الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «غزا نبي من الأنبياء..»
تاريخ النشر: ٠١ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 2707
مرات الإستماع: 10711

غزا نبي من الأنبياء

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد فالحديث الخامس في باب الصدق هو:

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: غزا نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا لم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم فجاءت - يعني النار - لتأكلها فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده فقال: فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعها فجاءت النار فأكلتها. فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا[1].

هذا النبي أُبهم هنا، غزا نبي من الأنبياء، وذلك أنه لا حاجة للناس إلى معرفة شخص هذا النبي ﷺ، وإنما العبرة بالمعنى الذي حصل لهذا النبي ﷺ وما صدر منه، وما وقع له، وهذه المبهمات كثيرة في القرآن، كما قص الله علينا خبر أولائك الفتية في سورة الكهف الذين كانوا في غابر الدهر، وقص الله علينا أيضًا خبر الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، فالمقصود: أن هؤلاء أبهمهم الله ؛ لأنه لا حاجة ولا مصلحة بمعرفة أشخاصهم، والبحث عن هذا لا طائل تحته، ومن العلماء -رحمهم الله- من أتعب نفسه في بحث مثل هذه المسائل، حتى نُقل عن عكرمة -رحمه الله- من التابعين أنه قال: "تطلبتُ الذي خرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله أربع عشرة سنة"، يعني في قوله: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [النساء: 100]، ما هي النتيجة؟ وما هي الفائدة؟

غزا نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وهنا يقولون: إنه يوشع بن نون إن ثبت ذلك، وهذا لا سبيل إلى إثباته إن كان من أخبار بني إسرائيل.

والأنبياء إذا ذكروا يُجمع لهم بين الصلاة والسلام استحبابًا، ويمكن أن يقتصر على السلام فقط، فيقال: عليه السلام، أما النبي ﷺ فنحن مأمورون بأن نجمع له الصلاة والسلام؛ لأن الله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، أما الملائكة فيمكن أن يقال: عليه السلام، أو عليهم السلام، وكذلك الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، والجمع بين هذا وهذا أفضل، فهذا مما ورد فيه الجمع بين الصلاة والسلام في حق غير النبي ﷺ من الأنبياء السابقين، وأما غير الأنبياء فإنه يُترضى عن الصحابة، ويُترحم على من بعدهم، ولا يُخص أحد من بينهم بسلام، أو بصلاة، كأن يقول: عليٌّ أو فاطمةُ -عليها السلام؛ فإن هذا مضاهاة لبعض أهل البدع من الرافضة ونحوهم.

ولكن لو أنه قال ذلك لأحد من الصحابة أو لغيرهم قال مثلاً: أبو بكر فإن ذلك ليس من المحرم؛ لأن هذا دعاء، إلا أن الذي جرى عليه العمل هو الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم.

قوله: غزا نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فقال لقومه: لا يَتْبَعنِّي رجلٌ ملَكَ بُضعَ امرأة البضع: يطلق على الفرج، وعلى النكاح، ويطلق أيضًا على الجماع، لا يتبعني رجل ملكَ بضع امرأة أي: أنه تزوج امرأة، أو عقد على امرأة، ولكنه كما قال هذا النبي ﷺ: وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبنِ يعني: عقد عليها ولكنه لم يدخل بها، وأصل هذا -أعني البناء: مأخوذ مما كانت عليه العرب قديمًا، يقال للدخول بالمرأة: بناء، تزوج النبي ﷺ عائشة وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين،[2] ويقال: دخل بها والمقصود البناء، كان الرجل من العرب إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة بيت من شعر يخصها به، ويلزم من ذلك أن يدخل هذه القبة على امرأته، فهذا من باب اللازم والملزوم، فلهذا يقال: دخل على أهله، أو بنى بامرأته، كل ذلك يكنى به عن الجماع.

قوله: ولا أحد بنى بيوتاً لم يرفع سقوفها أي: ولا يتبعني أحد وضع الجدران والأعمدة ولم يضع السقف.

ولا أحد اشترى غنمًا أو خَلِفات وهو ينتظر أولادها اشترى غنمًا أو خلفات، الغنم: معروفة، وأما الخَلِفات فهي: النوق الحوامل التي دنا ولادها، وهي أنفس الأموال عند العرب.

وهل المراد بالغنم أنها أيضًا حوامل قريبة الولادة؟ هذا محتمل أن يكون يرجع إلى الغنم ويرجع إلى الخلفات، كلها تنتظر أولادها، واحتمال أن يرجع إلى الخَلِفات فقط، وأما الغنم فلا يشترط فيها هذا؛ وذلك لاشتغال قلوب أصحاب الغنم بها ولو لم تكن حوامل؛ لأنها تحتاج إلى عناية ورعاية لضعفها، تحتاج أن يلاحظها في الصباح والمساء، وفي وسط النهار، وأن يضع لها العلف والماء، وأن يتعاهدها، ويرضع صغارها، وما أشبه ذلك، أما الإبل فهي تقوم بأنفسها؛ لأنها قوية وتتحمل.

قال: فغزا فدنا ... لماذا استثنى هؤلاء الثلاثة وقال: لا يتبعني أحد منهم؟ لأن هؤلاء قلوبهم مشتغلة بهذا الأمر الذي قرب حصوله ولمّا يتم.

انظر لو أن إنساناً تزوج امرأة ولم يدخل بها أين سيكون قلبه؟ سيكون مع هذه المرأة بلا شك، ليس له تفكير ولا همّ إلا بها، بل لو كان عنده هاتف فالمكالمة الواحدة بالثلاث والأربع ساعات، فكيف سيكون حاله وأين سيكون قلبه إذا خرج إلى الجهاد؟ وكذلك الذي عنده إبل قريبة الولادة سيكون مشغولًا بها، هل ولدت أم لا؟ بماذا جاءت له؟ وذاك الإنسان الذي بنى البيوت وما بقي عليه إلا السقف قلبه أيضًا مشغول، يفكر لو أنه أكمل هذه البقية اليسيرة، واكتمل الدار وصارت صالحة للسكنى.

قال: فغزا فدنا من القرية هذه القرية يقال: إنها أريحا -والله أعلم، هي من المبهمات كما سبق، ذاك مبهمات في الأعلام، وهذه مبهمات في البقاع، ولا نستفيد شيئًا إذا عرفنا اسمها.

قال: فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور يعني: هي مأمورة أن تمشي على وفق ما رسم الله وخطه لها فهي تتهيأ للغروب، وأنا مأمور حيث إنه مؤتمر بأمر الله بالقيام بحقوقه بالجهاد في سبيله وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا يعني تتوقف لا تغيب حتى يفرغ من مهمته، يُفتح عليه فحبست حتى فتح الله عليه وهذه آية ومعجزة وقعت لذلك النبي ﷺ تأخر غروبها، أبطأت في حركتها، أو توقفت تمامًا حتى فتح الله عليه، فصار ذلك العصر طويلًا كفاه للقيام بما عزم عليه من الفتح فجمع الغنائم والغنائم: هي ما يحصل من العدو في الحرب، فإذا أخذ على الصلح -من غير حرب- يقال له: الفيء، ولا يقال له غنيمة، فجمع الغنائم فجاءت -يعني   النار- كانت تأتي نار وتحرق جميع الغنائم، لا يحل لهم قليل ولا كثير من هذه الغنائم فجاءت -يعني النار- فلم تَطعمها أي: لم تأكل أو تحرق منها شيئًا، فقال: إن فيكم غُلولًا والغلول هو: الأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم، بالنسبة لشريعتنا، وأما السابقون فهو: الأخذ من الغنيمة مطلقًا؛ لأنهم لا يحل لهم الأخذ منها، ولا تقسم بينهم إن فيكم غلولًا فليبايعني من كل قبيلة رجل وذلك لأنهم كثير، قيل: إنهم يبلغون سبعين ألفاً، فهو لا يستطيع أن يبايع الجميع، فبايع من كل قبيلة واحداً، فلزقت يد رجل بيده التصقت فيها فقال: فيكم الغلول فليبايعني قبيلتك يعني: واحداً واحداً فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده هذه الطريقة التي يُعرف بها الغُلول آن ذاك، فقال: فيكم الغلول فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، فلم تحلَّ الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل الله لنا الغنائم لمّا رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا، متفق عليه.

وهذا من خصائص هذه الأمة كما جاء عن النبي ﷺ: فضلت على الأنبياء بست[3] وفي بعضها: أعطيت خمساً[4] وذكر منها قوله: وأحلت لي الغنائم فهذا من خصائص النبي ﷺ وخصائص هذه الأمة.

في هذا الحديث آية من آيات الله وعظمة قدرته، وأن هذا الكون مسخر لأمر الله ، وأن الله يستجيب لأوليائه، ويسخر لهم هذه الكائنات العظيمة، فتنحبس الشمس من أجل دعوة واحد منهم دعاها.

بقي سؤال أخير وهو لماذا أورد النووي -رحمه الله- هذا الحديث في باب الصدق؟ ما العلاقة بينه وبين موضوع الصدق؟

تذكرون الحديث الذي مضى في الليلة الماضية: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه[5] فهذا الإنسان الذي سيخرج وهو قد تزوج امرأة ولم يبنِ بها، أو بنى بيتًا ولم يضع السقف، أو أنه له هذه الخَلِفات وتوشك أن تلد ولمّا تلد، هل سيسأل ربه الشهادة بصدق؟ هو يريد أن يكمل هذا العمل وهذا المشروع، ويريد أن يرى أولاد هذه الإبل، أو أن يدخل بهذه المرأة، فمثل هذا لا يُظن أن نفسه تصدق في طلب الشهادة، فيفوته حظ عظيم، وتضعف عزيمته عند مصاولة العدو، ويقلّ صبره فلا يصدقهم عند اللقاء، هذا وجه الارتباط بين هذا الحديث وبين باب الصدق، وهذا من دقة الإمام النووي -رحمه الله- وعميق فهمه.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول النبي ﷺ: أحلت لكم الغنائم (4/ 86) برقم (3124)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة (3/ 1366) برقم (1747).
  2. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب تزويج الأب ابنته من الإمام (7/ 17) برقم (5134)، ومسلم، كتاب النكاح، باب تزويج الأب البكر الصغيرة (2/ 1039) برقم (1422).
  3. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/ 371) برقم (523).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (1/ 95) برقم (438)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/ 370) برقم (521).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (3/ 1517) برقم (1909).

مواد ذات صلة