الأحد 09 / ربيع الآخر / 1446 - 13 / أكتوبر 2024
حديث «عرضت علي الأمم..» (2-3)
تاريخ النشر: ٢٦ / جمادى الأولى / ١٤٢٦
التحميل: 2823
مرات الإستماع: 15153

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فتحدثنا في الليلة الماضية عن صدر حديث ابن عباس -ا- الذي يرفعه إلى رسول الله ﷺ في عرض الأمم عليه.

ثم قال: إذ رُفع لي سواد عظيم والمقصود بالسواد هنا الأشخاص، أي: رأى أناساً كثيراً، بعدما عُرضت عليه الأمم فرأى النبيَّ ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، فرُفع له ﷺ سواد عظيم، أي: أناس كثير، والسواد يطلق على الإنسان، تقول: رأيت سواداً، يعني: سواد إنسان، ويطلق على معنى آخر وهو الجماعة، تقول: هذا الذي عليه السواد، يعني: جماعة الناس، ويطلق على الناس الكثيرين أيضاً، يقال مثلاً: السواد الأعظم من الناس يحبون كذا، أو يفعلون كذا، أو هذا الذي عليه السواد الأعظم من الناس.

قال: فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، وهذا يدل على أن أمة موسى ﷺ أو أمة بني إسرائيل من أكثر الأمم، وأن موسى ﷺ كان من أكثر الناس تابعاً، فأتباعه كثير، مقارنة بالأنبياء الذين كانوا قبله، فكان معه خلق كثير، وهو الذي خرج بالإسرائيليين من مصر، ونجاهم الله بسببه من فرعون في القصة الشهيرة المعروفة.

فكان أولائك هم موسى وقومه، وهذا من جملة الأشياء التي لربما تفسر كثرة ذكر خبر بني إسرائيل في القرآن.

وقد ذكرت في بعض المناسبات السابقة أن ثمّة وجوهاً بين هذه الأمة وبين بني إسرائيل، فهم أمة كثيرة ممتدة، أرسل إليهم موسى ﷺ، ولقي منهم صنوف الأذى في جميع الأبواب تقريباً، والنبي ﷺ أرسل إلى الأحمر والأسود، وبعثته إلى قيام الساعة، والمناسب -والله تعالى أعلم- أن يذكر له من خبر بني إسرائيل ما لا يذكر من غيره من أخبار الأمم؛ لأن موسى لاقى من بني إسرائيل ألوان الأذى وأنواع التقلبات، فمثل ذلك يقع في مثل هذه الأمة، كذلك النبي ﷺ قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم[1]، ويعني بهم اليهود والنصارى.

يقول: ولكن انظر إلى الأفق، والمقصود بالأفق الناحية والجهة، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، معنى ذلك أنهم قد ملئوا الناحيتين من كثرتهم، فهم أكثر من قوم موسى.

قال: ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذا يحتمل معنيين:

الأول: أن معهم هذا العدد وهم السبعون ألفاً، يعني إضافة إلى ما رآه النبي ﷺ من هذا السواد في الناحيتين، زيادة عليهم هذا العدد، وهم سبعون ألفاً.

الثاني: يحتمل أن يكون المراد "ومعهم" أي: ومنهم، وفي جملتهم، وهذا هو الأقرب كما تفسره بعض الروايات، جاء ذلك مصرحاً به في بعض الروايات.

يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ولعل المقصود -والله أعلم- بقوله: بغير حساب يعني مناقشة الحساب، وإلا فالنبي ﷺ قال: يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟، فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم[2].

وعائشة -ا- استشكلت قوله -تبارك وتعالى: من نوقش الحساب عذب، فبين لها النبي ﷺ أن الحساب المذكور في الآية المقصود به العرض، تعرض عليه أعماله فقط يقرره الله بها[3].

عملت في يوم كذا، وفي يوم كذا؟، فيقول نعم يا رب، فيقول: سترتها عليك في الدنيا وها أنا أغفرها لك في الآخرة، هذا من لم يناقَش الحساب، وأما من نوقش فإنه سيعذب، هذا الذي دل عليه كلام النبي ﷺ.

فقوله: "بغير حساب" الذي يظهر -والله أعلم- أن المقصود من غير مناقشة للحساب، لأن الله قال: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8] هذا الناجي، فهو مجرد عرض للأعمال من غير حساب ولا عذاب، وبينهما فرق، الحساب غير العذاب، والعذاب هو نتيجة للحساب، فيحاسب لماذا عملت كذا؟، ولماذا عملت كذا؟، ما الذي حملك على كذا؟، ثم بعد ذلك يؤمر به -نسأل الله العافية- إلى النار.

قال: ثم نهض فدخل منزله، ولم يبين لهم من هم الذين يستحقون هذه المرتبة العظيمة جداً، فخاض الناس في أولائك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، يعني: أنهم جلسوا يتحدثون، ويتناقشون ويتحاورون، يا ترى من هؤلاء؟ وذلك لحرص أصحاب النبي ﷺ على الخير، وحرصهم على المراتب العالية عند الله ، فهذه الأمور تلفت أنظارهم، ولكن من كان إيمانه ضعيفاً بالآخرة، ومن كان لا يرفع لها رأساً لا يلتفت إلى مثل هذه الأمور، لا تحرك له ساكناً، من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب؟

 قال: فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ قالوا ذلك استنتاجاً أو اجتهاداً، وهذا يدل على أن الإنسان يجوز له أن يتحاور، وأن يتذاكر، وأن يتباحث مع أهل العلم في المسائل التي تهمه.

والذين صحبوا النبي ﷺ لا شك أنهم حصّلوا رتبة لم يحصلها أحد، ولا يمكن لأحد أن يصل إليها -وهي الصحبة- مهما عمل، والله يقول: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، هؤلاء أصحاب الشجرة.

وأصحاب بدر قال فيهم النبي ﷺ: إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، قد غفرت لكم[4]، اعملوا ما شئتم: يعني في المستقبل، قد غفرت لكم.

كذلك قال الله : لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117]، وكذلك أيضاً أثنى الله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية، كما قال الله : لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273]، هؤلاء هم الفقراء، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، وثبت عن النبي ﷺ  أنه قال في فضل أصحابه: لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه[5]، فلو أنفق مثل أحد من الذهب ما بلغ صدقة مد الواحد منهم من البر أو الشعير أو التمر، ولا نصيفه.

قال: وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله يعني: هذه مزية، ولكن المزية لا تقتضي الأفضلية، يعني: من ولد في الإسلام، ولم يحصل منه إشراك أصلاً قد يكون هذا أحسن حالاً ممن وقع منه إشراك ثم تاب، مع أن الله يبدل السيئات حسنات، فهذه وجهة نظر على كل حال.

قال: وذكروا أشياء، فخرج عليهم ﷺ فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يرقون ... لم يقل لهم: لماذا تقولون بغير علم، هذه أمور موكولة إلى الغيب.

فقال: هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، لا أطيل عليكم، هذه الأشياء نتحدث عنها في الليلة القادمة -إن شاء الله.

والأحاديث الواردة في هذا جاء في بعضها أن هؤلاء السبعين ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب[6].

هؤلاء هم الذين حققوا هذه الصفة، والمجال مفتوح، لا كما قال بعض أهل العلم: إن ذلك قد تصرّم منذ آماد بعيدة، منذ زمن الصحابة والتابعين، ولم يبق لنا شيء، فهذا غير صحيح.

فهذا مجال أخبر عنه النبي ﷺ، ويستطيع الإنسان أن يكمل إيمانه، وأن يتوقى مثل هذه الأمور، ولا يقع فيها، ثم بعد ذلك يحصل له بإذن الله هذا الفضل العظيم والمرتبة العالية، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم (6/ 2669)، رقم: (6889).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، (8/ 20)، رقم: (6070)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (4/ 2120)، رقم: (2768).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب (8/ 111)، رقم: (6536)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إثبات الحساب (4/ 2204)، رقم: (2876).
  4. أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الممتحنة (4/ 1855)، رقم: (4608)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة (4/ 1941)، رقم: (2494).
  5. أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذاً خليلا (3/ 1343)، رقم: (3470).
  6. أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 626)، رقم: (2437)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد ﷺ (2/ 1433)، رقم: (4286)، وأحمد (14/ 326)، رقم: (8707).

مواد ذات صلة