الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «حجبت النار بالشهوات..»
تاريخ النشر: ٠٨ / رمضان / ١٤٢٦
التحميل: 2586
مرات الإستماع: 21338

حُجبت النار بالشهوات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث السابع في باب المجاهدة، وهو:

حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: حُجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنة بالمكاره[1].

فقوله ﷺ: حجبت النار بالشهوات، الحجاب معروف، فكأن النار قد وُضع دونها ستر، وحائل، وحجاب، لا يُتوصل إليها إلا بهتكه، فمن تخطاه يكون قد وصل إليها ودخل فيها، وكذلك الجنة لا يُتوصل إليها إلا بهتك ذلك الحجاب الذي حجبت به.

وفي رواية عند مسلم بلفظ: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات[2]، وهو قريب من معنى الأول، فحجبت كأنه وُضع ذلك حاجباً، وحائلاً، وستراً على الجنة، من تخطاه وصل إليها.

وحفت أي: أن ذلك أيضاً من جميع النواحي لا يُتوصل إلى الجنة إلا بتخطي هذه المكاره، والمرور بهذا الذي يحتف بها من الأمور التي يحصل بها إيلام للنفس، ومشقة أيًّا كانت هذه المشقات، فلو نظر الإنسان في التكاليف التعبدية، الصيام مثلاً فيه فطام للنفس عن الشهوات، والمألوف، وما يعتاده الإنسان من الطعام والشراب، وما إلى ذلك، فهذا من المكاره، لا يتوصل إلى الجنة إلا بخطم النفس وزمها عن هذا الذي تشتهيه.

وكذلك أيضاً إذا نظر الإنسان إلى الصلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ۝ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45، 46]، فلماذا بعض المسلمين لا يصلي؟ لأنها شاقة ثقيلة، إلا على الخاشعين، فهذا من المكاره التي حفت بها الجنة.

حفت الجنة بترك الشهوات التي تطمح إليها النفوس أيضاً، وهذا يحتاج إلى مجاهدة، إذا لاح للإنسان الطمع في ألوان المكاسب المحرمة، وكذلك أيضاً لاحت له الشهوات تطلبها نفسه، كما قال يوسف ﷺ لما غلقت امرأة العزيز الأبواب: وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].

وقال: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]، فالإنسان قد تتراءى له الشهوات، وتكون متاحة له، وهذا ترْكُه شاق على النفس، إذا أراد الإنسان أن ينظر إلى الحرام يحتاج إلى المجاهدة، يتذكر أن الجنة حفت بالمكاره.

إذا أراد أن يقوم من نومه ليصلي الفجر أو غير الفجر، والنوم يغالبه، هذا من المكاره التي حفت بها الجنة، ولهذا لما خلق الله الجنة كما في الحديث الآخر: أرسل إليها جبريل فنظر إليها، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، لما فيها من ألوان الحبور، والنعيم، وألوان الملاذ من المطعومات والمشروبات، والملبوسات، والأثاث، والأرائك من القصور، والنساء التي في غاية الجمال، لا تمتخط ولا يصدر منها ويبدر ما يستقذر وتنفر منه النفوس، وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها الله بالمكاره، بالجوع، بالسهر، بالتعب، بتكبد المصاعب طلباً لمرضاة الله ، فنظر إليها جبريل فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ما يصل إليها إلا بالمصابرة، ولهذا قال الله في آخر سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [آل عمران:200]، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طـه:132]، ما قال: واصبر عليها.

ولما خلق النار، وبعث إليها جبريل، فنظر إليها يحطم بعضها بعضاً، في منظر كريه، نار مظلمة، سوداء هائلة، ضخمة، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفت بالشهوات، حفت بالملايين من أموال الربا والحرام، حفت بالصفقات المحرمة، حفت بالنساء الجميلات، حفت بالمناظر التي يشاهدها الإنسان في الشاشة المحرمة، حفت بفاكهة المجالس الغيبة والنميمة، ينبسط على أعراض الناس، ويتوسع فيها، حفت بهذه الأشياء جميعاً، الاختلاس، السرقة، الأسهم المحرمة، وغير ذلك.

فنظر إليها جبريل فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد[3] والناس تتوزع شهواتهم، فمن الناس من يكون الفخ أو الطعم الذي يصيده هو المال، ومنهم من يكون الطعم هو النساء، ومنهم من يكون الطعم الذي يصيده به الشيطان هو الغلو، ومنهم من يكون الطعم -نسأل الله العافية- هو العقوق، أو الأذية للناس، أو قطيعة الأرحام، أو غير ذلك من أنواع المحرمات.

فمنهم من يلج من هذا الباب، ومنهم من يلج من هذا، ومنهم من يكون من باب الرياء والسمعة، فقوم من باب الشهوات، وقوم من باب الشبهات، وقوم بالتفريط، وقوم بالإفراط، وهكذا، والنتيجة واحدة النار، نسأل الله العافية.

والمقصود بالشهوات: هي مطلوبات النفس، وحظوظها الحسية والمعنوية، فالحسية مثل الأكل والشرب، والمقصود بها الشهوات المحرمة، وأما المباحة فإنها لا توصل إلى النار، لكن لا يحسن الإكثار منها؛ لأنها تشغله عن الآخرة، ومطلوبات النفس المعنوية كالتعالي على الناس، والترفع، والعجب، والرياء والسمعة، وحب المحمدة في قلوب الخلق، وما أشبه ذلك.

وحجبت الجنة بالمكاره، وفي رواية: وحفت الجنة بالمكاره، فهذا كله يدل على أن من أراد أن يدخل الجنة فعليه أن يتخطى هذا الذي حفت به.

ومن سلك طريق الشهوات فهذا طريق يوصل إلى النار، ومن سلك طريق الصبر فإن ذلك يوصله إلى الجنة، وكنت ذكرت لكم بعض الأمثال التي ذكرها بعض أهل العلم تبين هذا المعنى في بعض المناسبات، ومن ذلك: أن مثل الإنسان في هذه الحياة مثل الرجل يطارده سبع، فتعلق في غصن شجرة، فنظر تحته فوجد حفرة فيها تنين فاغر فاه، ونظر إلى أصل الغصن وإذا بفأرين أسود وأبيض يقرضانه طول الوقت، ونظر فإذا بعسل خلية بجانبه، فذاقه، فوجده حلو الطعم، فنسي الحفرة، ونسي الغصن الذي سينكسر بعد قليل، والفأرين الأسود والأبيض اللذيْن يقرضانه بلا توقف، فجلس يلعق من هذا العسل، ساهٍ ولاهٍ عما ينتظره.

فالفأران هما الليل والنهار، يقرضان الأعمال قرضاً، قبل لحظةٍ أعمارُنا أطول، واليوم أطول من أمس، وهكذا، والحفرة القبر، والسبع الذي يطارده هذا هو الموت والأجل، وخلية النحل لذات الدنيا، وشهواتها، ينغمس فيها كثير من الناس، ونسوا ما ينتظرهم.

فنسأل الله أن يشرح صدورنا لطاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا ومنكم أجمعين، ويغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات (8/ 102)، رقم: (6487).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/ 2174)، رقم: (2822).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات (4/ 693)، رقم: (2560)، وأبو داود، كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار (4/ 236)، رقم: (4744).

مواد ذات صلة