الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله..» (4-5)
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 2617
مرات الإستماع: 4115

تابع شرح حديث جبريل عليه السلام

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زلنا نتحدث عن سؤالات جبريل لرسول الله ﷺ، قال: ... ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.

يعني: أن الله اصطفى من عباده من البشر رجالاً ذكوراً، أنزل عليهم وحيه، وأرسلهم إلى الخلق لدعوتهم إلى التوحيد والإيمان، وأنزل عليهم الشرائع، ومنهم من أرسله إلى قوم كفار وهم الرسل، ومنهم من بعثه يجدد شريعةً كانت قبله، وهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وكل رسول فهو نبي، وقد يكون نبياً يوحى إليه، ولكنه ليس بمرسل.

وهؤلاء الرسل كُثُر، وقد جاء في حديث لأبي ذر -في إسناده بعض الضعف- عدد الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وعدد الأنبياء[1].

فنؤمن بهؤلاء الرسل جميعاً، ومن كفر بواحد منهم فكأنما كفر بكلهم؛ لأن الله قال: وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 136].

قوله: واليوم الآخر يعني: يوم القيامة، والبعث بعد الموت، وقيل له: اليوم الآخر ربما لأنه لا ليل بعده، أو لأنه اليوم الآخر يعني: أن الدنيا عاجلة وقريبة، والآخرة مستأخِرة فهو يوم آخِر؛ لأنه يأتي بعد الحياة الدنيا.

فيؤمن الإنسان باليوم الآخر، وما يحصل فيه مما قصه الله من تغير نظام هذا الكون، وما يحصل فيه من الحساب والجزاء، ووزن الأعمال، والاجتياز على الصراط، وما ذكر من الحوض والجنة والنار، كل ذلك يحصل في ذلك اليوم الآخر.

مراتب الإيمان بالقدر

قال: وتؤمن بالقدر خيره وشره، أي: أن الله قد علم ما هو كائن، وأن الله قد كتب ذلك، وأن الله -تبارك وتعالى- يخلق مرتبة الخلق التي توجد بها الأشياء، وأن الله يشاء ويريد.

فهذه أربعة مراتب لابد من الإيمان بها فيما يتصل بالقدر: العلم الشامل المحيط، والإرادة، والمشيئة العامة، وأن الله يخلق هذا المراد بحيث يقع.

والله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، وكل ذلك كتبه في اللوح المحفوظ.

والله هو الذي لا يقع في ملكه إلا ما يريد، وهو الذي يخلق الخلق جميعاً، وكل ما سوى الله فهو مخلوق، وليس هناك إلا خالق أو مخلوق، ويؤمن العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.

وإضافة إلى ما ذكرت من التقدير في الأزل، كذلك هناك تقدير آخر، وهو ما يسمى بالتقدير العمري، بحيث إن الإنسان وهو في بطن أمه يُبعث إليه الملك فيَنفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: الرزق، والأجل والعمل، شقي أم سعيد، فهذا ما يسمى بالتقدير العمري.

وهناك تقدير حولي، قال –تبارك وتعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4].

وهناك ما يكتب في صحف الملائكة، وهو الذي يحصل فيه التغيير والتبديل، يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39]، الذي هو اللوح المحفوظ، فما في علم الله لا يتغير، ولا يحصل فيه تبديل، وإنما الذي يحصل فيه التغيير والتبديل هو ما في أيدي الملائكة من الصحف، ولذلك جاء في الحديث: من سره أن يُبسط له في رزقه، أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه[2]، فيكون قد كتب في الصحف التي في أيدي الملائكة أنه يعيش خمسين سنة، وعلم الله في الأزل أنه يصل الرحم، وأنه سيضاف إلى عمره بسبب ذلك هذا المقدار إلى السبعين، عشرين سنة، ثم بعد ذلك يُمحى ما في الصحف التي في أيدي الملائكة، ويضاف إليها هذا القدر الجديد، هذا هو المراد، أما ما في علم الله فهو لا يتغير، ولا يتبدل، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

تؤمن بالقدر خيره وشره يعني: حلوه ومره، ومقتضى ذلك أن يرضى الإنسان ويسلم ولا يتسخط ولا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن يقول: قدر الله وما شاء فعل.

مراتب المراقبة

قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك وهذه هي مرتبة المراقبة التي أشرت إليها فيما سبق.

من أهل العلم من يجعل المراقبة على مرتبتين، الأولى أعلى من الثانية: أن تعبد الله كأنك تراه، أي: أن العبد يكون حضور قلبه في حال التعبد كأنما يشاهد ربه، فهذه مرتبة عالية جداً، يحصل معها الخشوع، والخضوع، والتذلل، والاستكانة، والمراقبة.

المرتبة الثانية: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، يعني على الأقل تستحضر رقابة الله عليك.

ومن أهل العلم من يقول: إنها مرتبة واحدة موصوفة بما ذكر، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فاعلم أنه يراك، بمعنى ترتقي إلى هذه المرتبة التي تستحضر فيها رقابة الله ، وأنه مطلع عليك، ومشاهد لك.

ومرتبة الإحسان أعلى من مرتبة الإسلام، ومن مرتبة الإيمان، ولا يصل إلى مرتبة الإحسان إلا الآحاد من المؤمنين، فتحتاج هذه المرتبة إلى مجاهدة، وتحتاج إلى تهذيب للنفس وإصلاح، وتحتاج إلى ترويض لها، وتعاهد للقلب.

قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، أي: أخبرني عن وقت الساعة، والساعة هي القيامة، وقيل لها ذلك إما لعظم شأنها، فصح ذلك عند الإطلاق أن يتوجه إليها، ويمكن أن يكون ذلك لسرعة وقوعها، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، فقيل لها الساعة، وقيل غير ذلك.

وقد سئل النبي ﷺ عن هذا، يقول الله : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۝ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ۝ إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات:42-44] منتهى علم الساعة إلى الله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ۝ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:45-46].

وجاء رجل إلى النبي ﷺ، قال له: متى الساعة؟، فقال له النبي ﷺ ماذا أعددت لها؟[3].

قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، هذا يدل على أن الساعة لا يعلم بها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، أخفى الله علمها عن الخلق لحكمة يعلمها.

قول العالم: لا أعلم

وفي هذا فائدة، وهي أن الإنسان إذا كان لا يعلم وسُئل عن شيء فإنه يقول: لا أعلم.

وقد نُهي النبي ﷺ عن التكلف، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86]، ومن التكلف أن يجيب الإنسان في أمور لم يتحقق منها، لم يعلمها، وهذا أمر قرنه الله -عز وجل- بالإشراك، كما في قوله -تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33].

وقال –تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، وهذا من أعظم المحرمات، وفيه اجتراء على الله، وكلام أهل العلم كثير في هذا، في مَن سُئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: لا أعلم، ومن أخطأ: لا أدري، أصيبت مقاتله، ولا أدري نصف العلم.

ومن أراد أن يطالع كلام السلف فلينظر في هذا كتاب جامع بيان العلم وفضله، للحافظ ابن عبد البر، ومقدمة الدارمي للسنن، إلى غير ذلك ممن ذكروا هذه القضية.

وذكر الشاطبي –رحمه الله- في كتاب الموافقات نماذج كثيرة، وذكر من أحوال الإمام مالك وروايات عنه أنه ربما سئل عن أكثر من عشر مسائل، أو عشرين مسألة، يأتي الرجل من المغرب بهذه المسائل، ثم يسأل، فيقول له: لا أدري، يقول: بماذا أرجع للناس؟ فيقول: قل لهم: مالك لا يدري، فما ضره وهو إمام دار الهجرة، يُسأل عن عشرين مسألة ولربما ما يجيب إلا مسألة أو مسألتين والباقي يقول: لا أدري.

فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص والسداد والهدى والرشاد، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله -عز وجل- (5/ 2283)، رقم: (5819)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (4/ 2032)، رقم: (2639).

مواد ذات صلة