الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
حديث «عرضت علي الأمم..» (1-3)
تاريخ النشر: ٢٥ / جمادى الأولى / ١٤٢٦
التحميل: 2833
مرات الإستماع: 11200

عُرضت عليّ الأمم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحديث الأول الذي ذكره الإمام النووي -رحمه الله- في باب اليقين والتوكل هو حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، وهو الحديث العظيم المشهور الذي ذكر فيه النبي ﷺ فضل هذه الأمة وشرفها على الأمم السابقة، وهو متضمن لفضله وشرفه ﷺ، ومتضمن لبشرى عظيمة، كذلك يتضمن بيان بعض حقائق هذا الدين.

يقول: قال رسول الله ﷺ: عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب»، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا -وذكروا أشياء- فخرج عليهم رسول الله ﷺ فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون؛ وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة ابن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة[1].

عرضت علي الأمم: يحتمل أن يكون ذلك في المنام، ولعله المتبادر، أنه رأى ذلك مناماً، وهذا أيضاً يدل على شرفه ﷺ، وقوله: عُرضت علىّ الأمم يدل على العموم، بمعنى: أنه من بعد آدم ﷺ إلى مبعثه ﷺ، فتصور كم كان من الأنبياء والرسل الذين جاءوا إلى أقوامهم.

قول: فرأيتُ النبيَّ ومعه الرُّهَيط، والرهيط تصغير للرهط، وهي لفظة تطلق على عشيرة الرجل وقومه، وتطلق على العدد القليل -ولعله هو المراد هنا، والله أعلم، قيل: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من السبعة إلى العشرة، وقيل: ما دون العشرة عموماً هم الرهط.

فتصور هذا النبي يأتي ومعه رهيط، تصغير لقلة عددهم، فهذا النبي لا ينقصه إخلاص، ولا ينقصه علم، ولا ينقصه تأييد من الله -تبارك وتعالى، ولا ينقصه معرفة بوسائل الدعوة، وطرق التأثير في الناس، فهذه الأمور الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، هم أكمل الناس فيها، ومع ذلك يأتي ومعه الرهيط، ومن هذا نأخذ فائدة مهمة، وهي: أن الهداية بيد الله ، وأن القلوب بيده، فالأنبياء يأتون إلى أقوامهم فما تفتح تلك القلوب، ليس نقصاً في ذلك النبي، ولا في أسلوبه، وإنما هؤلاء أعماهم الله وأذلهم وأخزاهم، فحجبهم عن هذا النور، وعن هذا الهدى.

والأمر الآخر وهو أن الدعاة إلى الله هم ورثة الأنبياء، فينبغي أن يكون لهم في ذلك أسوة برسل الله وأنبيائه الذين ذكرهم النبي ﷺ، حيث يأتي النبي وليس معه أحد، أو معه الرهيط، أو معه الرجل، أو الرجلان، فالداعية إلى الله  يبذل ما عليه، ويقدم للناس ما استطاع، ولا يكل ولا يمل، ولا يقول: الناس ما استفادوا، وما استجابوا، وما آمنوا، ونحن منذ سنين طويلة ندعوهم إلى الله وما رأينا أثراً؛ لأن أجرك على الله .

والإنسان ينبغي أن يكون له مزدرع، أن يكون له حقل يزرع فيه لآخرته، حتى لا يقدم على الله إقدام المفاليس، فكل من يرجو لقاء الله ينبغي أن يفكر جيداً في هذا المعنى، اجعل لنفسك مزرعة، والناس في هذا بين مقل ومكثر، منهم مَن له من البساتين العظيمة، ومنهم من لا يكون له من ذلك إلا الشيء اليسير، ومنهم ما ليس له فيه شيء.

وفيح جهنم شديد، وحرها لا يطاق، فينبغي للإنسان أن يبرد مضاجعه، وأن يعد لنفسه مكاناً يجد فيه نعيماً وأنساً ولذة وراحة، وليس له لذة ولا نعيم إلا بالعمل، ومن أفضل العمل هو ما يعلمه الإنسان ويدعو به الآخرين إلى الخير، لأن هؤلاء الناس إذا استفادوا من هذا الداعية، وتعلموا شيئاً من الخير فإنه يكون له مثل أجورهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، كما أخبرنا النبي ﷺ فيكون هذا الإنسان أجره ممتد، كلما تعلم أناس يكون له مثل أجورهم، يموت ولا زالت الأجور تأتيه إلى قبره.

وبالمقابل الذي علم الناس الشر والمنكر والباطل يأتيه الشر وهو في القبر؛ لأن الناس تعلموا منه، فبث علماً محرماً، وبث بدعاً، وبث باطلاً في الناس.

وهناك أشياء واضحة وسهلة وبسيطة، مثل الصلاة واجبة، كم من إنسان لا يصلي، فلا يعتذر أحد ويقول: أنا لا أعرف، أنا لست من أهل العلم، أو نحو ذلك، هناك قدر مشترك يعرفه الجميع، والنبي ﷺ يقول: بلغوا عني ولو آية[2]، ويستطيع الإنسان اليوم أن يوصل ألوان الدعوة إلى الله عن طريق المراسلة، وعن طريق كتيبات، وأشرطة، ومطويات توزع وينتفع بها، إلى غير ذلك مما لا يخفى.

فإنْ قبل الناس فالحمد لله، وإن لم يقبلوا فأنت في عمل صالح عظيم، تلقى أجره عند الله ، ولكن إذا قل البصر أو قل الإخلاص والصدق مع الله انقطع العبد.

فإما أن يكون هذا الإنسان قليل البصر، بحيث يظن أنه يعمل في غير معمل، ويعمل في مجال لا يعود عليه بطائل، فينقطع، وهذا خطأ، فأجرك على الله، وأنت في عمل صالح، حتى لو لم يستجب أحد، أو يكون قد قل إخلاصه، فإذا رأى إقبال الناس نشط، وإذا رأى إعراضهم كلّ وضعف.

نوح جلس يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، هذا قبل الطوفان، والله أعلم كم جلس بعد الطوفان، يعلم حقائق الإيمان وما آمن معه إلا قليل، فهذه أمور يحتاج الإنسان أن يراعيها، وأن يضعها أمام ناظره فلا يغفل عنها.

والنبي ليس معه أحد، ما استجاب له أحد، وهذا يدل على أن الحق لا يُعرف بالكثرة، وإنما الحق يعرف بالدليل، وإنما يعرف ما عليه الناس من حق وباطل بحسب ما ينضاف إليهم، أو بحسب ما يرجعون إليه من الحقائق أو الأباطيل فيوزنون بذلك، اعرف الحق تعرف أهله، فإذا عرفت الحق بدليله عرفت من هم الذين يتمسكون بالحق، وإلا فأهل الباطل أمم، والله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، ويقول: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [الأنعام:116]، وهذا مشاهد في مشارق الأرض ومغاربها، أمم تعيش على الكفر، يولدون ويَنشئون على الكفر، ويشيبون على ذلك، ولهم علماؤهم، ولهم رهبانهم، ولهم قساوستهم، ولهم ألوان المضلين، ويعيشون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، فالحق لا يعرف بالكثرة، ولا يوزن الحق بأنه ينتسب إليه فلان أو فلان، لشرفه أو نسبه، إنما اعرف الحق تعرف أهله.

نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب (5/ 2396)، رقم: (6175)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1/ 199)، رقم: (220)، واللفظ له.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3/ 1275)، رقم: (3274).

مواد ذات صلة