الثلاثاء 04 / ربيع الآخر / 1446 - 08 / أكتوبر 2024
حديث «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله..» (1-5)
تاريخ النشر: ٠٩ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 3658
مرات الإستماع: 22025

بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحديث الأول في باب المراقبة هو:
حديث عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم[1].

هذا حديث عظيم، يتضمن مسائل كباراً، حيث إن فيه بيان مسائل الدين العظام، وفيه بيان أصوله الكبار، وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان.

وجاء هذا الحديث على طريق السؤال والجواب، جاء جبريل ﷺ إلى النبي ﷺ بهذه الصفة ليسأله، وذلك يفيد فائدة وهي: أن العلم في إيصاله إلى الناس يمكن أن يوصل إليهم بطرق متعددة، منها طريق السؤال والجواب، فيمكن أن يعلّم الناس بالسؤال والجواب، كما فعل جبريل ﷺ، فجبريل حينما سأل لم يكن يسأل عن جهل وحاجة إلى الجواب، وإنما كان يسأل ليتعلم السامع من أصحاب النبي ﷺ كما في آخر الحديث.

قال: إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ولا شك أن جبريل ﷺ ظهر لهم بأحسن صورة، شديد بياض الثياب، وذلك يدل على فضل هذا اللون من اللباس، وأن هذا أفضل الألوان، وقد جاء ذلك صريحاً عن النبي ﷺ: البسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا به موتاكم[2].

قوله: شديد سواد الشعر يدل على أن هذا اللون من ألوان الشعر أفضل الألوان، فهو أفضل من اللون الأبيض، ومن اللون الأشقر، ومن اللون الأحمر، وما إلى ذلك من الألوان، هكذا طلع جبريل ﷺ.

والشعر الأسود هو الذي كان يتمدح به الشعراء النساء، يصفون الشعر الأسود للمرأة ويمدحونها بذلك، أما الألوان الأخرى من الشعر فليست بمنزلته، وهذا اللون في الشعر هو ما يعرف في غالب صفة العرب، بخلاف غيرهم غالباً.

ولكن فطر الناس إذا تغيرت، وتكدرت أمزجتهم وأذواقهم صاروا يستحسنون ما ليس بالحَسن، ولربما كانت الهزيمة والفشل والإعجاب -إعجاب المنهزم بالمنتصر- يقلب ذوقه، ويكدر مزاجه، فيستحسن القبيح، ويتصنعه تصنعاً، ولو كان ذلك على سبيل المُثلة، كما هو مشاهد الآن في صور مشينة فجة لا تليق تظهر فيها المرأة مقلدة لأعداء الإسلام، بل لربما سرحت شعرها وصبغته بألوان من الأصباغ، فلا يظهر له لون واحد بل ألوان متعددة، إذا رأيتها تذكرت بعض قول الله في صفة بعض خلقه.

قال: لا يُرى عليه أثر السفر، العادة أن المسافر يظهر عليه الشعث، وتغير الحال من ثياب، وشعر قد انتفش، وما إلى ذلك، لاسيما في ذلك الزمان، فهو لا يظهر عليه أثر السفر كأنه من أهل البلد، ومع ذلك لا يعرفه أحد، ولم يقل: لم أعرفه؛ لأنه قد يعرفه غيره، ويكون من أهل المدينة، لكن قال: لا يعرفه منا أحد.

يقول: "حتى جلس إلى النبي ﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه"، في بعض الروايات أنه استأذن ونادى النبي ﷺ، "قال: يا محمد، أدنو؟"، يسأل يقول: هل أدنو؟، فقال له: ادنُ، وفي كل مرة يعيد هذا السؤال حتى اقترب جداً[3].

قال بعض أهل العلم: إنه لربما تعمد ذلك، تعمد أن لا يسلم، وتعمد أن يقول: يا محمد، من أجل أن يعمّي على الناس، يظنون أنه من الأعراب، أنه ليس بملَك.

وقوله: يا محمد، مع أن الله يقول: لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا [النــور: 63]، فيدخل تحت هذا التوجيه الرباني -لا تجعلوا دعاء الرسول..- المعاني التي ذكرها المفسرون، لا تجعلوا دعاءه كدعاء بعضكم بعضا، لا تجعلوا نداءه بصوت مرتفع، أو كالذين ينادونه من وراء الحجرات، أو أن تنادوه باسمه، تقول: يا محمد، بل الأدب أن تقول: يا رسول الله، أو يمكن أن يكون هذا بقلب المعنى، أي: لا تجعلوا دعاء الرسول يعني لا تجعلوا نداء رسول الله ﷺ لكم، يعني: إذا دعا الواحدَ منكم كما لو دعاه أحد من الناس؛ لأن دعاء مصدر، يأتي بمعنى الفاعل والمفعول.

إذا دعاك النبي ﷺ فأجب، ولو كنت في الصلاة، كما علمنا النبي ﷺ، حيث عاتب من دعاه ولم يجبه واعتذر بأنه يصلي، احتج عليه النبي ﷺ بهذه الآية، ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، مع أن أصل الآية إنما هو في دعائهم إلى الإسلام، وشرائع الدين، وهدايات الله ، فاحتج بها النبي ﷺ على معنى يدخل في عموم معناها، وهو إذا دعاك يعني: ناداك يا فلان، فيجب عليك أن تجيب ولو كنت في الصلاة[4].

فيمكن أن جبريل قال: يا محمد، باعتبار أن الملائكة غير مخاطبين بقوله: لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا [النــور: 63]، هذا مخاطب به الأمة، ويمكن أن يكون قال ذلك للتعمية على الموجودين، حتى لا يكتشفوا أنه ملَك قد حضر بينهم، والعلم عند الله .

قال: فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، هذا واضح المعنى فيه، أسند ركبتيه هو إلى ركبتي النبي ﷺ حتى التزقت بها، من شدة القرب.

قال: ووضع كفيه على فخذيه، هذه تحتمل أن يكون المراد أنه وضع كفيه على فخذي نفسه، وهذه الجلسة كالتي نجلس فيها بين السجدتين، وهي جلسة طالب العلم، إذا جلس في مجلس العلم يجلس ويتأدب بهذه الجلسة، وتحتمل معنى آخر: وضع كفيه على فخذيه أي: على فخذي النبي ﷺ، هذا لربما يؤيده بعض ما جاء في بعض الروايات في غير الصحيحين، في رواية عند النسائي[5] يؤخذ منها أن اليدين وضعهما على فخذ رسول الله ﷺ.

وهذا الأمر فيه غرابة، فمن أهل العلم من حمله على أن المراد به أيضاً مزيد التعمية على الحضور، فهذه الجلسة جلسة غريبة، وطالب العلم يجلس ويضع يديه على فخذيه، ولكن أيضاً لا يَلصق بالعالم فيُلصق ركبتيه بركبتيه، فقد يؤذيه ويزاحمه، فوضع كفيه على فخذي النبي ﷺ، يمكن أن يكون ذلك من باب أن لا يُعرف، أن يعمي على الحاضرين فلا يعرفوه.

فقال: يا محمد، ولم يقل يا رسول الله، والجواب عنه كما سبق، أخبرني عن الإسلام.

جبريل كان يعرف هذه الأشياء، ويؤخذ من ذلك فائدة: وهي أن الإنسان يمكن أن يسأل عما يعلم إذا كان له غرض صحيح في ذلك، ومن هذه الأغراض الصحيحة أن يكون مراده أن يُسمع الآخرين، يريد أن يتعلم الناس من خلال هذا السؤال.

وهنا مجيء جبريل ، وسؤاله للنبي ﷺ، النبي ﷺ أكثروا عليه من الأسئلة، فنهاهم النبي ﷺ عن هذا، وقال الله لهم: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا [المائدة:101]، وهذا في وقت نزول الوحي؛ لأن الإنسان قد يسأل عن شيء لم ينزل فيُفرض من أجل السؤال.

كما قال النبي ﷺ: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله ﷺ: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه[6].

ولهذا كان الصحابة يتحرزون من سؤال النبي ﷺ، وقلت أسئلتهم جداً، حتى إنه ليعدها العاد، وإذا نظرتم إلى القرآن تجدون أنها قليلة جداً، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ [الأنفال:1]، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222]، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217]، فهي أسئلة قليلة ومحدودة، وكانوا يفرحون إذا جاء الأعرابي من البادية يسأل النبيﷺ ليستخرجوا علماً جديداً بهذا السؤال.

فجبريل جاءهم بهذا الفيض العميم عن هذه المسائل الكبار العظيمة، التي ترجع إليها أصول الدين، فسأل عنها وهم يسمعون.

وفي هذا أيضاً فائدة أخرى، وهي: أن الملائكة -عليهم الصلاة والسلام- عندهم قدرة على التصور والتشكل بأشكال مختلفة، يأتون بصورة الرجل كما في هذا الحديث.

وكثيراً ما كان جبريل يأتي للنبي ﷺ في صورة رجل من الصحابة اسمه دحية الكلبي، جاء هذا في أحاديث صحيحة[7].

ولما سأل الحارث بن هشام رسول الله ﷺ عن كيفية مجيء الوحي إليه ذكر له أنه أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس -وهو أشده عليّ- فيَفصِم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول[8].

ذكر هذه الحالة أيضاً، فالمقصود: أن هذه الحالة منها مجيء جبريل إلى النبي ﷺ بصورة الرجل.

وهذا يدل أيضاً على أمر آخر، وهو ضعف ما ذكره كثير من أهل العلم في معنى الوحي سواء في اللغة أو في الشرع، قالوا: الوحي هو الإلقاء السريع الخفي، وهو ليس بسريع وليس بخفي، ومجيء دحية إليه ليس بسريع ولا بخفي، وإنما أحسن ما يقال في معنى الوحي هو: كل ما ألقيتَه على غيرك ليعلمه، كل ما أعلمتَ به غيرك فيمكن أن يسمى في اللغة وحياً.

وهو في الشرع: ما يلقيه الله إلى أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- مما أراد إعلامهم به بالطريقة التي يريدها، هذا معنى الوحي في الشرع، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله -سبحانه- (1/ 36)، رقم: (8).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في البَياضِ (4/ 90)، رقم: (4063)، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان (3/ 319)، رقم: (994)، والنسائي، كتاب الجنائز، أيُّ الكفن خير (4/ 34)، رقم: (1896).
  3. أخرجه النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، صفة الإيمان والإسلام (8/ 101)، رقم: (4991).
  4. عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي فمر بي رسول الله ﷺ فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم... أخرجه البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال (4/ 1704)، رقم: (4370).
  5. عند النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه، صفة الإيمان والإسلام (8/ 101)، رقم: (4991)، قال: "حتى وضع يده على ركبتي رسول الله ﷺ قال يا محمد، أخبرني ما الإسلام ....".
  6. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (2/ 975)، رقم: (1337).
  7. أخرجه النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، صفة الإيمان والإسلام (8/ 101)، رقم: (4991)، وأحمد (41/9)، رقم: (24462).
  8. أخرجه البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (1/ 4)، رقم: (2).

مواد ذات صلة