الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
حديث «إن الدنيا حلوة خضرة..»
تاريخ النشر: ٢٩ / ربيع الآخر / ١٤٢٦
التحميل: 32778
مرات الإستماع: 58155

إن الدنيا حلوة خَضِرة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحديث الثاني في باب التقوى هو حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء[1]رواه مسلم.

قوله ﷺ: إن الدنيا حلوة خَضِرة ذكر ﷺ معنيين اثنين تتعلق بهما النفوس، الأول: من جهة الطعم، والثاني: من جهة النظر، أما من جهة الطعم فلا شك أن النفس تستهويها الأشياء الحلوة، وكان النبي ﷺ يحب الحلوى والعسل، وكان يعجبه ﷺ الحلو البارد، وهو أكمل الناس ﷺ ذوقاً، وأسلمهم طبعاً، فهذه أمور تميل إليها النفوس، وجُبلت على محبتها.

الصفة الثانية للدنيا: أنها خضرة، وذلك أيضاً مما تطمح إليه النفوس، ويستهويها وتحبه من جهة اللون، فإن النفس تبتهج بلون الخضرة وتحبه، وتلتذ بالنظر إليه، فهي لذة من جهة النظر، فالمكان الأخضر أو النبات الأخضر، أو نحو ذلك شيء يبهج النفس، فوصف النبي ﷺ الدنيا بذينك الوصفين، وإن كان الخَضِر من النبات قد لا يكون مما يستجاد منه من أنواع البقول ونحوها، قد تكون رديئة، ولكن المقصود اللون، لونها يعجب الناظرين، فالدنيا كذلك ليست جيدة في حقيقتها، وليست ذات قيمة تستحق أن يتكالب عليها الناس، وأن يصرفوا أوقاتهم وأنفاسهم وأطماعهم، فتكون هذه الدنيا شغلاً شاغلاً لهم، ولهذا قال النبي ﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً من شربة ماء[2].

وإذا نظر الإنسان إلى الكفار وما هم فيه من النعيم والتمكين، قد ذللت لهم الدنيا تذليلاً، إذا نظرت إلى مراكبهم، وإلى طرقهم ومساكنهم وحدائقهم، وإلى ما يتنعمون فيه من ألوان المرافق، والتسهيلات في أمور الحياة الدنيا، الإنسان تأتيه حاجته من غير تعب، تصل إلى بيته، كل ما أراد من أمور رسمية، ومن غير رسمية، البريد، والجوازات، والرخصة، وما إلى ذلك، وهو في بيته تصل إليه، أضف إلى ذلك ما يحصل من الكفالة للفقير والأرملة والإنسان الذي لا يعمل، فيُعطَى المسكن الذي يتخيره، وتُجرى عليه نفقة، ذُللت لهم الحياة، وما يتنعمون به فوق ذلك من الأجواء الجميلة غالباً، والأمطار سحّاء شتاء وصيفاً.

فإذا نظر الإنسان إلى مثل هذه الأشياء، وقارن حال أولئك بحال كثير من المسلمين الذي يتشحطون في الفقر، أستاذ جامعي راتبه مائتان وخمسون ريالاً في بعض البلاد الإسلامية، خريج الجامعة لربما لا يجد مائة وخمسين ريالاً راتباً، ماذا يعمل له؟ كيف يقيم أسرة؟.

الكثير من البلدان يعيشون في فقر يكسر ظهورهم، والكفار يتنعمون بألوان النعم والترف، وإذا نظرت إلى متوسط دخل الفرد عندهم وجدت أن أغنى الناس في بعض البلاد الإسلامية لا يصل إلى دخل الإنسان المتوسط في تلك البلاد، بل لربما كان الوزير في بعض البلاد الإسلامية لا يتقاضى ما يتقاضاه الموظف العادي في بعض تلك البلاد.

فأقول: الإنسان أحياناً إذا نظر بهذا النظر المجرد قد يحزن، ولكن إذا تذكر أن الدنيا حلوة خضرة، وتذكر أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، يعني: أقل من جناح البعوضة، لأنها لو كانت تساوي جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء، فمعناها: أقل من جناح بعوضة، وما قيمة جناح البعوضة أصلاً؟، وما قيمة البعوضة؟

إذا جلس الإنسان أحياناً يفكر في الثروات الهائلة التي يقيمون عليها حضارتهم، تؤخذ من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا، بلاد شاسعة، مزارع هائلة في بلاد إفريقية وآسيوية، بلاد لا تقطعها السيارة إلا بعد ساعات -أعني المزرعة الواحدة، كل ذلك لهم، أخذوه منذ عشرات السنين حينما استعمروا تلك البلاد.

أضف إلى ذلك عقول البشر، الطبقات المثقفة في بلاد المسلمين، العلماء في العلوم الطبيعية وغيرها، أين يذهبون؟، يذهبون هناك؛ لأنه لا يجد ما يحتاج إليه لا المال ولا المختبرات، ولا غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها لينمي خبرته، ويطور نفسه.

خبرات، عقول، تهاجر وتذهب، كل ذلك أقل من جناح البعوضة، فهذا الأمر يضبط سلوك الإنسان، وعقله وتصرفه ودينه، فلا يتزعزع، فالدنيا تذهب، والدهر دُوَل، واليوم لهم وغداً لغيرهم، وإذا بقي للإنسان الدين فإن الدنيا تذهب وتجيء، فما عليه إلا أن يأخذ بأسباب القوة المادية، والله سيبارك له في جهده ويرفعه وينصره، لكن المشكلة إذا ذهب الدين حتى لو بقيت الدنيا، فماذا إذا ذهب الدين، وذهبت الدنيا؟ شرار الناس فقراء بني إسرائيل لا ديناً أبقوا ولا دنيا جمعوا، نسأل الله العافية.

فالنبي ﷺ ينبهنا لهذا المعنى، يحذرنا: حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، يعني: يجعلكم خلفاء للذين كانوا قبلكم، نحن جئنا -هذا الجيل- وكانت أجيال قبلنا قد عمروا الأرض، كان فيهم التجار والزراع، والعمال، وفيهم أهل علم، وأهل صناعة، إلى غير ذلك مما يحتاجه البشر، هؤلاء جميعاً فنوا وجئنا بعدهم، ولم يكن بأيدينا شيء، فأعطانا الله وأولانا لينظر كيف نعمل، ويختبرنا بما أعطانا.

فمن الناس من يغلب عليه الطمع، وحب الدنيا، والتهافت عليها، وتذهب نفسه عليها حسرات، حتى لو لم يكن عنده شيء، فبعض الناس ليس عنده شيء، والدنيا تقطع قلبه، وإذا كان عنده منها قليل فهذا القليل يعبده من دون الله .

ومن الناس من يعطيه الله الكثير، ولكنها في يده وليست في قبله، فليست المسألة مسألة كثرة أو قلة، إنما المسألة هي فقر القلب، وتعلق القلب، فإذا كان القلب فقيراً لغير الله فإن فقره لا يقف عند حد، وإذا كان القلب فارغاً من محبة الله، والتعلق به، والإقبال عليه فإنه لا يمكن أن يُملأ بشيء، ولو أعطي الدنيا بما فيها، فهو كالذي يشرب من ماء البحر.

الكفار الذين عندهم ما عندهم هل رأيت أحداً منهم يقول: أنا راضٍ، ولا أحتاج شيئاً أكثر من هذا؟، أبداً، فلا يزالون يأخذون منها ويزدادون بالحق وبالباطل، ويأكلون أموال الناس بالباطل إلا قليلاً، ومع ذلك ما توقفوا عند حد.

فاتقوا الدنيا ليس معنى ذلك أن يتخلى الإنسان عنها ولا يعمرها، وإنما يأخذ المال من حله، ويتصرف فيه بحله، وينفق في حله في وجوه النفقات المشروعة والمباحة فقط، ويؤدي حق الله فيه.

فالنبي ﷺ كما في حديث آخر صور هذه الدنيا، لما حذر الدنيا قام رجل فقال: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي ﷺ، ثم قال: أين السائل؟، قال: أنا، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضِرةٌ حلوةٌ، وإن كل ما أنبت الربيعُ يقتل حَبَطاً أو يُلِم، إلا آكلة الخضِر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس، فاجترّت وثَلَطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوةٌ، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع[3].

فالربيع: مطر ينزل ويطلع ربيع جميل، وجيد وتأكله الأنعام، والربيع خير، والحبَط: الدابة تأكل كثيراً وينتفخ بطنها ثم تموت، أو تقارب الإهلاك.

إلا آكلة الخضِر، أكلت.. يعني: هذه الدابة هي التي تنجو من الموت، وتنتفع بالربيع، فهي تأكل بمقدار معين، وكذلك الذي يتهافت على الدنيا لا يقف عند حد، فتهلكه الدنيا.

ولهذا قال النبي ﷺ: أيها الناس اتقوا الله، وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها[4]، يعني: لا داعي للتهافت والتهالك عليها، اتق الله، خذه من حله، سيأتيك رزقك، لا تأخذ من هنا وهناك مما لا يحل.

ثم قال: واتقوا النساء النساء من الدنيا، والله يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].

فالنساء من الدنيا، وذكرها بعد الدنيا؛ لأنها من أعظم الفتنة التي في الدنيا، وإذا فسدت المرأة، فسد المجتمع، وإذا تبرجت المرأة، واستعرضت بزينتها فعلى المجتمع السلام، كثير من الناس -كما قال بعض السلف- يقول: لو أعطيت مفاتح خزائن الدنيا لأكون أميناً عليها لكنت أميناً، ولكن لا آمن نفسي على امرأة، وقد قال بعض السلف: لا تخلونّ بامرأة ولو قلت: أعلمها القرآن.

وقصة الراهب التي يذكرها المفسرون -وهي من الأخبار الإسرائيلية- تبين هذا المعنى، وإن كانت لا يعتمد عليها لكن فيها عبرة، وهي أن أربعة من بني إسرائيل اكتتبوا في غزوة في الجهاد، وكان عندهم أخت، فبحثوا عن أحد يضعونها عنده، وكانوا يذهبون للجهاد مدة طويلة، فلم يجدوا أحداً، فذهبوا بها إلى راهب في دير يتعبد به، وقالوا: هذه أختنا ضعها عندك حتى نرجع، نحن نخرج في سبيل الله، فرفض، فقالوا: نبني لها حجرة بجوار صومعتك.

فكان الرجل يأتي بالطعام ويضعه عند حجرته هو عند الباب، ثم يدخل ويغلق الباب، فتخرج هي من غرفتها وتمشي حتى صومعته وتأخذ الطعام وترجع، ثم جاءه الشيطان، وقال له: يا فلان، اتق الله، هذه عورة وأمانة في يدك، كيف تتركها تخرج من حجرتها، حتى تأتي إلى صومعتك، وقد يتعرض لها أحد، قد تتعرض لمكروه، وهي أمانة عندك، أنت رجل، اخرج أنت إلى غرفتها وضعْ الطعام عند الباب، فصار يفعل هذا من باب الإحسان إليها والخوف عليها وحفظ الأمانة، ثم جاءه الشيطان، وقال: أنت راهب، وعابد ومعتاد على الوحدة والانفراد في هذه البرية، وفي هذه الأماكن الخالية، وهي ليس عندها ما يرد عليها الصوت، وجارية وصغيرة في مقتبل العمر لا تستطيع أن تصبر على هذه الوحدة، لربما تجن وتموت، فلماذا لا تجلس عند الباب وتحادثها عند باب حجرتها، وتذكرها، وتقص عليها بعض العبر وبعض القصص، وبعض الأشياء التي تعظها فيها، فصار يحدثها، كل يوم يحدثها، فما زال كذلك حتى صار يدخل عندها، ثم وقع بها، فحملت، ثم بعد ذلك قتلها.

فلما جاء إخوانها يسألون قال: نعم، الأخت كانت عابدة صوامة قوامة ذاكرة لله ثم ألمّ بها مرض شديد فماتت، -رحمها الله، فترحموا عليها، أراهم شجرة قال: قبرها تحتها، فشكروه ثم ذهبوا، فأصبحوا ذات يوم كل واحد منهم قام وهو متغير النفس، فقال أحدهم: والله لا أدري عن شيء رأيته هذه الليلة، وكل واحد قال: وأنا رأيت شيئاً هذه الليلة، فقص واحد منهم، ثم قال كل واحد منهم: وأنا رأيت نفس الرؤيا، والله ما ذاك إلا لشيء، فذهبوا إلى الراهب، وتهددوه وتوعدوه وآذوه، حتى اعترف بأنه فعل وفعل، ودلهم على القبر الحقيقي، فشكوه إلى ملكهم، فجيء به ووضع ليقتل، فجاءه الشيطان، فقال: أنا الذي أوقعتك في هذا كله، ولكنك اليوم لا تفضح نفسك، وإنما تفضح أهل دينك والرهبان، سجدة واحدة وأخلصك مما أنت فيه، فسجد فكان موته في ذلك.

هذه يذكرها المفسرون عند تفسير بعض الآيات، وبغض النظر عنها هي من الإسرائيليات لكن فيها عبرة.

خروج المرأة للعمل ومزاحمة الرجال

 

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

 

مواد ذات صلة