الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «رب أشعث أغبر..» ، «قمت على باب الجنة..»
تاريخ النشر: ٢٥ / شعبان / ١٤٢٧
التحميل: 1939
مرات الإستماع: 13156

رُبَّ أشعث أغبر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل ضعفة المسلمين وفقرائهم أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: رُبَّ أشعثَ أغبرَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره[1]، رواه مسلم.

الأشعث هو: الذي قد تفرق شعره، ولم يرجِّله، فصار شعره منتفشاً، غير مهذب، ولا مرتب، ولا مرجَّل.

أشعث، وهذا يقال كثيراً لمن قدم من سفر، قديماً في الأسفار كانت شعورهم طويلة، فيقدم الإنسان، ولم يرجل شعره، فيأتي كما قال النبي ﷺ: الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟[2].

فالمقصود أن الشَّعَث يكون في شعر الرأس، أشعث أغبر وذلك لا يختص بالرأس، وإنما بعموم البدن، يعني: أن هذا الإنسان يظهر عليه الضعف، ويظهر عليه الرثاثة، وليس له هيئة، ولا لباس حسن، ولا مظهر حسن، وإنما يحتقره الناس ويزدرونه؛ لربما لما يظهر عليه من آثار الفقر، والضعف، والمسكنة.

مدفوعٍ بالأبواب، هذه كأنها نتيجة لما ذكر؛ لأن الناس إذا رأوا الإنسان بهذه الهيئة، أشعث أغبر، انقبضوا منه ولم يحفلوا به إطلاقاً، فمدفوع بالأبواب بمعنى: أنه لا يُستقبل، وليس له منزلة، وليس له مكانة وشأن في نفوس الناس، مدفوع بالأبواب، لا قيمة له عندهم.

لو أقسم على الله لأبره، فهو له منزلة عند الله -تبارك وتعالى، لأنه كما قررنا في سائر الأيام السابقة أن منزلة الإنسان بما يحمله من التقوى لله ، وأما المظهر فإنه لا يحفل به، ولا يدل على شيء  في ميزان الله -تبارك وتعالى، وإنما الواجب هو إصلاح القلب، وإصلاح العمل، فإذا استقام الإنسان على أمر الله -تبارك وتعالى- ظاهراً وباطناً فإنه تعلو مرتبته، ويعلو قدره، وعلى قدر استقامته على قدر ما يكون له من المنزلة، وعلو الدرجة عند الله .

وهذا قد بلغ به أن صار بهذه المثابة: لو أقسم على الله لأبره، والعلماء رحمهم الله يفسرون هذا بأحد تفسيرين.

منهم من يقول: لو أقسم على الله: أي دعاه، لأبره: أي لأجابه، أي أنه مجاب الدعوة، وهذا المعنى وإن كان محتملاً إلا أن الأقرب -والله تعالى أعلم- وهو الظاهر المتبادر أن المعنى كما فسره النبي ﷺ أو كما يفهم من قوله ﷺ في خبر أنس بن النضر ، لما كانت الرُّبَيِّع أخته كسرت ثنية المرأة، فأرادوا القصاص، فقال النبي ﷺ "كتاب الله القصاص"، فقال أنس : والله لا تُكسر ثنية الرُّبَيِّع، فعفا أولئك وطلبوا أرش الجناية، فقال النبي ﷺ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره[3].

فهنا ما هو مقام دعاء، وإنما قسم، فقال: والله لا تُكسر ثنية الرُّبَيِّع، ليس اعتراضاً على حكم الله أبداً، وأنس بن النضر معروف، وموقفه في يوم أحد معروف.

ولكنه أقسم على شيء مستقبل فأبر الله قسمه، وهذه قضية يتكرر السؤال عنها هل للإنسان أن يقسم على الله كأن يقول مثلاً: أقسمت عليك يا رب أن تفرج هم فلان، أقسمت عليك يا رب أن تبرئ فلاناً من المرض، أقسمت عليك يا رب أن تنجي فلانًا من الكارثة، أقسمت عليك يا رب أن تنصر إخواننا في فلسطين على اليهود؟.

هل للإنسان أن يفعل هذا؟ يقال: إن هذا الفعل إذا اجترأ عليه الإنسان، وأقدم عليه فإن ذلك يعني أنه واثق من منزلته من ربه، أن له منزلة عند الله ، وهذا لا يخلو من تزكية للنفس، ففيه إشكال من هذه الحيثية، فالإنسان لا يجترئ عليه، وإنما يقول: أنا ضعيف، أنا عاجز، أنا مسكين، من أنا حتى أقسم على الله ؟، وما منزلتي وما عملي حتى أجترئ على مثل هذه المنزلة العظيمة؟.

قمت على باب الجنة

والحديث الآخر الذي أورده هو:

حديث أسامة أن النبي ﷺ قال: قمت على باب الجنة، فإذا عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار. وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء[1].

ونحن عرفنا أن الجنة لها ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب -أعاذنا الله وإياكم من النار، فالجنة لها أبواب ثمانية، لكل باب قومٌ يدخلون منه، ومن الناس من يدعى من هذه الأبواب جميعاً كما قال النبي ﷺ ذلك في حق أبي بكر .

الجنة لها أبواب ثمانية، لكل باب قومٌ يدخلون منه، ومن الناس من يدعى من هذه الأبواب جميعاً كما قال النبي ﷺ ذلك في حق أبي بكر [2].

وصح أن ما بين المصراعين أربعون سنة، وسيأتي عليه يوم وهو كظيظ من الزحام[3].

يقول: قمت على باب الجنة، فإذا عامة مَن دخلها المساكين، وأصحاب الجَد محبوسون، عامة من دخلها المساكين، الفقراء هم السواد الأعظم.

كما ذكرنا سابقاً في الحديث الذي احتجت فيه الجنة والنار، فقالت النار: فيّ الجبارون، والمتكبرون، وقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس، ومساكينهم[4].

فعامة أهل الجنة من المساكين، من الضعفاء، من الفقراء، وعامة أهل النار من المتكبرين، من الجبارين، كما أخبر النبي ﷺ.

يقول: وأصحاب الجَد محبوسون، والمقصود بأصحاب الجد أي: أصحاب الغنى، الأغنياء، محبوسون، محبوسون لماذا؟

من أهل العلم من قال: إنهم حبسوا؛ لأن فقراء المهاجرين يدخلون قبل غيرهم قبل الأغنياء بخمسمائة عام، ومن أهل العلم من قال: إنهم محبوسون؛ لثقل الحساب، فالذي ليس عنده شيء يأتي وهو خفيف الحمل، خفيف الظهر يحاسب على ماذا؟ على خمسين ريالا من هنا، وعلى مائة ريال من هنا، وعلى ألفي ريال من هنا، ما عنده شيء، هو راتبه كله ربما ما يصل ألف ريال، أو ألفي ريال، لكن الذي يأتي ويحاسب على المليارات، يحاسب عليها هذه من أين؟ وهذه من أين؟.

فيطول حسابه؛ لكثرة ما عنده من العرض، يحاسب على هذا، ويحاسب على هذا المصنع، وهذه الآلة، وهذا النقد، وهذه المعاملة المالية، وهكذا، أشياء كثيرة جدًّا، فتحتاج إلى وقت، والمعاملات المحاسبية كلما كانت القضايا أكثر كلما احتاجت إلى وقت أطول، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- أن أصحاب الجَد -أي: الغنى- محبوسون أي: لطول الحساب.

ولهذا كان النبي ﷺ يقول: ما أحب أن لي مثل أُحد ذهباً يأتي عليّ ليلة أو ثلاث عندي منه دينار، ويقول: الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال: هكذا وهكذا[5].

يعني: يعطي، ويفرق، ويتصدق، وهذا قليل في الناس؛ لأن المال محبوب إلى النفوس، والله يقول: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، الخير هنا المقصود به المال، وكما قال الشاعر:

لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهُمُ الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتّالُ

طبعاً ليس بصحيح أن الجود يفقر، والإقدام قتال، لكن هكذا يتصور كثير من الناس.

لولا المشقة، يعني: يصعب على الإنسان أن يخرج المال، كان الناس صاروا كلهم سادة؛ لأن من الذي يسود؟ الشجاع -الإقدام قتال، والجواد الذي يبذل وينفق، وكذا، فالإنسان الذي يبذل للناس، ويدعوهم تجد الناس حوله.

الشيخ ابن باز -رحمة الله عليه- ما كان من الأثرياء، يحكي لي مدير مكتبه في بيته يقول: أيام الحج أصحاب التكاسي، والأجرة من هؤلاء الضعفة، هؤلاء الناس المساكين، يقول: لا يوجد مكان يسعهم أصلاً، يتجمهرون في حديقة، ويقول الشيخ: لا تتركوا أحدًا حتى يدخل، أدخِلوا كل الناس، ما يوجد مكان، وهؤلاء يتهافتون على الطعام أحياناً بطريقة غير لائقة، ويخطفون من يد من جاء به إليهم، وأمور مزرية أحياناً.

فكان يأمر بالطعام لهم جميعاً، ولا يترك أحدًا.

هؤلاء انظروا الآن في عصرنا هذا يتهافتون على من؟ يعني: الإنسان ينظر إلى نفسه، وإلى حاله، هل بابه مطروق؟

فالشيخ على قلة ذات اليد عنده إلا أنه دائماً لا يتوقف مجلسه من الناس، والضعفاء عنده سادة في مجلسه، وليس في مجلسه أحد يذل ولا يهان.

فهذا مثال من العصر، من عصرنا الحاضر، من العصر الحديث.

فالمقصود أن المال يحاسب عليه الإنسان، والأمر الآخر أن هذا المال الكثير يشوبه ما يشوبه بطريقة الكسب، وقد يمنع حق الله فيه من جهة الزكاة مثلاً، وإعطاء المحتاجين، وأيضاً في تصريف المال، قد يتصرف فيه الإنسان بطرق محرمة، مرابٍ، ويقرض الناس بالربا، ويشتري الحرام، ويفعل أشياء محرمة، وما إلى ذلك من الأمور، فيكون أطول في حسابه، إلا من هدى الله ونجاه من هذا كله، فأخذ المال من حله، وأعطى حق الله فيه، وصرفه في حله أو حقه، فهذا لا شك أنه من السعداء، ونعم الشيء المال الصالح في يد الرجل الصالح، يتصدق، ويعطي، ويصل الرحم، وما إلى ذلك من الأمور.

يقول: غير أن أصحاب النار قد أُمر بهم إلى النار... طبعاً أصحاب الجَد من المسلمين الذين سيدخلون الجنة، أما أهل النار فأُمر بهم إلى النار.

يقول: وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء، أخرجه البخاري ومسلم.

والنبي ﷺ بيّن هذا لما قال: يا معشر النساء، تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فسألنه عن هذا، فقال: تكفرن، فقيل: تكفرن بالله؟، قال: لا، تكفرن العشير، بمعنى: أنه لو أحسن إليها الدهر كله، ثم رأت منه شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط، وتكثرن اللعن[6].

فهذان سببان أوردا كثيراً من النساء النار، تُمسك لسانها، لا تجحد فضل زوجها، ولا تقع في شيء من السب واللعن.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (8/ 113)، رقم: (6547)، ومسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء (4/ 2096)، رقم: (2736).
  2. أخرجه البخاري، باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذا خليلا (5/ 6)، رقم: (3666)، ومسلم، باب من جمع الصدقة، وأعمال البر (2/ 711)، رقم: (1027).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق (4/ 2278)، رقم: (2967).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2187)، رقم: (2846).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك (8/ 60)، رقم: (6268)، ومسلم، باب الترغيب في الصدقة (2/ 687)، رقم: (94).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم (1/ 68)، رقم: (304)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق (1/ 86)، رقم: (79).

مواد ذات صلة