السبت 29 / ربيع الآخر / 1446 - 02 / نوفمبر 2024
حديث «إنكم ستلقون بعدي أثرة..»
تاريخ النشر: ١٧ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 2686
مرات الإستماع: 19103

إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أبي يحيى أسيد بن حضير أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلاناً، فقال: إنكم ستلقون بعدي أثَرَة ...[1] الحديث.

أبو يحيى أسيد بن حضير ، وقيل في كنيته غير ذلك، كأبي عيسى، وأبي عمرو، وبعضهم يقول: أبو حضير، وغير ذلك من الأقوال.

وأسيد بن حضير من الأوس، من بني عبد الأشهل، أسلم على يد مصعب بن عمير قبل هجرة النبي ﷺ إلى المدينة، وشهد بيعة العقبة الثانية، وكان نقيباً على بني عبد الأشهل، فهو من خيار الصحابة، وخبره معروف في القصة التي وقعت لعائشة -رضي الله تعالى عنها- لما ذهبت تبحث عن عقد لها قد ضاع، فحُبس الناس على غير ماء، فأرجف من أرجف، وتكلم من تكلم، قالوا: حبُس الناس على غير ماء، وهذا قبل نزول آية التيمم، حتى جاء أبو بكر الصديق ، وجعل يطعنها في خاصرتها، ويقول: حبست رسول الله ﷺ والناس معه ليس معهم ماء، والنبي ﷺ قد وضع رأسه ونام على فخذها، فما كانت تتحرك لمكان رسول الله ﷺ منها، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر[2]، فهذا هو الفرق بين مواقف المنافقين ومواقف المؤمنين.

فالمقصود أن أسيد بن حضير كان من خيار الصحابة ، وهو ممن أرسله النبي ﷺ حينما أشيع أن قريظة قد نكثوا العهد مع رسول الله ﷺ في يوم الأحزاب، فأرسل سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير .

فهو من خيار الصحابة، وكان من أحسنهم قراءة للقرآن، وهو الذي حصل له ما عرفتم من نزول الملائكة لسماع قراءته حينما كان يقرأ وابنه بجانبه نائم، وكانت فرسه تجول، وفوق رأسه مثل الظُّلة، فلما أخبر النبيَّ ﷺ أخبره أن الملائكة نزلت تستمع قراءته[3].

وروايته عن رسول الله ﷺ للحديث ليست كثيرة، المنقول عنه ثمانية عشر حديثاً، اتفق الشيخان البخاري ومسلم على إخراج واحد منها فقط، هو هذا الحديث، وفي البخاري رواية أخرى معلقة له، وباقي الروايات ليست في الصحيحين.

فيذكر أن رجلاً من الأنصار..، يحتمل أن يكون هذا الرجل هو أسيد بن حضير، وهذا ذكره بعض أهل العلم، ولا مانع من أن يكني الرجل أو أن يبهم نفسه، كأن يقول: سأل رجل النبي ﷺ، وهو يقصد نفسه، قال رجل كذا، فيبهم نفسه.

قوله: "أن رجلاً من الأنصار.." والأنصار هم الأوس والخزرج ، قيل لهم ذلك لأنهم ناصروا النبي ﷺ ونصروا دين الإسلام، كما قال الله : وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا [الحشر: 9].

يعني: حسداً مما أعطيه المهاجرون من دون الأنصار، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]، فهؤلاء قيل لهم ذلك، ولقبوا بالأنصار.

قال: "يا رسول الله، ألا تستعملني" هذا أسلوب عرض، يعني: هلا استعملتني، ومعنى استعملتني: أي جعلتني عاملاً، بمعنى أنه يوليه ولاية إما على بلد، أو يوليه على عمل من الأعمال، كأن يستعمله على الصدقة مثلاً، كجباية الزكوات، أو نحو ذلك من الأعمال والوظائف والمهام التي يكلها النبي ﷺ إلى بعض أصحابه.

قال: "كما استعملت فلاناً" "فلاناً" أبهمه في الرواية، وهو قد سمى له شخصاً معيناً، لكن ما أراد أن يذكره هنا لسبب أو لآخر، فقد لا يحسن ذلك في رواية الحديث، فالراوي قد يترك بعض الشيء، ويبهم بعض الأسماء لمصلحة، ويقال: إن هذا الرجل الذي أبهمه هنا هو عمرو بن العاص ، فقد استعمله النبي  ﷺ، كما هو معلوم.

فقال: إنكم ستلقون بعدي أثَرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض

هذا خطاب للأنصار، أنهم سيلقون بعده ﷺ أثرة.

والأثرة هي الانفراد بالشيء دون مستحقيه، فيُمنع صاحب الحق، ويستأثر من بيده السلطة أو الولاية أو نحو ذلك بهذا المال.

ووجه الارتباط بين طلب الرجل الولاية، وبين قول النبي ﷺ: إنكم ستلقون بعدي أثرةيمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: هذا الرجل سأل ولاية، وبصرف النظر هل ولاه النبي ﷺ أو لا، فناسب أن يذكر النبي ﷺ أمراً سيقع بعد ذلك من الاستئثار دون الأنصار بالمال، وبالولايات، وبالحقوق، وما أشبه ذلك.

فهذا الأنصاري من خيار الأنصار جاء يطلب ولاية، فناسب ذلك أن يذكر له النبي ﷺ أمراً سيقع بعده.

النبي ﷺ هو أكمل الناس هدياً وأحسنهم خلقاً وعملاً وحالاً، ولا يستأثر بشيء دون أصحابه، لكن سيأتي بعده أناس يستأثرون، ولم تحصل الأثرة في عهد الخلفاء الراشدين .

إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض بمعنى لا يبدر منكم شيء من الخروج على هؤلاء الذين استأثروا دونكم، أو غير ذلك مما لا يليق، وإنما الصبر كما في الحديث السابق.

وعلاقة هذا الحديث بباب الصبر واضحة، وهي أن النبي ﷺ ذكر أمراً يتطلب الصبر؛ لأن الإنسان إذا رأى حقه يضيع، ورأى غيره يسطو عليه، فإن ذلك قد ينفرط معه الصبر، فيتعدى الإنسان طوره، ويأخذ حقه بالطريق غير المشروع، وذلك صريح في قول النبي ﷺ: فاصبروا حتى تلقوني على الحوض.

هذا، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصبر والثبات، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ للأنصار: اصبروا حتى تلقوني على الحوض (3/ 1381)، رقم: (3581)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم (3/ 1474)، رقم: (1845).
  2. أخرجه البخاري، كتاب التيمم (1/ 127)، رقم: (327)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب التيمم (1/ 279)، رقم: (367).
  3. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن (4/ 1916)، رقم: (4730)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن (1/ 548)، رقم: (796).

مواد ذات صلة