الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «إن ثلاثة من بني إسرائيل..» (1-2)
تاريخ النشر: ١٣ / ربيع الآخر / ١٤٢٦
التحميل: 4020
مرات الإستماع: 26061

إن ثلاثة في بني إسرائيل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث السادس في باب المراقبة، وهو حديث الثلاثة: الأقرع، والأبرص، والأعمى، الذي قصه النبي ﷺ علينا لنعتبر بما فيه، وما وقع لهؤلاء الثلاثة، ووجه تعلق هذا الحديث بباب المراقبة ظاهر، وهو أن الإنسان يجب عليه أن يراقب الله في نفسه، وما أعطاه وأولاه من العافية، وأن لا يجحد شيئاً من نعمة الله عليه في عافية في بدنه كانت مسبوقة بمرض، أو بغنى كان مسبوقاً بعدم، إلى غير ذلك مما يحصل للإنسان من الإنكار والجحود والإعراض، فلا يذكر نعمة الله عليه، ولا يؤدي حق الله فيها، بل قد لا يقر بذلك ولا يعترف به، يجحد أن ربه قد أنعم عليه وتفضل عليه، فهذا حديث أبي هريرة أنه سمع النبي ﷺ يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل...[1] يعني: من الأمة المعروفة التي تنتسب إلى يعقوب ، فإن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام-، فهؤلاء تناسلوا من نسل يعقوب، فيقال لهم: بنو إسرائيل.

قال: أبرص، وأقرع، وأعمى، وهذه علل ثلاث معروفة.

قال:فبعث إليهم ملَكاً، فأتى الأبرص فقال: أيّ شيء أحب إليك؟، يعني: الملك جاء بصورة رجل، وإلا لو جاء بصورته الحقيقية لكان ذلك سبباً للإذعان والخضوع، بل لم يطيقوا رؤيته، فجاءهم بصورة رجل، فخيرهم هذا التخيير، أيّ شيء أحب إليك؟، و"أحب" أفعل تفضيل، يعني: ما هو الشيء الذي تتمناه وهو الغاية في أمانيك؟، فقال: لون حسن وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قَذرني الناس، يعني أنه قال: إن غاية ما أتمناه هو زوال العلة، وهذا يدل على عظم نعمة الله على العبد.

ولو كانت العلة في جلده لا تؤثر عطباً، ولا تقعده على الفراش، وإنما يذهب ويجيء لا يشعر بألم، ولا شيء من ذلك، لا الأعمى، ولا الأبرص، ولا الأقرع، ومع ذلك لم يتمنَّ شيئاً في هذه الدنيا إلا زوال هذه العلة، فهذا الجلد الذي أعطانا الله إياه نعمة عظيمة جداً، لا يعادلها ما في الدنيا، وإذا نظر الإنسان في العلل التي يجد منها وجعاً، ولربما طرحته في الفراش، أو كان الموت أمام ناظره صباح مساء، فإن ذلك أعظم، وأعظم، فهذه من الأشياء المتعلقة بالجلد مما لا ألم له ولا خطر، ومع ذلك يعدل بها الدنيا بكاملها، لم يتمنّ شيئاً إلا زوال هذه العلة، قال: لون حسن، وجلد حسن، والبرص معروف بياض يقع في جلد الإنسان.

قوله: وجلد حسن، وذلك أنه لربما يحصل مع هذا البرص خشونة في الجلد وانقباض،، قال: ويذهب عني الذي قد قذرني الناس يقصد أن الناس لا يستسيغون رؤية هذه العلة.

فمسحه يمكن أن يكون مسحه بكامله، أو مسح مواضع الاعتلال، فذهب عنه قذره، وأُعطي لوناً حسناً، وهذا يدل على عظم قدرة الله ، وأمْره، إذا أراد شيئاً يكون، فيتحول كل شيء، فلا يتعاصى عليه شيء، ولا يتعاظم عليه شيء، مهما نزل بالإنسان من البلايا والأوجاع والأمراض، ومهما وقع فيه من الأخطار والأهوال، فينبغي أن يتذكر الإنسان هذا المعنى، فالله قادر بلحظة أن يغير حاله من حال إلى حال، وإنما الله يبتليه ويختبره.

فهذا الرجل مسحه هذا الملَك فبرئ بإذن الله ، مع أن الطب بقي عاجزاً إلى هذه الساعة عن إيجاد علاج لمثل هذا المرض، مع تطوره، وعيسى ﷺ ذكر في معجزاته وآياته أنه يبرئ الأكمه والأبرص، وخص هذه العلل بالذكر مع أنه كان يبرئ غيرها من الأمراض؛ لأنها لا علاج لها مما يعرفه الناس، مع أنه ما أنزل الله داء إلا جعل له شفاء، لكن قد يخفى على الناس.

فقال له: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، الرجل هذا يميل إلى الإبل، ولربما يكون هذا الميول عنده مناسباً لحاله التي آل إليها فيما بعد من الجحود والنكران، وذلك أن الرقة كما أخبر النبي ﷺ في أهل الغنم، بينما الصلف، والغلظة والجفاء في أهل الإبل، كما قال النبي ﷺ في الفدّادين من ربيعة ومضر[2].

فالحاصل أن هذا الرجل قال: الإبل، أو قال: البقر، هذا شك من الراوي، هل قال: الإبل أو البقر، ويوضحه ما جاء في بعض الروايات أنه شك بين الاثنين، يعني: هل الثاني -وهو الأقرع- الذي طلب الإبل، وهذا طلب البقر أو العكس، والراجح: أن هذا طلب الإبل بدليل أنه قال بعده: فأُعطي ناقة عشراء، والناقة العشراء هي الحامل، التي مضى على حملها عشرة أشهر، فهي قريبة الولادة، وهي أنفس أموال العرب، وبعض أهل العلم يقول: إذا مضى عليها عشرة أو ثمانية والأمر قريب، والله يقول: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ [التكوير:4]، فهي أنفس الأموال فتُترك بعد ذلك؛ للهول الذي يصيب الناس عند قيام الساعة، فالمقصود أنه أُعطي ناقة عشراء.

فقال: بارك الله لك فيها، يمكن أن يكون هذا من قبيل الخبر، وأنها طرحت فيها البركة، ويمكن أن يكون هذا من قبيل الدعاء، أي: دعا له بالبركة، والإنسان إذا حصلت له البركة فإن ذلك المال يعظم، وإذا كان في الولد فكذلك، فليست العبرة بالكثرة، وإنما العبرة بالبركة، فإذا نزعت البركة فإن المال ولو كان كثيراً فإنه يذهب، ولا يدري الإنسان أين ذهب، فتركبه الديون، ويقع في حرج كثير، ويحتاج إلى الناس.

قال:فقال: شعر حسن، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، يعني: كل إنسان يرى علته تسيطر عليه، فهو لا يفكر إلا بها وبعلاجها والتخلص منها، فمع تعدد هذه العلل تعددت هموم أصحابها، فكأن هذا الإنسان قد نزلت به مصائب الدنيا كلها، فلم يختر شيئاً من عرضها، وحطامها ومتاعها، وإنما اختار الشفاء من القرع، مع أنها في نظر الإنسان قضية سهلة.

إنسان ذهب شعره وأصيب بالقرع، يمكن له أن يضع عمامة على رأسه، وليس كالمرأة التي قد تحرج أو نحو ذلك، فالرجل الأمر فيه قريب وسهل، ومع ذلك بقيت هذه القضية لا يعادلها ما في الدنيا من المتاع، فقال: ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، قال: فمسحه، فذهب عنه وأُعطي شعراً حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملاً، فقال: بارك الله لك فيها، الأول أعطي ناقة عشراء، وهذا أعطي بقرة حاملاً.

فأتى الأعمى، فقال: أيّ شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إليّ بصري، فأُبصِر الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره هو يريد أن يرى الناس، نحن لا نستشعر هذه النعمة العظيمة، وإنما يشعر بها من فقدها، وهذا فيما هو أدنى من هذا، الإنسان لو تعطل فيه جزء يسير أحياناً لا ينام الليل، ثم يكتشف أنه عرق صغير جداً هو الذي سبب له هذا الأرق، والإشكال والألم والسهر، وما أشبه ذلك، ثم يكون عند هذا الإنسان ثقافة واسعة بهذا العرق، وفوائده، أو بهذا العصب، وطرق العلاج، وما توصل الناس فيه، ويكون صاحب اطّلاع على هذه الجزئية التي لربما لم يسمع عنها أصلاً قبل ذلك، ولم يعلم أنها موجودة، فهي تشتغل بتدبير الله ، وفضله علينا.

قال: فأي المال أحب إليك؟، قال: الغنم، فأُعطي شاة والداً بعض أهل العلم يفسر "شاة والداً" بالحامل، كاللذيْن قبله، والظاهر أنها ذات ولد، يعني: ولدت، لها ولد.

يقول: فأَنتج هذان، وولّد هذا أَنتج: هنا جاء به مبنياً للفاعل، والأصل والعادة هذا الفعل يعبر عنه بصيغة المفعول، يقال: فنُتج بالبناء للمفعول.

والشاة لا يقال: نُتج أو أَنتج، كما جاء هنا، وهو استعمال قليل، وإنما يقال فيها: ولّد الشاة، أما الإبل والبقر فيقال: أَنتج كما هنا في هذا الاستعمال، ويقال: نُتج بالضم، بمعنى أنه قام على توليدها، والشاة يقال: ولّدها، ويقال في بني آدم للتي تقوم على توليد المرأة يقال لها: قابلة.

فالحاصل أن هذا قام على ناقته فولّدها، وهذا قام على بقرته فولّدها، وهذا قام على شاته فولّدها، وهذا هو الذي حمل بعض أهل العلم أن يقول: إن الشاة الوالد بمعنى الحامل، لأنه قال: وولّد هذا، فهو قام على توليدها.

قال:ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، وهذا ابتلاء من الله ، وبه يدرك الإنسان أن ما يعطاه من العافية في البدن لاسيما إذا كان ذلك بعد اعتلال، أو ما يعطاه من المال فإن ذلك قد يكون ابتلاء له واختباراً؛ ليرى الله عمله، هل يشكر، أو لا يشكر، فالإنسان بحاجة إلى الاعتبار بهذا المعنى، ويتذكر حاله قبل ذلك.

وإن كان قد ورث الغنى كابراً عن كابر فليتذكر حينما خرج من بطن أمه ليس عليه ثياب، ولا يملك من الدنيا شيئاً، فرزقه الله .

فهذه أمور يتفضل بها الله على خلقه، فينظر كيف تعملون، والنفس فيها بغي وطغيان، لاسيما مع حال الغنى، إلا من عصمه الله ، فإذا عوفي الإنسان نسي المرض وشمخ بأنفه، وإذا اغتنى لربما يورثه ذلك البطر، إلا من عصمه الله وهداه وربط على قلبه، ولا يشكر في كثير من الأحيان؛ لأن الذي أعطي القليل ينتظر الكثير، والذي أعطي الكثير ينتظر الأكثر كما جاء في الآية التي نسخ لفظها: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً[3].

فهو دائماً مثل الذي يشرب من ماء البحر، لا ينتهي، ثم إذا نظرت إلى حال الناس وجدتهم يشتكون، الفقير يشتكي أن عليه ديوناً يطالَب بها، فيقلقه ذلك في ليله وفي نهاره، والغني قلِقٌ؛ لأن أمواله تفرقت في أيدي الناس، فتضيع عليه أموال وهو يتفرج وينظر، ولا يملك شيئاً، يطالبهم ويشكوهم ولا يجد نتيجة، فهو يتحسر على ما فات وضاع من أمواله.

والإنسان الغني الذي ضاعت منه أموال في أيدي الناس ينبغي أن يعتبر، وأن يتذكر، فلو أتينا بإنسان فقير مفلس، وعليه ديون، وقلنا له: يا فلان، ما رأيك أن يكون عندك عشرة ملايين، وتطالب الناس بأربعة ملايين ضائعة عليك؟، فسيقول: "جعلها تروح للبحر، ولا تأتي طول عمرها".

ولربما قال: هي صدقة، وأنا طيب النفس بها، لكن الإنسان لا تطاوعه نفسه إذا جاء الجد، فما الذي يجعل الذي يملك عشرة ملايين، ومائة مليون وأكثر وأقل يجد حرجاً وضيقاً لما يضيع عليه من الأموال القليلة أو الكثيرة؟، لكن لو نظر إلى حاله وحال من دونه لعرف نعمة الله عليه.

لو أتيت لإنسان مريض وإنسان معافى وإنسان فيه وجع خفيف وقيل له: يا فلان، أنت الآن تشكو من ماذا؟ رجلك مكسورة مجروحة؟، تعالَ شاهد هذا كيف يعاني معاناة يتمنى الموت معها.

كفى بك داءً أنْ ترى الموتَ شافياً وحسبُ المنايا أنْ يكنَّ أمانيا

يتمنى الموت ما يجده، فإذا رأى ما به من علة قال: أنا بخير وعافية.

لكن لربما تكون علة بسيطة تسيطر عليه، ويرى أنه قد نزل به من المرض والعلة ما لم ينزل بأحد، فإذا غلّب هذا وصوب نظره إليه جعل ذلك مسيطراً على فكره، فهو لا يفكر إلا به، فصار كأنه نزلت به أوجاع الدنيا -نسأل الله العافية- مع أنه ما نزل به إلا شيء يسير، وقل مثل ذلك إذا ضاع عليه شيء من المال، إذا صوب نظره إليه يشعر أنه خسران وأمواله قد ذهبت، ويتقلب على فراشه كما يتقلب ذلك المديون المسكين الذي يتوقع في أي لحظة أنه يُجرجر، وعنده عيال لا يجد شيئاً يغنيهم به.

لاحظوا الفرق مع أن هذا يتململ، وذاك يتململ، لكن فرق بين تململ هذا وتململ هذا، فالإنسان بحاجة أن يفكر في نعم الله، وفي عافيته، وما أعطاه وأولاه، ويسعد في حياته؛ لأن الإنسان كثيراً من الأحيان هو الذي يجلب على نفسه العناء والشقاء بطريقته في النظر والتفكير وتدبير الأمور.

نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3/ 1276)، رقم: (3277)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق (4/ 2275)، رقم: (2964).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن (4/ 1594)، رقم: (4126)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه (1/ 71)، رقم: (51).
  3. أخرجه أحمد (32/ 31)، رقم: (19280).

مواد ذات صلة