الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
حديث «أين المتألي على الله..؟»
تاريخ النشر: ١٦ / شعبان / ١٤٢٧
التحميل: 1567
مرات الإستماع: 5016

أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:  

ففي باب "الإصلاح بين الناس" أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "سمع رسول الله ﷺ صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهما وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله ﷺ فقال: أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟، فقال: أنا يا رسول الله، فله أيُّ ذلك أحبَّ"[1]، متفق عليه.

هذا الحديث اشتمل على جملة من الفوائد، والفائدة الأصلية التي من أجلها أورده المصنف -رحمه الله- في هذا الباب هو ما يتعلق بالإصلاح بين الناس، فهؤلاء قد اختصموا، وقعت بينهم خصومة في هذا المال والمطالبة التي كانت بينهما، حتى علت الأصوات، فالنبي ﷺ أصلح بينهما بقوله ﷺ: أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟، فالرجل لما سمع هذا الكلام أدرك خطأه وتقصيره فما كان منه إلا أن رجع، وأحسن إلى هذا الإنسان الذي عليه المطالبة.

فيشرع للإنسان أن يكون واسطة خير وإصلاح بين المسلمين فيما يقع بينهم من الخصومات في القضايا المالية، وفي غيرها من أمور المطالبات، والمعاملات، وسائر القضايا، وهو أمر يحصل ويتكرر كثيراً.

هذا الحديث مخرج في الصحيحين، وفي رواية عند ابن حبان: "أن امرأة دخلت على النبي ﷺ وقد وقعت بينها وبين ابنها خصومة -يعني: أن الخصومة كانت واقعة بين امرأة وبين ابنها، في مال ومطالبة، تمرٌ أخذت منه هذه المرأة ما تطعمه، وتصدقت بشيء منه، فكان يطالب بالعوض، فاعتذرت هذه المرأة بأنها ما أخذت إلا شيئاً تأكله، أو شيئاً تصدقت به"، ما أخذته على سبيل الإفساد مثلاً والتضييع، فسواء كان هذا أو هذا.

هذا يؤخذ منه أن الصحابة بشر، والله يقول: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ النساء: 128، فالشح حاضر في النفوس، وهي مجبولة عليه، ولا يتخلص منه إلا من خلصه الله .

فالخصومة تقع في المال بين المرأة وابنها، وبين الرجل وابنه، وبين الرجل وقريبه، وجاره، وما أشبه ذلك، لكن ينبغي أن يتفطن إلى أن ذلك ليس من مراتب الكمال، وأن الإنسان ينبغي أن ينأى بنفسه عن هذا، ويترفع عنه، والناس في ذلك يتفاوتون، ولو أردنا أن نورد عن الصحابة وعن التابعين نماذج من العفو بل والإحسان إلى من وقعت عليه المطالبة بإعطائه بل والعفو عنه، وإعطائه المال لاحتاج منا ذلك إلى وقت طويل في إيراد أخبارهم، وقد أوردته في مناسبات سابقة في المسجد الأول، بنحو سبع عشرة ليلة من رمضان، كل ذلك في مثل هذا.

فعلى كل حال قد يوجد من تحضر نفسه عند المطالبة، ويقع شيء من المشاجرة، ولكن إذا ذُكِّر ينبغي أن يلين، وأن لا يقف ويتصلب عند حقه، ولا يترك شيئاً منه.

وفيه فائدة أخرى وهي: أن من يصلح بين الناس ينبغي أن يحتمل ما يبدر منهم مما قد يكون على خلاف اللائق، فهؤلاء عند رسول الله ﷺ وكان ينبغي أن يخفضوا أصواتهم، والله يقول: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات:2]، يعني: كراهية أن تحبط، أو لئلا تحبط أعمالكم، وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فيدخل فيه رفع الصوت بحضرته، ويدخل فيه أيضاً دعاؤه ﷺ بصوت مرتفع، أن يناديه بصوت مرتفع، لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، إذا تكلمت تخفض صوتك عنده، وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ.

ويقول: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4]، يصوتون له ﷺ من رواء حجراته، فكان اللائق أن ينتظروا، فالحاصل أن مثل هذا يُحتمل.

وتقول: وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه، أحسن ما يفسر به هذا -والله أعلم- أن يستوضعه بمعنى أنه يطلب منه أن يطرح شيئاً من الحق، ويسترفقه، يعني: أن يطرح الربح، هذا إنسان باع لإنسان أرضًا بثلاثمائة وخمسين ألفًا، رأس المال ثلاثمائة ألف، والربح خمسون، فيستوضعه يعني: من رأس المال، كأن يقول: أعطيك مائة وخمسين، وتعفو عن النصف الآخر، كما أشار النبي ﷺ كما في حديث جابر لأولئك الذين جاءوا يطالبونه، فالنبي ﷺ أشار بيده هكذا يعني الشطر فقبل الرجل، فهذا يستوضعه، أي يضع من رأس المال، ويسترفقه، أي: يضع الربح، يقول مثلاً: هذه الأرض هي بثلاثمائة ألف، رأس مالها، وربحتَ عليّ خمسين ألفاً، فضع هذا الربح واكتفِ برأس المال، هذا الرجل معسر الآن، هذا الرجل اشترى هذه الأرض على أن يتّجر بها، ولكنه ما أفلح، فتكتفي برأس المال.

اشترى منه أسهماً، ولكنه لم ينجع بهذه التجارة، ولم يربح، فيقال: تكتفي بأصل رأس المال، فهذا معنى يسترفقه، يطلب منه الإرفاق، كما قال الله في الديون في سورة البقرة: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ [البقرة:280]، يعني: فإنظار إلى مسيرة، إلى حال اليسر، وَأَنْ تَصَدَّقُوا، يعني: بالمال كله، تقول له: أنا لا أريد منك شيئاً، أو ببعضه بجزء منه كالشطر وغيره، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

وسيأتي الكلام على هذا -إن شاء الله تعالى- في محله من الأبواب من هذا الكتاب بإذن الله ، الإنظار والإرفاق، وما أشبه ذلك.

فالمقصود أنه هنا يستوضعه أو يسترفقه، وهو يقول: والله لا أفعل، يحلف يقول: لا يمكن، لا أضع عنك من الربح، ولا من رأس المال، تأتي به كاملاً، فخرج عليهما رسول الله ﷺ:  أين المتألي على الله أن لا يفعل المعروف؟، المتألي يعني: الذي يحلف، من الأليّة، وهي الحلف كما قال الله : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة: 226] يعني: يحلف أن لا يطأ امرأته، وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى [النور:22]، لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح في قصة الإفك[2].

فالمقصود أن هذا الرجل حلف، فالنبي ﷺ بين أنه لا يحسن بالإنسان أن يحلف على ترك المعروف، وترك الخير، والإحسان والبذل إلى الناس، أين المتألي على الله أن لا يفعل المعروف؟، فقال: أنا يا رسول الله، فله أيُّ ذلك أحبَّ.

لاحظوا سرعة الفيئة والرجوع، له أيُّ ذلك، يعني: يريد أن نضع له الربح، أو نضع له من رأس المال مع الربح، فله أيُّ ذلك أحبَّ، متفق عليه.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب هل يشير الإمام بالصلح، رقم: (2705)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الديْن، رقم: (1557).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، رقم: (4141)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم: (2770).

مواد ذات صلة