الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب ستر عورات المسلمين
تاريخ النشر: ١٠ / رجب / ١٤٢٧
التحميل: 2020
مرات الإستماع: 2960

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكما وعدناكم بعد الفراغ من أحاديث الباب نورد بإذن الله بعض ما جاء عن السلف مما يتصل بعملهم ومقالهم في هذه الأبواب التي نعرض لها بإذن الله ، ففي باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها جاء عن مطرف بن عبد الله -رحمه الله- أنه قال لبعض إخوانه: يا أبا فلان إذا كان لك حاجة فلا تكلمني فيها واكتبها في رقعة فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال[1]، يعني: لا يريد أن يجرح مشاعره، يقول: إن كانت لك حاجة لا تكلمني وتقول: أنا محتاج، اكتب في ورقة واتركها عندي، فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال، فكيف بالذي يذل الناس ويشنع عليهم ويقع في أعراضهم، وينشر ويُشْهِر عوراتهم؟.

وهذا ابن عيينة -رحمه الله- يقول: إن عبد العزيز بن أبي روّاد الإمام المعروف قال لأخ له من أهل السعة واليسار: أقرضنا خمسة آلاف درهم إلى الموسم، إلى الحج، فسُر التاجر، فرح أن يقضي حاجة لهذا الإمام العالم، فسُر التاجر وحملها إليه، فلما جنه الليل -يعني التاجر- بدأ يفكر و يحدث نفسه، ويراجع نفسه فكان يكلم نفسه ويقول: ما صنعت يا أبا داود -كنية هذا التاجر هكذا، شيخ كبير -يعني ابن أبي رواد، وأنا كذلك ما أدري ما يحدث بنا، أخشى أن يموت أو أموت أنا، ما أدري ما الذي يحصل فلا يعرف له ولدي حقه، يقول: أخشى أن يأتي أولادي ولا يعرفون قدر هذا الرجل ويسيئون إليه في المطالبة ويضيقون عليه أو يشتكونه، لئن أصبحت لآتينه ولأحاللنّه، أقول له: أنت في حل، ما أطلب منك شيئًا، فلما أصبح أتاه فأخبره، فقال: رد عليه ابن أبي رواد، ما فرح وقال: والله فرصة ممتازة تُسقط الدين، تعطينا هذا هبة، لا، في المقابل كانت نفسه عزيزة، فقال: اللهم أعطه أفضل ما نوى، ثم دعا له فقال: إن كنت إنما تشاورني فإنما استقرضناه على الله، يقول: على الله السداد، يعني: نحن نرجو فضل الله أن ييسر لنا ونسدد، فكلما اغتممنا به كفّر به عنا، يقول: كلما ذكرت الدين ووقع في نفسي هم يكفر عني من الذنوب والخطايا؛ لأن المؤمن لا يقع له هم ولا غم -كما سبق- إلا كفر الله به من خطاياه، فكانوا يحتسبون حتى في هذا، يقول: فإذا جعلتنا في حل كأنه يسقط ذلك، يقول: لا يصير كفارة، فكره التاجر أن يخالفه احتراماً له، وتوقيراً، فما أتى الموسم حتى مات التاجر، فأتى أولاده فقالوا: مال أبينا يا أبا عبد الرحمن، هات المال، فقال لهم: لم يتهيأ المال، فقالوا: أَيْش أهون عليك من الخشوع وتذهب بأموال الناس؟!، يقولون: أنت إنسان سهل أنك تبكي وتتأثر وتخشع لكن أموال الناس أيضاً سهل عليك أنك تضيعها، سوء أدب! وهذا الرجل كان خاشعاً عابداً عالماً تقيًّا، فيقولون: أنت سهلة عليك الدمعة، لكن أيضاً سهل عليك تضييع أموال الناس، فرفع رأسه فقال: رحم الله أباكم، قد كان يخاف هذا وشِبهه، ولكن الأجل بيننا الموسم الآتي، وإلا فأنتم في حل مما قلتم، أيضاً هو ما وقف معهم وقال: بعدما تقولون لي هذا الكلام وتتطاولون عليّ اذهبوا ليس لكم عندي شيء، وإنما قال: أنتم في حل، لم يقف عند إساءة المسيء، وبعض الناس إذا أسيء إليه جعلها قضية وخرج يتحدث عند كل أحد وصارت مشكلة كبيرة، أنهى هذا في حينه، قال: فبينما هو ذات يوم خلف المقام، إذ ورد عليه غلام كان قد هرب إلى الهند، غلام يعني: عبد كان عنده، هرب إلى الهند، ومعه عشرة آلاف درهم لابن أبي رواد فر بها، يبدو أنه ندم، فجاء، فأخبره، يعني: هذا الغلام أخبر ابن أبي روّاد أنه اتجر وأن معه من التجارة ما لا يحصى، هذه العشرة الآلاف وهذا ثمرها، اشتغل بها فجاء بأموال كثيرة جداً لابن أبي رواد، قال سفيان فسمعته يقول: لك الحمد، سألناك خمسة آلاف فبعثت لنا عشرة آلاف، يحمد الله ، يا عبد المجيد احمل العشرة الآلاف لهم، هذه التي يطالبونه بها، وخمسة للإخاء الذي بيننا وبين أبيهم، هذه زيادة، وهذا ليس من الربا، لأنه لم يكن عن شرط، فخير الناس خيرهم وفاء وأداء، وقال العبد: من يقبض ما معي؟، أي: معه أموال كثيرة، فقال: يا بني أنت حرٌّ لوجه الله، وما معك فلك، ما قال: تعال أنت آبق، بل قال: أنت حر وما معك فلك[2].

وأيضاً مما يذكر عنهم في هذا ما جاء عن يحيى بن معين الإمام الكبير، صاحب الإمام أحمد، إمام الجرح والتعديل، يقول: ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته، وأحببت أن أزين أمره، يقول: لا أُظهر شينه للناس، ولا أظهر عيبه لهم، وإنما أزين أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بما يكره، بعض الناس لا يبالي بأحد ويتكلم بما يجرح المشاعر أمام الآخرين، وفي المجلس يتكلم على هذا بكذا، ويجرح مشاعر هذا، ويخرج الناس من المجلس هذا مكسور وهذا مجروح وهذا مطعون برماحه التي يرشقها إليهم، يقول: ما استقبلت رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه، إذا رأيت ملاحظة فيما بيني وبينه أنصحه، فإنْ قبل ذلك وإلا تركته[3] هذه هي الأخلاق، ما هي الشناعة على الناس، وإظهار العيوب، والتشنيع على الشخص في المجلس.

ومن أخبارهم أيضاً ما جاء عن الإمام البخاري -رحمه الله- أنه كان له غريم أخذ عليه مالاً كثيراً، الإمام البخاري صاحب الصحيح، فهذا الرجل أخذ عليه مالاً كثيراً، وهذا الغريم قدِم آمُل، بلد في المشرق، الآن هي في عداد ما يسمى بالجمهوريات الإسلامية، يقول: ونحن عنده بِفِرَبْر، فقلنا له: ينبغي أن تعبر يعني: تنتقل إلى آمُل من أجل هذا الغريم وتأخذ مالك منه، ينبغي أن تعبر وتأخذه بمالك، ماذا رد البخاري عليهم؟، ما قال: فرصة، قال: لا، ليس لنا أن نروعه، هو محافظ على مشاعره، ثم بلغ غريَمه مكانُه بفربر، يعني: الرجل هذا الذي أخذ مال البخاري علم أن البخاري في منطقة قريبة فخرج إلى خوارزم، ابتعد، فقالوا للبخاري: ينبغي أن نقول لأبي سلمة الكَشّاني عامل آمل، يعني: آمير آمل، ليكتب إلى خوارزم في أخذه، -يرسل خطابًا ويقول: اقبضوا على الرجل، واستخراج حقك منه، فقال إن أخذتُ منهم كتاباً طمعوا مني في كتاب، البخاري ما كان يحب الدخول على السلطان، ويقول: إذا كتبت لهم في هذه القضية، طمعوا بأكثر من هذا، أني أتواصل معهم، ثم بعد ذلك يطلبون مني الزيارة وما إلى ذلك، يقول: إن أخذت منهم كتاباً طمعوا مني في كتاب، ولست أبيع ديني بدنياي، يقول: فجهدنا فلم يأخذ، حتى كلمنا السلطان عن غير أمره، يقول: نحن تبرعنا وذهبنا وأخبرنا السلطان بهذا الذي حصل، فكتب إلى والي خوارزم، فلما بلغ أبا عبد الله أبى ذلك، يعني: البخاري عرف أنهم كلموا السلطان فوَجد وجْداً شديداً يعني: اهتم وتضايق، وقال: لا تكونوا أشفق عليّ من نفسي، وكتب كتاباً وأردف تلك الكتب بكتب وكتب إلى بعض أصحابه بخوارزم أن لا يُتعرض لغريمه إلا بخير، يقول: لا أحد يتعرض له، ما أنتم بأحرص مني على مصلحتي، اتركوا الرجل، فرجع غريمه إلى آمل، وقصد إلى ناحية مرو، فاجتمع التجار وأُخبر السلطان بأن أبا عبد الله -يعني: البخاري- خرج في طلب غريم فطلب السلطان التشديد على غريمه، وكره ذلك أبو عبد الله، وصالح غريمه على أن يعطيه كل سنة عشرة دراهم، -هذا شيء لا يذكر، وليس كل يوم، وكان المال خمسة وعشرين ألفاً[4]، كل سنة عشرة دراهم يعطيها له، هذه الأقساط الأحفاد ما يحصلونها، ولم يصل من ذلك إلى درهم ولا إلى أكثر منه، ما أعطاه حتى عشرة دراهم، ذهب وتركه، وهو يخاف انه يروعه، يراعي مشاعره، لا داعي أن نسبب له صدمة، فأين نحن من هذا؟، الآن لو أحد يتصرف بهذه الطريقة ماذا سيقول الناس عنه؟، سيقولون: هذا مجنون لماذا لا يأخذ حقه؟، لكن البخاري شمس، ومن الذي لا يعرف البخاري؟، كيف وصلوا إلى هذا؟، ونحن نظن أننا بضيق الصدر وزيادة الطمع والأنانية أننا بذلك قد حصلنا ألوان الكمالات وأن عقولنا في غاية الرجاحة وبعد النظر، ولا يزيدنا ذلك إلا ضآلة وصغارة، لأنه كلما ازداد الإنسان التفاتاً لنفسه وإغراقاً في تكريس مصالحها كلما صغر، حتى يصير ما يملأ ربع المتر الذي يجلس فيه، وكلما صار نفعه متعديًا صار مثل السراج، ثم يصير مثل الشمس يملأ الدنيا، يعيش لغيره.

وهذا أحمد بن مهدي يحكي واقعة عجيبة جداً، يقول: جاءتني امرأة ببغداد ليلةً، فذكرت أنها من بنات الناس، يعني: بنت عائلة محترمة، بنت شريفة وأنها امتُحنت بمحنة، وابتليت فيها، جاء إنسان واغتصبها، قالت: وأسألك بالله أن تسترني فإني أكرهت على نفسي، وإني حبلى حامل، ماذا تريد منه؟، هي أخبرت الآخرين أنها قد تزوجت فلاناً، وأن هذا الحمل منه، قالت: قلتُ: إنك زوجي، فلا تفضحني، طبعاً هذا الإنسان ما يفعل ذلك مع أي امرأة، امرأة تفجر ثم تأتي ويستر عليها بهذه الطريقة، وتضيع الأحساب والأنساب والشرف، وتقع مشاكل ما لها حد، لا، لكن هذه امرأة انتهك عرضها وهي شريفة، فتصرفت بهذه الطريقة، فراعى حالها، وليس المقصود أن هذا التصرف صحيح أو غير صحيح، المقصود أنهم إلى أي حد كانوا يحرصون على ستر عورات المسلمين، يقول فنكّبتُ عنها، ومضيت فلم أشعر حتى جاء إمام المحلة و الجيران يهنئونني بالولد الميمون، يقول: جاء إمام الحي والجيران يقولون: ما شاء الله، بارك الله لك في الولد، يقول: فأظهرت التهليل، ووزنت في اليوم الثاني للإمام دينارين، وقلت: أعطها نفقة فقد فارقتها أي: طلقتها، هذه نفقة لها، قال: وكنت أعطيها في كل شهر دينارين، هذه نفقة للولد، حتى أتى على ذلك سنتان، فمات الطفل، وجاء الناس يعزونني فكنت أظهر لهم التسليم والرضا، قائلا: الحمد لله على قضائه وقدره، إنا لله وإنا إليه راجعون، يقول: فجاءتني بعد أيام بالدنانير، قالت: الولد مات، وهذه نفقته، فردّتها ودعت لي، فقلت: هذا الذهب كان صلة للولد، وقد ورثتيه وهو لك[5].

وأخيراً هذا الوزير أبو غالب محمد بن علي الصيرفي، جاءه أحد شياطين الإنس من المتبرعين بوشاية وقد كتب تقريرًا في إنسان يغري به، يقول: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، كتب سعاية برجل فماذا كتب عليه هذا الوزير؟، كتب: السعاية قبيحة ولو كانت صحيحة، ومعاذ الله أن نقبل من مهتوك في مستور، -أي هذا الإنسان الذي جاء بالسعاية إنسان لا دين له، ولا مروءة له وجاء يسعى في إنسان مستور، ولولا أنك في خِفارة شيبك -هذا صاحب السعاية فيه شيب- لعاملناك بما يشبه مقالك، ويردع أمثالك، فاكتم هذا العيب، واتقِ من يعلم الغيب، فأخذها فقهاء المكاتب -يعني الذين يدرسون الصبيان، وعلموها الصغار، "السعاية قبيحة ولو كانت صحيحة، ومعاذ الله أن نقبل من مهتوك في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبك، لعاملناك بما يشبه مقالك، ويردع أمثالك"[6]، هذا، وأسأل الله أن يلحقنا بركابهم، تحت لواء محمد ﷺ، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. انظر: تاريخ الإسلام (6/ 482).
  2. انظر: تاريخ بغداد وذيوله (14/ 188).
  3. انظر: تاريخ الإسلام (19/ 261).
  4. انظر: تاريخ الإسلام (19/ 261).
  5. انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (13/ 284).
  6. انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب (5/ 49).

مواد ذات صلة