الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
حديث «إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم..»
تاريخ النشر: ١٨ / جمادى الآخرة / ١٤٢٦
التحميل: 2261
مرات الإستماع: 14127

إن هذا اخترط عليَّ سيفي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث الخامس مما أوره الإمام النووي -رحمه الله- في باب اليقين والتوكل، وهو:

حديث جابر أنه غزا مع رسول الله ﷺ قِبَل نجد، فلما قفل رسول الله ﷺ قفل معهم، فأدركتهم القائلة في واد كثير العِضاه فنزل رسول الله ﷺ وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله ﷺ تحت سمرة فعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله ﷺ يدعونا وإذا عنده أعرابي، فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله - ثلاثا ولم يعاقبه وجلس[1].

غزا مع النبي ﷺ قِبَل نجد، المشهور أن هذه الغزوة هي غزوة ذات الرقاع، وقيل لها ذات الرقاع؛ لأن أقدامهم تنقّبت- وهم في ضعف وحاجة وفقر- فصاروا يلفون الخرق على أرجلهم، ليتقوا بها الأرض، وبعضهم يقول: قيل لها ذات الرقاع؛ لأنهم رقعوا الرايات في تلك الغزوة، وبعضهم يقول: لأنهم نزلوا عند جبل كانت الأرض حوله ذات ألوان، فكأنها رقاع، وقيل غير هذا، والمقصود: ما وراء أرض الحجاز في جزيرة العرب.

قال: "فلما قفل" يعني: رجع رسول الله ﷺ، يقول جابر : "فأدركتهم القائلة في واد كثير العِضاه"، أدركهم منتصف النهار، وقت القيلولة في واد كثيرة العضاه، والعضاه هو الشجر الذي له شوك.

يقول: "فنزل رسول الله ﷺ وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله ﷺ تحت سَمُرة"، والسَّمُرة هي شجرة كبيرة من العضاه، فكانوا يتركون لرسول الله ﷺ الشجرة التي تكون وافرة الظل، فعلق بها سيفه ﷺ.

يقول: "فنمنا نومة فإذا رسول الله ﷺ يدعونا، وإذا عنده أعرابي"، والأعرابي المقصود هو من سكن البادية.

فقال: إن هذا اخْتَرَطَ عليّ سيفي وأنا نائم، قيل: اسمه غورث بن الحارث، جاء فوجد النبي ﷺ تحت هذه الشجرة نائماً، فأخذ السيف فاستله، ثم استيقظ النبي ﷺ وهو في يده صَلْتاً، يعني: أخرجه من غمده.

قال: من يمنعك مني؟، قلت: الله، ثلاثاً، يحتمل أنه سأل النبي ﷺ ثلاث مرات، من يمنعك مني؟، فالنبي ﷺ يقول: الله، ثلاث مرات، ويحتمل أن يكون قال: من يمنعك مني؟، فقال النبي ﷺ الله، الله، الله، تأكيداً.

وهذا هو الشاهد في الحديث، قوة يقين النبي ﷺ بكفاية الله -تبارك وتعالى- له، لأن هذا موقف يهتز فيه الإنسان، ويصيبه الذعر والخوف، فليس عنده أحد يحميه، وهذا الإنسان بيده السيف، والنبي ﷺ أعزل ليس معه شيء، ومع ذلك يقول له بكل ثقة: الله، فهذا فيه كمال اليقين مع كمال التوكل والتفويض إلى الله -تبارك وتعالى، يقول: ولم يعاقبه، فجلس.

يقول: وفي رواية قال جابر: "كنا مع رسول الله ﷺ في ذات الرقاع"، هنا جاء مصرحاً باسم الغزوة، وهي ذات الرقاع.

يقول: فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله ﷺ احتراماً وتوقيراً وإيثاراً ومحبة، يقول: فجاء رجل من المشركين، وهذا الرجل قيل هو من بني محارب، من نفس القوم الذين غزاهم النبي ﷺ فكأنه أراد أن ينتقم.

قال: فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله ﷺ معلقا بالشجرة، فاخترطه، فقال: تخافني؟، قال: لا، فقال: فمن يمنعك مني؟، قال: الله[2].

وفي رواية قال: من يمنعك مني؟ قال: الله، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله ﷺ فقال: من يمنعك مني؟، فقال: كن خير آخذ.

هذا الرجل غير مؤمن، وليس عنده ثقة بالله -تبارك وتعالى، ولو كان فيه إيمان ما اعتدى على رسول الله ﷺ، قال: كن خير آخذ، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس[3].

لاحظوا أثر العفو، كيف غمره هذا الإحسان؟ فهذا الأعرابي كان يقدر المعروف، فقال: جئتكم من عند خير الناس.

المقصود أن هذا يدل على كمال يقين رسول الله ﷺ وثقته بكفاية ربه -تبارك وتعالى- له، مع شدة توكله على الله .

وهذه مرتبة عالية جداً، حتى الخوف الطبيعي لم يساور رسول الله ﷺ؛ لأن الإنسان إذا رُفع عليه السيف فإنه يخاف خوفاً لا يلام فيه، هذا الخوف الطبيعي كخوف الإنسان من الأسد، أو خوفه من السلاح، أو نحو ذلك، فهذا لا يؤثر في إيمان الإنسان، لكن رسول الله ﷺ لم يتأثر بهذا ولم يخف، ولم يهتز، ولذلك يقول عليٌّ وهو من أشجع أصحاب النبي ﷺ: كنا إذا حمي الوطيس نتقي أو نلوذ برسول الله ﷺ.

فكانوا يذهبون يختبئون وراء النبي ﷺ إذا اشتد الضرب في الحرب، واحمرت العيون، يلوذون به ﷺ، لشدة ثباته.

وفي غزوة حنين كان على بغلة لا تحسن الكر والفر، ولما انهزم أصحابه ولم يبق معه إلا نحو عشرة رجال ثبت ﷺ ذلك الثبات العظيم، والسهام والنبال كأنها مطر تزعزعه الريح من كثرتها، فكان ﷺ يستقبل العدو بوجهه ويقول: أنا النبي لا كذب، أنا عبد المطلب[4].

يعلن ذلك أمام الناس يريهم شخصه ﷺ، فيرونه ويستهدفونه ومع ذلك هو في هذا الثبات الشديد، ويأمر العباس أن ينادي: يا أصحاب السَّمُرة، يا أصحاب سورة البقرة.

فهذا نبينا وقدوتنا ﷺ، فحريٌّ بنا أن نقتدي به في أعماله الظاهرة، وفي أعماله الباطنة، في كمال يقينه وتوكله، وصدقه وإخلاصه، وإقباله على ربه في أموره كلها، ووثوقه بما عند الله ، وفي تعبده ﷺ، مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ﷺ.

فلئن اقتدى الناس بشياطين الإنس والجن فإن رسول الله ﷺ هو قدوة المؤمن، عندنا فيه كفاية في كل مجال من المجالات، في الشجاعة، والقيادة، والإدارة، وفي تدبير أمور الأسرة، وفي دماثة الخلق، وملاطفته لأصحابه وللصغار والكبار، وتفقده لهم، وصلته ﷺ، وما إلى ذلك.

أسأل الله أن يجعلنا ممن يتبعه ظاهراً وباطناً، وأن يحشرنا تحت لوائه ، وأن يسقينا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (4/ 1515)، رقم: (3905)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توكله على الله تعالى، وعصمة الله تعالى له من الناس (4/ 1784)، رقم: (843).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (4/ 1515)، رقم: (3906)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف (1/ 576)، رقم: (843).
  3. أخرجه أحمد (23/ 193)، رقم: (14929).
  4. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (4/ 1568)، رقم: (4062)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (3/ 1400)، رقم: (1776).

مواد ذات صلة