل؟

فقال: تؤدون الحق الذي عليكم، المقصود بالحق الذي عليكم أي: الطاعة، وعدم الخروج على الأئمة حتى تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان[5].

قال: وتسألون الله الذي لكم يعني: تسألون حقكم من الله ، وتحتسبون ذلك، وذلك أن التصرف إزاء هذه الأثرة، أو هذا المنكر بغير ذلك يؤدي إلى مفاسد عظيمة جداً، وسمعتم من خلال هذه القراءة في الأيام الماضية أو في الشهور أو في السنوات الماضية أشياء إذا جُمع المتفرق منها حصل لك بعض ما يُعتبر في هذا المقام، من آخر ما ذكرنا سليمان بن صرد من أصحاب النبي ﷺ بلغ الثالثة والتسعين من عمره، لما أرادوا أن ينتقموا ممن قتل الحسين فخرجوا على عبيد الله بن زياد، فقُتل كثير منهم، وفر من فر، وقتل سليمان بن صرد، وحمل رأسه من العراق إلى الشام، وهو في الثالثة والتسعين من عمره.

والمنجنيق يوضع على جبل أبي قبيس، ويضرب به بيت الله الحرام والكعبة حتى تتخرق، هذا حصل في حصار ابن الزبير ، ثم لما قتل ابن الزبير صلب، وهو من خيار الصحابة، كان يصوم أسبوعين متتابعين لا يفطر لا في الليل ولا في النهار، وسئل عن هذا قال: أشرب الوَدَك، فيستمر هذه المدة، وهو من أشجع الناس، ومن خيار الصحابة، فيصلب، ولا يفك حتى يذهب أخوه عروة إلى الشام، ليشفع في تنزليه من خشبة الصلب من أجل أن يدفن، فذهب وجاء، وهذا احتاج منه إلى شهر كامل.

وما حصل حينما خرج الفقهاء في بغداد على الحجاج فيما يسمى بفتنة ابن الأشعث، فقد قتل خلق كثير، وتفرقوا وفروا واختفوا، منهم: الحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، أئمة التابعين تفرقوا واختفوا، منهم من اختفى في مكة، وكانوا يبحثون عنهم -عملية تمشيط للبيوت، يبحثون عن أئمة كبار جبال.

حتى جاءوا بسعيد بن جبير من مكة إلى العراق مخفوراً، فدخل عليه بعض التابعين وهو في محبسه في العراق، فقالوا: هذا رجل واحد –شرطي واحد، هلا أوثقتموه وتركتموه في البرية، قال: فمن يطعمه إذا جاع، ومن يسقيه إذا عطش؟.

فقُتل ولم يبلغ الستين، وجيء به إلى الحجاج وقتل أمامه، قال الإمام أحمد: قتل سعيد بن جبير وما في الدنيا أحد إلا وهو محتاج إلى علمه.

مقتل الحسين لا أتصور ولا أتخيل تلك اليد الجريئة التي امتدت لقتل الحسين، من هذا الجريء؟، من أجل ماذا؟ مع أنه نُصح قبل أن يذهب إلى العراق، كثرت المكاتبات له من العراق: تعال نبايعك، فلما خرج جاءه ابن عباس ونصحه، وجاء عبد الله بن الزبير، وجاءه عبد الله بن عمر ونصحه، حتى قال له عبد الله بن عمر: أستودعك الله من قتيل، يعني: هو عالم بالنتيجة ابتداء، واعتنقه وودعه، ثم ذهب، وتعرفون ما حصل له ، ومن قُتل من أبنائه وأهل بيته كثير في الوقعة الشهيرة.

بل أقرب الناس إليهم لربما قتلوه كما حصل من عبد الملك بن مروان مع أبي عمرو الأشدق، وأبو عمرو الأشدق هو اليد الطولى التي استطاع بها عبد الملك بن مروان أن يقهر كثيراً من التمرد الذي كان يثار ضده، واستطاع أن يستتب له الأمر في غالب الحجاز، وكان جباراً صاحب بطش، وكان يسيّر الجيوش من المدينة إلى مكة.

فلما كان عنده بالشام واستتب الأمر لعبد الملك، وكان الاتفاق أن يكون هو الخليفة من بعده، فوضعها عبد الملك لابنه، فلما خرج لقتال ابن الزبير في العراق، لأن ابن الزبير كانت له العراق والحجاز وخراسان، ولم يبق إلا الشام لبني أمية، فخرج ليقاتل مصعب بن الزبير أخا عبد الله بن الزبير، فانقلب عليه أبو عمرو الأشدق، وسد أبواب دمشق، وحصن الحصون ووضع المتاريس، فعلم بذلك عبد الملك ورجع مرة أخرى وحاصرها، فحصلت مجاولات ومصاولات ومبارزات، ثم حصل اتفاق على أن يكتب له وثيقة بالأمان، وأن يجعل الأمر له، ويكتب له ذلك خطياً، فقبل أبو عمر الأشدق، وهو من دهاة الرجال، وفتح له أبواب دمشق.

ثم بعد ذلك دعاه عبد الملك، وقد اجتمع بنو أمية وبنو مروان في مجلس عبد الملك، فدعاه إليه، فقيل لأبي عمرو: إنا نتخوف عليك من هذا الرجل، فقال: وماذا عسى أن يصنع؟، هو لا يبالي به، فلبس درعاً تحت ثيابه وجاء إليه، ومعه خادمه فلما نظر إليهم ودخل في طرف المجلس رأى الغدر، فكلم خادمه بكلام يسارره به، وذلك الخادم كان غبياً لم يفهم، فقال: هاه، قال: قطع الله لسانك، ثم تقدم وعبد الملك يقول له: أقبل، أقبل يا أبا عمرو، فحرك خادمه يطلب منه أن يدعو أخاه، فقال: هاه، قال: قطع الله لسانك، حتى اقترب من عبد الملك فقال له: ما هذا السيف؟ وأرسل إليه أحد الحرس ليرفعه؛ لأنه كان قد تقلده.

ثم أجلسه بجانبه، فقال عبد الملك: عليّ نذر إن تمكنت منك أن أضعك في كيس وآخذ بمجامعه، فقال له: اتق الله فقد أعطيتني العهد، فقال: إنما هو كيس، فلا زال به بنو مروان: أوفِ بنذر أمير المؤمنين ونحن كفلاؤك، فوضعه في كيس، وضع داهية الدواهي في كيس، ثم لما أخذ بمجامعه واستحكم أخذُه له بيده قال به هكذا فأصاب سنه لسرير عبد الملك فانكسر وتدمى، فعرف عبد الملك أن هذا الدم لن يذهب هدراً، وأنها لن ينساها له أبو عمرو الأشدق، فقال: يا أمير المؤمنين، الله الله، لا يحملنك هذا المصاب مني على ما هو أعظم منه، يعني: القتل.

فأذن المؤذن وهو يريد قتله، وقد أوثقه، ثم خرج إلى الصلاة، وطلب من أخيه لأبيه عبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز أن يقتله، يعني: بمجرد ما يرجع من الصلاة يجده مقتولاً، فلما جاء ليقتله ذكّره بالرحم.

قال: دع هذا الأمر لغيرك، فتركه.

فلما جاء عبد الملك وأبو عمرو الأشدق لم يخرج إلى الصلاة خاف الناس واجتمعوا على الباب، فدخل عبد الملك فوجده لم يقتل فشتم عبد العزيز وعيره بأمه، ثم أخذ الرمح وضربه به فرده الدرع، فقال: ودارع أيضاً، يعني: أنه مستعد، ثم وضعوه له في الأرض فذبحه ذبحاً كما تذبح الشاة، ثم أخذته رِعدة –أي عبد الملك بن مروان- فحملوه ووضعوه على سريره، فضج الناس ودفعوا الأبواب فأخذ عبد العزيز بن مروان أكياسا من ذهب وصار ينثرها عليهم، فانشغل الناس بجمع الذهب.

هذا مثال على ما يحصل من الفتن الكبار بسبب هذه الأمور التي تحصل من الشر في الخروج على الأئمة، ومن المنكرات العظيمة من القتل الذي ينتج عن ذلك، والتاريخ مليء بهذا، ولذلك قرر أهل السنة أنه لا يجوز الخروج على أئمة الجور، خلافاً للمعتزلة والخوارج، إلا إذا رأى الناس كفراً صريحاً عندهم فيه من الله برهان ليس فيه تأويل.

فمثل هذه الأمور إذا نظر فيها الإنسان اعتبر، ورأى ما يحصل من المفاسد.

هذا، وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3/ 1318)، رقم: (3408)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (3/ 1472)، رقم: (1843).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4/ 1574)، رقم: (4075)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه (2/ 738)، رقم: (1061).
  3. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام (1/ 448)، رقم: (648).
  4. عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله ﷺ قال: لتُُنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة أخرجه أحمد (36/ 485)، رقم: (22160).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ: سترون بعدي أمورا تنكرونها (6/ 2588)، رقم: (6647)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (3/ 1469)، رقم: (1709).

مواد ذات صلة