الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
‏(3) فضائل الذكر
تاريخ النشر: ٠٥ / ذو القعدة / ١٤٣٤
التحميل: 9777
مرات الإستماع: 10146

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالذكر الذي نغفل عنه كثيرًا، ونتشاغل بأمور مفضولة لا تقارب فضله ومنزلته، هو خير الأعمال وأزكاها، فنحن في تجارتنا مع الله -تبارك وتعالى- في سيرنا وسفرنا إلى الدار الآخرة، وهذه الأعمار القصيرة نحتاج إلى معرفة أرجح الأعمال، وأفضل الأعمال، وأجل الأعمال؛ من أجل أن نتشاغل به، فيكون قدوم العبد على ربه بتجارة رابحة، بتجارة وأعمال تثقل موازينه، وهذا من الهداية التي يهدى إليها العبد، وهو داخل ضمن الهدايات التي تحت قوله -تبارك وتعالى- فيما نردده في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فمن هذه الهدايات أن يهدى العبد إلى أفضل الأعمال وأجل الأعمال، قد ينقضي العمر بعمل مفضول، بعمل قد يكون غيره أولى منه، ونحن نعلم أن من أجل الأعمال أن تبذل النفوس رخيصة لله وفي سبيل الله، وأن يُبذل شقيق النفس وهو المال لله وفي مرضات الله ، هذا من أجل الأعمال وأفضلها إلا أن الذكر أفضل من ذلك كله، وهو أمر الله لا يكلفنا شيئًا، وقد ذكرت طرفًا من ذلك نماذج كثيرة، في مجلس بعنوان: "أيكم يعجز عن هذا؟ "[1].

والنبي ﷺ يخاطب أمته: ألا أنبئكم بخير أعمالكم[2]، يعني بأفضل أعمالكم فإن خير هنا مراد بها التفضيل، بخير أعمالكم يعني بأخير، بأفضل.

وأزكاها عند مليككم، والزكاء ينتظم معنيين:

الأول: الطهارة.

والثاني: النماء أنماها، الذي ينمو عند الله ، والأعمال نامية، فإن الله يربي لصاحب الصدقة صدقته، لكن ما الذي يكون أزكى عند الله ؟

الذكر، أزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، الخطا إلى المساجد يحصل بها رفع الدرجات، أعمال متنوعة يحصل بها رفع الدرجات، ولكن ما هو الأرفع؟ ما الذي يرفعنا أكثر؟

وخير لكم من إنفاق الذهب والورق يعني: الفضة، أفضل من إنفاق المال الذي هو شقيق النفس.

وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، هل هناك شيء أفضل من هذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فأوجز الجواب ﷺ بقوله: ذكر الله، ذكر الله أفضل من هذا كله، أفضل من بذل النفوس، وأفضل من بذل الأموال وما دون ذلك، من باب أولى، يعني أفضل من الصيام، أفضل من أعمال صالحة كثيرة، بل إن النبي ﷺ لما سأله رجل وأخبره أن شرائع الإسلام قد كثرت عليه، قال: فأخبرني بشيء أتشبث به، شيء أتمسك به، أريد عملا يكون رأسًا، يريد عملاً يكون عليه المعول، فالأعمال كثيرة، ولا أستطيع إحصاءها، فقال له النبي ﷺ: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله[3]، وهذا يصلح أن يكون تفسيرًا للكثرة التي أشرنا إليها، والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، ما ضابطه؟

سيأتي الإشارة إليه -إن شاء الله تعالى-، ولكن يصلح هذا أن يكون ضابطًا له أن اللسان يكون رطبًا في كل حين وآن بذكر الرب المعبود المالك ، بمعنى أنه لا يغفل، لا يفتر، ولو نظر الإنسان منا إلى الأوقات التي تمضي من غير ذكر لوجد أنها فواصل طويلة في اليوم والليلة، مع أنه قد لا يشتغل بها بما يشغله عن الذكر، وهو يقود السيارة أحيانًا تمضي ساعات، لو أحصى الإنسان ذلك في يومه وليلته فإنه يجد ذلك طويلاً بدليل أنه يسمع المحاضرات التي تزيد على الساعة، فلربما سمع ذلك مرة ومرتين، ولربما سمع محاضرتين أو ثلاث في يومه وليلته هذا يدل على أنه يقضي أوقاتًا في سيره وطريقه، لكن لو نظر الإنسان إلى لسانه يجد في الغالب أنه قد غفل في هذه الأثناء عن الذكر، يبقى الإنسان أحيانًا ينتظر في مكان في عيادة، ينتظر لأي غرض من الأغراض لربما يكون هذا الانتظار لساعات فيتملل ولو التفت إلى نفسه لوجد أن لسانه قد جف، لا يذكر ربه -تبارك وتعالى- هذه غفلة، ولما نزلت: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34]، توعد الكانزين لهذين النوعين من الأموال بما توعدهم به في هذه الآية، فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35] الصحابة قالوا للنبي ﷺ: "أنزلت في الذهب والفضة، -يعني هذه الآية- لو علمنا أي المال خير فنتخذه غير الذهب والفضة التي جاء في كنزها هذا الوعيد فإلى ماذا أرشدهم النبي ﷺ هل قال لهم: اكنزوا العقارات؟ هل قال لهم: اكنزوا الأقوات؟ هل قال لهم: اكنزوا الأثاث والرياش؟ هل قال لهم: اكنزوا الأنعام والدواب؟ قال لهم النبي ﷺ لما سألوه عن أفضل المال من أجل أن يتخذوه قال: أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه، فهذا الكنز الحقيقي.

فالذين يبحثون عن تجارات وعن مصادر بديله تدر عليهم الأموال الطائلة، الذين يبحثون عن الأرقام العالية والأصفار الكثيرة في حساباتهم هذا أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه، وأضداد هذه الأمور الثلاثة هي في الغالب تكون سببًا لغفلة مستحكمة هذا الذي يكون حظه جمع الأموال، الغالب أن يكون ذلك يكون سببًا لغفلته عن ذكر الله ، الغفلة عن ذكره باللسان، والغفلة عن ذكره بالقلب؛ لأن القلب يتشوش ولهذا جاء عن حذيفة أنه استعاذ بالله من تشتت القلب، ولما سئل عن هذا؟ قال: "أن يكون له في كل واد مال"[4].

والنفوس مجبولة على محبة ذلك، ولكن أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه، فإن لم تكن كذلك فإنها تشوش فكره، وتشغل قلبه، وتدفعه دفعًا من أجل جمع الحطام والاشتغال باللذات والمتاع الفاني من هذه الحياة الدنيا، بل قال ﷺ: من عجز منكم عن الليل أن يكابده، -يعجز عن قيام الليل- وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدو أن يجاهده؛ فليكثر ذكر الله[5]، هذه الأمور الثلاثة التي هي من أجل الأعمال قيام الليل، إنفاق الأموال في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله.

إذن من عجز عن هذه الأمور الثلاثة فليكثر ذكر الله يصل بذلك، بل يكون سابقًا لغيره من أهل هذه المزاولات والأعمال الصالحات، ولهذا قال ﷺ: سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات، سبقوا وهنا أطلق السبق، ولما يقيده بقيد يعني ما قال: سبق المفردون أهل الأموال التي تنفق في سبيل الله، وما قال: سبق المفردون الصائمين، وما قال: سبق المفردون المجاهدين في سبيل الله، وإنما قال: سبق المفردون فدل على الإطلاق أنهم سبقوا كل أصحاب الأعمال الطيبة الصالحة الزاكية فهذا عمل لا يقادر ولا يقاس بغيره، وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات[6].

والواقع أن اللسان إذا كان يلهج بذكر الله -تبارك وتعالى- كثيرًا والقلب نابض بهذا الذكر، مشتمل عليه فإن هذا يحمله إلى جميع الفضائل، فيهون عليه إنفاق المال، ويهون عليه بذل النفس، ويهون عليه التضحية بشهواته ولذاته ومحاب النفس ومطلوباتها، لكن إذا تصحرت النفس، وجف اللسان، فإن الإنسان يضن بما في يده؛ لضعف اليقين، فيكون ممن يبخل عن الإنفاق في سبيل الله، ويستثقل العبادة في صلاة الليل، وصيام النهار، بل يثقل عليه صلاة الفريضة يكفي أن الله -تبارك وتعالى- أخبرنا عن المنافقين أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً، هذه أمارة علامة يخاف الإنسان على نفسه من أن تصدق عليه، وأخبر أنهم: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، فهذا الذي يذكر ربه كثيرًا ويكون قلبه عامرًا بذكر الله إذا سمع النداء لم يشتغل عنه بشيء، كما كان بعض السلف قلوبهم حية فإذا رفع المطرقة لم يضعها إذا سمع المؤذن، يعني لم ينفذ ما رفعها من أجله، وإنما تخلى عنها.

وبعضهم كان إذا سمع النداء، برك بناقته، ولم يحركها فلا يسير بها قليلاً ولو كثيرًا مباشرة يقف في أي مكان من أجل أن يجيب حي على الصلاة حي على الفلاح، الله أكبر، أكبر من كل شيء يمكن أن يشتغل به الإنسان، ولو نظرنا إلى الفرق ما بين الغافل والذاكر لوجدنا البون شاسعًا، فقد مثله النبي ﷺ كما في حديث أبي موسى : مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت[7]، هذان نقيضان يعني لا يجتمعان ولا يرتفعان، الحي والميت، الذي يذكر والذي لا يذكر، والذي يذكره ذكرًا ضعيفًا الذي يذكره ذكرًا قليلاً؟

هذا كحال العليل المريض، وإذا كان بهذه المثابة فلا تسأل عما يعتوره ويحصل له من ألوان الآلام وما يعرض له من النقص في الأرزاق، وما يحصل له من نقص الهدايات، وما يحصل له من نقص التوفيق، وما يحصل له من الكدر والضيق والحرج وتنتابه المخاوف من كل ناحية، وهو يعيش في قلق يتخوف من كل شيء، وهذه في الواقع صفات المنافقين يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4]؛ لأنه يعيش في قلق دائم، وهم لا يوقنون ومن ثم لا يمكن للواحد منهم أن يجود بنفقة ولا بغيرها، ثم إن ذلك يكون سبيلاً للنجاة من عذاب الله -تبارك وتعالى-، ولهذا صح عن النبي ﷺ: ما عمل آدمي عملاً أنجا له من العذاب من ذكر الله تعالى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ -لأنهم يعرفون أن الجهاد هو أجل الأعمال-، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع[8].

ومن الذي يستطيع هذا؟ فصار الذكر سببًا للنجاة من العذاب والعذاب هنا أطلق، فيشمل العذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة.

فهذا الذي يقع لنا في الدنيا، ما يصيبنا فيها من المكاره فهو بما كسبت أيدينا، فالإنسان قد يعذب في الدنيا ويعذب في الآخرة، فالسبيل إلى الخلاص، بذكر الله الإكثار من هذا الذكر.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم أصلح أحوال المسلمين واشف مرضاهم، وعاف مبتلاهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، -والله أعلم-، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.

  1. على الرابط التالي: https://2u.pw/n61A4.
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الذكر، برقم (3377)، وابن ماجه، أبواب الأدب، باب فضل الذكر، برقم (3790)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2629).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الذكر، برقم (3375)، وابن ماجه، أبواب الأدب، باب فضل الذكر، برقم (3793)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7700).
  4. أخرجه أبو داود في الزهد، برقم (223)، وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 219)، وانظر: الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 224)، برقم (635).
  5. أخرجه البزار في مسنده، برقم (4904)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (505).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (2676).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله ، برقم (6407)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، برقم (779).
  8. أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (2296)، وقال: "لم يرو هذا الحديث عن يحيى إلا أبو خالد، تفرد به الفريابي"، وفي المعجم الصغير، برقم (209)، وقال: "لم يروه عن أبي الزبير إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ولا روى عنه إلا أبو خالد تفرد به الفريابي".

مواد ذات صلة