الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(11) المعنى العام والخاص والأخص للذكر
تاريخ النشر: ١٥ / ذو القعدة / ١٤٣٤
التحميل: 4881
مرات الإستماع: 5178

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

عرفنا -أيها الأحبة- في الليلة الماضية حقيقة الذكر، وما يصدق عليه الذكر عند الإطلاق، وأن حاصل ذلك: أن الذكر تارة يطلق، ويراد به معنىً عامًا، وتارة يقصد به معنىً خاصًا، وتارة يقصد به معنىً أخص، فالعام يشمل ذكر اللسان، والقلب، والجوارح، وسائر الأعمال الصالحة، ويدخل في اللسان الثناء على الله، والإخبار عنه بصفات الكمال، وما إلى ذلك، ويدخل فيه قراءة القرآن، والدعاء، كل هذا داخل في اللسان، وأن الذي يكون في القلب يدخل فيه التفكر بآلائه، ويدخل في ذلك أيضًا استحضار عظمته، ويدخل في ذلك أيضًا ما يتصل بالتفكر بمعاني هذه الأذكار التي يقولها، وتعقل المعاني، وحضور القلب معها كل هذا مما يرجع إلى القلب.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: بأن هذا الذكر الظاهر الذي يكون باللسان مع مواطأة القلب بطبيعة الحال بأنه ثناء، أو دعاء، أو رعاية، الذكر الظاهر الذي يكون باللسان مع مواطأة القلب هذا يكون تارة من قبيل الثناء على الله كقولك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتارة يكون دعاء، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين[1] فهذا دعاء من الأدعية الواردة في القرآن، وهو داخل في الذكر بالمعنى المتوسط، قلنا: المعنى الأوسط، أو المتوسط هو ما يتصل باللسان، مما يقوله من قبيل الثناء، أو الدعاء، أو قراءة القرآن، أو نحو ذلك.

والأخص هي الأذكار المعروفة التي نقول: ينبغي المحافظة عليها في الصباح، والمساء، وبعد الصلاة، والخروج، والدخول، وما إلى ذلك، هذا الأخص، وهو الذي نشتغل بشرحه، لكن نحن نوضح هذه القضايا في البداية، ويعني بذكر الرعاية، أعني: ابن القيم -رحمه الله- لما ذكر الرعاية، يقول: كقول القائل، أو الذاكر: الله معي، يعني: بعلمه، وإحاطته، وناظر إليّ[2] ونحو ذلك، مما يستحضر به نظر الرب -تبارك وتعالى-، ومراقبته، واطلاعه؛ فيكون أدعى إلى حضور القلب، أدعى إلى التأدب حال الذكر؛ ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه.

فإذا استحضر الذاكر أنه حينما يفيض، حينما يبدأ، حينما يشرع، حينما يشتغل بهذا الذكر أن الله مطلع عليه، وأنه مشاهد له إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه فهذا يحصل معه من حضور القلب ما لا يحصل مع غيره.

إذًا بذلك نكون قد تصورنا المراد بالذكر عند الإطلاق، فإذا قيل: مجالس الذكر، حضور مجالس الذكر، الملائكة تحضر مجالس الذكر، تحفها؛ فإنه يقصد به ما هو أعم من الذكر بالمعنى الخاص التي هي الأذكار المعروفة، فيدخل في ذلك المجالس التي يقرأ فيها القرآن، المجالس التي يتذاكر فيها عظمة الرب، ووحدانيته، مجالس الفقه، بيان الأحكام، مجالس الحديث، مجالس التفسير كل هذه بهذا الاعتبار من مجالس الذكر.

وحينما نقول: المحافظة على الأذكار سبب لحفظ العبد، ووقايته من الشرور، والآفات، وما إلى ذلك نقصد بهذا الأذكار المشروعة التي تقال في أحوال، وأوقات معينة، جاء ذلك منقولاً عن الشارع.

إذن إذا كان هذا الذكر الذي باللسان يتضمن الأذكار المعروفة، الثناء، وقراءة القرآن، والدعاء؛ فهذا الدعاء كما يقول ابن القيم -رحمه الله- الذكر الظاهر ثناء، أو دعاء، أو رعاية فما الفرق بين الذكر، والدعاء؟

إذا أردنا أن نميز الذكر فنجعل الذكر بمعنى أخص، ونفصل عنه الدعاء، وهو داخل فيه كما قلتُ بالمعنى، أو بالإطلاق الذي يكون متوسطًا، فإذا أردنا أن نفرق بين الدعاء، والذكر مع أن الدعاء داخل في الذكر كما سبق، فماذا نقول؟

يمكن أن يقال: بأن الدعاء هو الطلب، والسؤال، العبد يسأل ربه، وهذا السؤال، والطلب يكون على نوعين، أو على صورتين: الصورة الأولى، أو النوع الأول، وهو دعاء المسألة، يقول يا رب اغفر لي، يا رب ارحمني، يا رب ارزقني، يا رب عافني، فهذا دعاء مسألة.

النوع الثاني من الدعاء: وهو دعاء العبادة، وذلك أن هذا الذي يعبد ربه بالصلاة، والصيام، والحج، وما إلى ذلك من الأعمال، هو ماذا يريد بهذا العمل؟

هو سائل طالب، يطلب الثواب من الله بهذه الأعمال التي يتقرب بها إلى ربه -تبارك وتعالى- فصار عندنا دعاء عبادة، ودعاء مسألة.

كل دعاء عبادة، فهو مستلزم لدعاء المسألة، لأنه حينما يكون مصليًا؛ فذلك يقتضي أنه يكون طالبًا للأجر، والثواب، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء عبادة، وذلك أن هذه الذي يقول: يا رب أعطني، يا رب كذا فعله هذا عبادة، فالسؤال هذا، هذا الدعاء هو من أجل العبادات، والله يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وفسر بالمعنيين، ادعوني، يعني: اسألوني؛ أعطكم، أو اعبدوني؛ أثبكم، أستجب لكم.

وبعضهم رجح هذا المعنى الثاني بقرينة ما بعده، وهو أنه قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي فهنا قال: عبادتي، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك ينتظم المعنيين معًا، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي يعني: اسألوني؛ أعطكم، واعبدوني؛ أثبكم، وهذا القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وهذا الذي رجحه المحققون من أهل العلم وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ثم قال بعده: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ فهنا أجيب دعوة الداع إذا دعان أيضًا سؤال السائل، وعبادة العابد، وشيخ الإسلام -رحمه الله- لما ذكر هذه الآية؛ بين أن كل سائل راغب راهب؛ فهو عابد للمسؤول، وأن كل عابد له؛ فهو أيضًا راغب، وراهب يرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد، فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه[3].

إذًا الذي اختاره شيخ الإسلام، واختاره ابن القيم أن مثل هذه الآية ادعوني أستجب لكم يتضمن النوعين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة[4].

شيخ الإسلام يقول: لكن إذا جمع بينهما قلنا: الدعاء، والعبادة، أو قلنا: السؤال، والعبادة؛ فإن المراد بالدعاء هو السؤال[5]: رب اغفر لي السؤال بالقول، رب ارحمني، رب أعطني، رب عافني، وهكذا مما يطلب فيه جلب المنفعة، أو دفع المضرة، ويكون العبادة المقصود بذلك، يعني: كالصلاة، والصوم، ونحو ذلك.

إذًا الدعاء: هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره، أو دفعه عنه، فالذكر يشمل هذا، وهذا، فإذا أردنا أن نفرق بينه، وبين الدعاء؛ نقول: الدعاء إذًا هو سؤال بالقول، أو بالفعل، وأما الذكر؛ فإنه يكون المقصود به هذا الذي جاء عن الشارع مما يقال على سبيل التنزيه، أو الحمد، والثناء على الله -تبارك وتعالى- مما يقال في أوقات، وأحوال مخصوصة، أو مطلقة، فنفرق بين من رفع يديه، وقال: اللهم ارحمني، واغفر لي، واجبرني، واهدني، وعافني، وبين من يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ففي المعنى العام كل ذلك ذكر، وكل هؤلاء يذكر ربه، في المعنى الأخص يكون الذكر مثل: سبحان الله، والحمد لله، سبحان الله، وبحمده سبحان الله العظيم، وما شابه ذلك.

 طيب أيهما أفضل الذكر، أو الدعاء؟

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر أن الذكر أفضل من الدعاء لماذا؟ لأن الذكر ثناء على الله بجميل أوصافه، وآلائه، أما الدعاء فهو سؤال العبد حاجته، يقول ابن القيم: فأين هذا من هذا؟[6] واحد يثني على الله، وواحد يقول: يا رب أعطني، يقول: ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ بالثناء، والحمد بين يدي الحاجة[7] أن الإنسان لا يبدأ بالدعاء مباشرة يقول: يا رب ارزقني، وإنما يثني على الله بما هو أهله، كما دل على ذلك النصوص، ويعترف بفقره، وعجزه، وظلمه، وتقصيره، وحاجته، ويتضرع إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم يسأل حاجته بعد ذلك، فهذا أدعى للإجابة.

وسيأتي كلام -إن شاء الله تعالى- بشيء من التمييز، والتفصيل أكثر، أنه قد يكون في بعض الحالات الدعاء أولى، وأفضل، لكن نحن نتكلم هنا على سبيل الإجمال أيهما أفضل؟ الذكر أفضل من الدعاء، ولكل مقام مقال، وسيأتي تفصيل تلك المقامات التي قد يفضل بها أحد، أو بعض هذه الأعمال على غيره لمقتضى الحال، أو المقام.

أكتفي هذه الليلة بهذا القدر، ثم -إن شاء الله تعالى- نتكلم عن أنواع الذكر من جهات، واعتبارات متنوعة غير ما ذكر، وأسأل الله -تبارك وتعالى- لي ولكم القبول، وأن يبارك لنا في الأعمار، والأموال، والأولاد، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

  1. انظر: مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 406).
  2. انظر: المصدر السابق.
  3. انظر: الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (5/ 220).
  4. انظر: دقائق التفسير، لابن تيمية (2/ 359) وبدائع الفوائد (3/ 3).
  5. انظر: الفتاوى، لابن تيمية (5/ 220).
  6. انظر: الوابل الصيب، لابن القيم (89).
  7. انظر: المصدر السابق.

مواد ذات صلة