الإثنين 10 / ربيع الآخر / 1446 - 14 / أكتوبر 2024
حديث «فهل لك من والديك أحد حي؟»
تاريخ النشر: ١٣ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 1719
مرات الإستماع: 4892

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب بر الوالدين أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -ا- قال: أقبل رجل إلى نبي الله ﷺ فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما[1].

أقبل رجل: ذكر بعضهم أنه ابن لعباس بن مرداس السلمي، وذلك قبل إسلام العباس بن مرداس، فإن العباس -كما هو معلوم- تأخر إسلامه بعض الشيء.

قال: أقبل رجل إلى نبي الله ﷺ فقال: أبايعك على الهجرة، يعني: الانتقال من بلد الشرك هنا إلى بلاد الإسلام، في هذا المقام، وإلا فإن الهجرة: هي الانتقال من البلد التي لا يستطيع الإنسان أن يقيم دينه فيها إلى بلد يأمن فيها، ويستطيع إقامة شعائره ودينه، فالمسلمون انتقلوا من مكة في أول الأمر إلى الحبشة ولم تكن دار إسلام كما هو معلوم.

فهنا أراد أن ينتقل من دار الكفر إلى دار الإسلام، إلى المدينة، والهجرة كانت واجبة، والله قال في الذين قعدوا مع قدرتهم على الهجرة: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ۝ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ۝ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:97-99].

وهكذا قال الله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ [الأنفال:72]، فأمر الهجرة ليس بالشيء السهل، ومع ذلك هذا الرجل أراد أن يجاهد ويهاجر، قال: أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: هل لك من والديك أحد حي؟، أب أو أم، قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما، ما سأله هل هذا الوالد مسلم، أو أنه كافر، وإنما أمره أن يرجع إليهما فيحسن صحبتهما، فالأب إذا كان كافراً فإن ذلك لا يمنع من بره، كما قال الله : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، ولكن لا يتبع هذا الوالد في الدين، وإنما قال: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ، فالأب هو سبب الوجود في هذه الحياة كما ذكرنا سابقاً، فيجب القيام عليه أحسن قيام، والبر به، والإحسان إليه بكل طريق مستطاع، سواء كان مسلماً أو كافرًا، وإذا كان مسلماً فحقه أعظم، فقدمه هنا النبي ﷺ على الجهاد وعلى الهجرة، مع وجوبهما في ذلك الوقت، وأخذ من هذا أهل العلم أنه لا يجوز أن يجاهد الإنسان إلا بإذن من والديه، إلا إذا كان في الصف، يعني: في وقت مواجهة العدو، فهنا لا يجوز له أن يستأذن.

وكذلك أيضاً إذا كان هذا الإنسان قد تعيّن عليه الجهاد، مثل إذا داهم العدو بلدًا من بلاد المسلمين، فيجب عليهم أن يجاهدوه بكل وسيلة، لا يحتاج إلى إذن من الوالدين.

والحالة الثالثة: إذا عيّنه الإمام، قال: يا فلان اذهب، ففي هذه الحالات الثلاث يتعيّن الجهاد عليه.

قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما متفق عليه، يعني رواه البخاري ومسلم.

قال: وهذا لفظ مسلم، وفي رواية لهما: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد، قال: أحي والداك؟، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد، يعني: أن ما تقوم به من البر لهما هو جهاد، ففيهما فجاهد، وتقديم الجار والمجرور هنا "ففيهما" ما قال: جاهد فيهما، ففيهما فجاهد يدل على الاختصاص، وذلك أن الإنسان الذي يريد أن يقوم ويحقق المراتب العالية في بر الوالدين يحتاج إلى فطام نفسه من كثير من شهواتها، ومألوفاتها، لربما سيتعطل من كثير من مصالحه، سيعتذر من أصحابه في سهراتهم، في ذهابهم، في مجيئهم، في سفراتهم، فيبقى مع هذين الوالدين، وهذا لا يطيقه كل أحد، فيحتاج إلى مجاهدة للنفس، وتصبير، خاصة إذا كان الوالد أو الوالدة بحاجة إلى قيام على شئونهما، فإن ذلك يتطلب صبراً وجهداً وتحملاً، وما يوفق لهذا أكثر الناس.

فيحتاج الإنسان إلى أن ينظر إلى هذه المعاني الشريفة العظيمة، وكيف بينّها الشارع، فالإنسان أحياناً يحرص على بر الأبعدين ويضيع الوالدين، تجده سامعًا مطيعًا لصديقه، لمن يحبه، لمن يقدره، وتجد الوالد أو الوالدة في غاية الأسى والحسرة من سوء خلقه، ورعونته، وعقوقه، يعامل بالفظاظة والسوء، ولا يحتمل منهم أي انتقاد، أو توجيه، وما علم أن هذين الوالدين إذا وجهوه أو انتقدوه أو علموه أو نصحوه فإنهم يوجهون قطعة من قلوبهما تمشي على الأرض، لكنه ما يشعر بهذا إلى أن يأتي له أولاد، قطعة من قلوبهما تمشي على الأرض، فهم يريدون تنزيهه من كل دنس، ولو استطاعوا أن لا يمشي على الأرض لما تركوه يمشي عليها، لو استطاعوا أن الهواء ما يضرب في وجهه ويؤذيه لفعلوا، إذا أصابه المرض، أو أصابه شيء من البلاء يتمنون أنه فيهم وأن هذا الولد يسلم، ينظرون إلى وجهه صباح مساء، ويفرحون لفرحه، ويتألمون لألمه، والكلمة التي تجرح هذا الولد تجرحهم، والذي يؤذيه يؤذيهم، وما توجد كبد حرّاء على وجه الأرض -والله أعلم- أشد من كبد الأم والوالد على ولده، كم من قلوب مكلومة على الأولاد.

اتصلت بي أمس الصباح امرأة، قالت: أنا اتصلت ما أريد أسأل، أنا أريد شيئًا واحدًا فقط، أنا ولدي صدم جملًا البارحة وتوفي، أريد منك أن تدعو له أن الله يزوجه من الحور العين، تقول: كان يقبل يديّ ورجليّ، وما عندي غيره، وتوفي في ليلته، تقول: كدت أجن لولا أن الله ربط على قلبي، وكنا نهيئه للزواج.

تصور قلب هذه الأم، لا يمكن أن يشعر الولد بشعور هذه الأم، يعني: لو كان الحادث للأم الولد لا يشعر بنفس شعورها.

الوالد يتذكر الولد في كل شيء، إذا سافر الولد أو غاب يتذكره، وإذا رأى ألعابه وثيابه تذكر، فكيف إذا مات؟، لا تصفو له الحياة ولا يطيب له العيش، ولكنها أمور لا نشعر بها، يشعر بها من كان له ولد وجرّب، فمهما بذلنا ومهما فعلنا ومهما قدمنا لن نؤدي حق هذا الوالد، أبداً، هل هناك شيء أعظم من الجهاد والهجرة؟ قال: ففيهما فجاهد، فأين الذي يذهب ويأتي مع الشباب، وإذا سئل من أين جئت؟ قال: كنت مع الشباب، وإذا قال له والداه: اجلس عندنا، قال لهما: أنا مشغول، وليس لدي وقت للجلوس معكما، وعندي موعد مع أصحابي الآن، هذا لا يجوز، هذا حرام، هذا عقوق، ولا يحتاج البار إلى أن يؤمر، البار يعرف ماذا يريدان، ما هو الشيء الذي يريح قلب هذا الوالد أو الوالدة، يعرف مثلا أن هذا الوالد ما يحب أنه يتعدى الساعة العاشرة والنصف إلا وهو في البيت، إذاً ينبغي أن يكون كذلك، وإذا كنت عارفًا هذا الشيء لا تجيء تلح  عليهما أنك تريد الخروج.

هذا الوالد لا يحب أن تسافر بالسيارة مثلاً، فلا تسافر بالسيارة، ولو كانت رغبتك أن تسافر بالسيارة، وإذا كان لا يحب أن تسافر إلى البلد الفلاني، وأنت تعرف هذا من رغبته، ما تحتاج أن تحرجه، وأن تأتي وتلح عليه، لأنه في النهاية سيقول لك: اذهب، فالبر الحقيقي أن تنظر ما هي رغبته، ما الذي يريح قلبه، فتفعل، تَدخل وتُدخل السرور عليه، وتخرج وتُدخل السرور عليه، تستأذن منه إذا خرجت، وتقبل يده ورأسه إذا دخلت، ولا يكون في أمر يحتاج إليه إلا كنت له فيه، ولو لم يطلب منك ذلك، ما تنتظر حتى يطلب، إذا كان عندك مال، أو كنت موظفًا تعطيه من هذا، ولو كان غير محتاج، لكن هذا يدل على أنك أصيل، أنك ولد تعرف حسن العهد، وحسن العهد من الإيمان، فتعطيه وتكرمه وتحسن إليه، ولا تعد هذا مغرمًا، كما يفعل بعض الناس، أنت ومالك لأبيك[2].

وبعضهم يتكلم أنه يعطي والده، أو والده يطلب منه، وأنه أعطاه ثلاثمائة وخمسين، وراتب الولد عشرة آلاف، فما تغني هذه الثلاثمائة، ضع الراتب بيده وقل له: خذ، وأعطني منه ما شئت، فهو لما تتعامل معه بهذه الطريقة يقول: لا، أنا أريد أن أزيدك، وأنا أجمع لك، وأنا لا أريد منك أن تخسر شيئاً، وأنا ما أحتاج شيئًا، لكن الولد عاق، الذي ما يعرف إلا إدارة الظهر لأبيه ولأمه هذا الذي يكلم قلب الوالد، لكن كثير من الناس لا يفكر ولا ينظر وليس عنده مشاعر حية أصلاً ليعرف أنه جالس على أكباد أبويه، وأنه يطحن في أحشائهما، والأمراض السكر والضغط، وكل هذه الأمراض تستفحل فيهما بسبب هذا الولد العاق، وهو لا يشعر، قد يكون متديناً، وقد تكون لحيته طويلة ولكنه في غاية العقوق.

فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم البر، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يهدي قلوبنا، ويصلح أعمالنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا، وأن يعلي درجاتهم في الجنة، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، (4/ 59)، برقم: (3004)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، (4/ 1975)، برقم: (2549).
  2. أخرجه أحمد في مسنده (6/ 385)، برقم: (6902) وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (8/ 55)، برقم: (2395).

أبايعك على الهجرة والجهاد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب بر الوالدين أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- قال: أقبل رجل إلى نبي الله ﷺ فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما[1].

أقبل رجل: ذكر بعضهم أنه ابن لعباس بن مرداس السلمي، وذلك قبل إسلام العباس بن مرداس، فإن العباس -كما هو معلوم- تأخر إسلامه بعض الشيء.

قال: أقبل رجل إلى نبي الله ﷺ فقال: أبايعك على الهجرة، يعني: الانتقال من بلد الشرك هنا إلى بلاد الإسلام، في هذا المقام، وإلا فإن الهجرة: هي الانتقال من البلد التي لا يستطيع الإنسان أن يقيم دينه فيها إلى بلد يأمن فيها، ويستطيع إقامة شعائره ودينه، فالمسلمون انتقلوا من مكة في أول الأمر إلى الحبشة ولم تكن دار إسلام كما هو معلوم.

فهنا أراد أن ينتقل من دار الكفر إلى دار الإسلام، إلى المدينة، والهجرة كانت واجبة، والله قال في الذين قعدوا مع قدرتهم على الهجرة: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ۝ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ۝ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:97-99].

وهكذا قال الله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ [الأنفال:72]، فأمر الهجرة ليس بالشيء السهل، ومع ذلك هذا الرجل أراد أن يجاهد ويهاجر، قال: أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: هل لك من والديك أحد حي؟، أب أو أم، قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما، ما سأله هل هذا الوالد مسلم، أو أنه كافر، وإنما أمره أن يرجع إليهما فيحسن صحبتهما، فالأب إذا كان كافراً فإن ذلك لا يمنع من بره، كما قال الله : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، ولكن لا يتبع هذا الوالد في الدين، وإنما قال: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ، فالأب هو سبب الوجود في هذه الحياة كما ذكرنا سابقاً، فيجب القيام عليه أحسن قيام، والبر به، والإحسان إليه بكل طريق مستطاع، سواء كان مسلماً أو كافرًا، وإذا كان مسلماً فحقه أعظم، فقدمه هنا النبي ﷺ على الجهاد وعلى الهجرة، مع وجوبهما في ذلك الوقت، وأخذ من هذا أهل العلم أنه لا يجوز أن يجاهد الإنسان إلا بإذن من والديه، إلا إذا كان في الصف، يعني: في وقت مواجهة العدو، فهنا لا يجوز له أن يستأذن.

وكذلك أيضاً إذا كان هذا الإنسان قد تعيّن عليه الجهاد، مثل إذا داهم العدو بلدًا من بلاد المسلمين، فيجب عليهم أن يجاهدوه بكل وسيلة، لا يحتاج إلى إذن من الوالدين.

والحالة الثالثة: إذا عيّنه الإمام، قال: يا فلان اذهب، ففي هذه الحالات الثلاث يتعيّن الجهاد عليه.

قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما متفق عليه، يعني رواه البخاري ومسلم.

قال: وهذا لفظ مسلم، وفي رواية لهما: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد، قال: أحي والداك؟، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد، يعني: أن ما تقوم به من البر لهما هو جهاد، ففيهما فجاهد، وتقديم الجار والمجرور هنا "ففيهما" ما قال: جاهد فيهما، ففيهما فجاهد يدل على الاختصاص، وذلك أن الإنسان الذي يريد أن يقوم ويحقق المراتب العالية في بر الوالدين يحتاج إلى فطام نفسه من كثير من شهواتها، ومألوفاتها، لربما سيتعطل من كثير من مصالحه، سيعتذر من أصحابه في سهراتهم، في ذهابهم، في مجيئهم، في سفراتهم، فيبقى مع هذين الوالدين، وهذا لا يطيقه كل أحد، فيحتاج إلى مجاهدة للنفس، وتصبير، خاصة إذا كان الوالد أو الوالدة بحاجة إلى قيام على شئونهما، فإن ذلك يتطلب صبراً وجهداً وتحملاً، وما يوفق لهذا أكثر الناس.

فيحتاج الإنسان إلى أن ينظر إلى هذه المعاني الشريفة العظيمة، وكيف بينّها الشارع، فالإنسان أحياناً يحرص على بر الأبعدين ويضيع الوالدين، تجده سامعًا مطيعًا لصديقه، لمن يحبه، لمن يقدره، وتجد الوالد أو الوالدة في غاية الأسى والحسرة من سوء خلقه، ورعونته، وعقوقه، يعامل بالفظاظة والسوء، ولا يحتمل منهم أي انتقاد، أو توجيه، وما علم أن هذين الوالدين إذا وجهوه أو انتقدوه أو علموه أو نصحوه فإنهم يوجهون قطعة من قلوبهما تمشي على الأرض، لكنه ما يشعر بهذا إلى أن يأتي له أولاد، قطعة من قلوبهما تمشي على الأرض، فهم يريدون تنزيهه من كل دنس، ولو استطاعوا أن لا يمشي على الأرض لما تركوه يمشي عليها، لو استطاعوا أن الهواء ما يضرب في وجهه ويؤذيه لفعلوا، إذا أصابه المرض، أو أصابه شيء من البلاء يتمنون أنه فيهم وأن هذا الولد يسلم، ينظرون إلى وجهه صباح مساء، ويفرحون لفرحه، ويتألمون لألمه، والكلمة التي تجرح هذا الولد تجرحهم، والذي يؤذيه يؤذيهم، وما توجد كبد حرّاء على وجه الأرض -والله أعلم- أشد من كبد الأم والوالد على ولده، كم من قلوب مكلومة على الأولاد.

اتصلت بي أمس الصباح امرأة، قالت: أنا اتصلت ما أريد أسأل، أنا أريد شيئًا واحدًا فقط، أنا ولدي صدم جملًا البارحة وتوفي، أريد منك أن تدعو له أن الله يزوجه من الحور العين، تقول: كان يقبل يديّ ورجليّ، وما عندي غيره، وتوفي في ليلته، تقول: كدت أجن لولا أن الله ربط على قلبي، وكنا نهيئه للزواج.

تصور قلب هذه الأم، لا يمكن أن يشعر الولد بشعور هذه الأم، يعني: لو كان الحادث للأم الولد لا يشعر بنفس شعورها.

الوالد يتذكر الولد في كل شيء، إذا سافر الولد أو غاب يتذكره، وإذا رأى ألعابه وثيابه تذكر، فكيف إذا مات؟، لا تصفو له الحياة ولا يطيب له العيش، ولكنها أمور لا نشعر بها، يشعر بها من كان له ولد وجرّب، فمهما بذلنا ومهما فعلنا ومهما قدمنا لن نؤدي حق هذا الوالد، أبداً، هل هناك شيء أعظم من الجهاد والهجرة؟ قال: ففيهما فجاهد، فأين الذي يذهب ويأتي مع الشباب، وإذا سئل من أين جئت؟ قال: كنت مع الشباب، وإذا قال له والداه: اجلس عندنا، قال لهما: أنا مشغول، وليس لدي وقت للجلوس معكما، وعندي موعد مع أصحابي الآن، هذا لا يجوز، هذا حرام، هذا عقوق، ولا يحتاج البار إلى أن يؤمر، البار يعرف ماذا يريدان، ما هو الشيء الذي يريح قلب هذا الوالد أو الوالدة، يعرف مثلا أن هذا الوالد ما يحب أنه يتعدى الساعة العاشرة والنصف إلا وهو في البيت، إذاً ينبغي أن يكون كذلك، وإذا كنت عارفًا هذا الشيء لا تجيء تلح  عليهما أنك تريد الخروج.

هذا الوالد لا يحب أن تسافر بالسيارة مثلاً، فلا تسافر بالسيارة، ولو كانت رغبتك أن تسافر بالسيارة، وإذا كان لا يحب أن تسافر إلى البلد الفلاني، وأنت تعرف هذا من رغبته، ما تحتاج أن تحرجه، وأن تأتي وتلح عليه، لأنه في النهاية سيقول لك: اذهب، فالبر الحقيقي أن تنظر ما هي رغبته، ما الذي يريح قلبه، فتفعل، تَدخل وتُدخل السرور عليه، وتخرج وتُدخل السرور عليه، تستأذن منه إذا خرجت، وتقبل يده ورأسه إذا دخلت، ولا يكون في أمر يحتاج إليه إلا كنت له فيه، ولو لم يطلب منك ذلك، ما تنتظر حتى يطلب، إذا كان عندك مال، أو كنت موظفًا تعطيه من هذا، ولو كان غير محتاج، لكن هذا يدل على أنك أصيل، أنك ولد تعرف حسن العهد، وحسن العهد من الإيمان، فتعطيه وتكرمه وتحسن إليه، ولا تعد هذا مغرمًا، كما يفعل بعض الناس، أنت ومالك لأبيك[2].

وبعضهم يتكلم أنه يعطي والده، أو والده يطلب منه، وأنه أعطاه ثلاثمائة وخمسين، وراتب الولد عشرة آلاف، فما تغني هذه الثلاثمائة، ضع الراتب بيده وقل له: خذ، وأعطني منه ما شئت، فهو لما تتعامل معه بهذه الطريقة يقول: لا، أنا أريد أن أزيدك، وأنا أجمع لك، وأنا لا أريد منك أن تخسر شيئاً، وأنا ما أحتاج شيئًا، لكن الولد عاق، الذي ما يعرف إلا إدارة الظهر لأبيه ولأمه هذا الذي يكلم قلب الوالد، لكن كثير من الناس لا يفكر ولا ينظر وليس عنده مشاعر حية أصلاً ليعرف أنه جالس على أكباد أبويه، وأنه يطحن في أحشائهما، والأمراض السكر والضغط، وكل هذه الأمراض تستفحل فيهما بسبب هذا الولد العاق، وهو لا يشعر، قد يكون متديناً، وقد تكون لحيته طويلة ولكنه في غاية العقوق.

فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم البر، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يهدي قلوبنا، ويصلح أعمالنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا، وأن يعلي درجاتهم في الجنة، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، (4/ 59)، برقم: (3004)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، (4/ 1975)، برقم: (2549).
  2. أخرجه أحمد في مسنده (6/ 385)، برقم: (6902) وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (8/ 55)، برقم: (2395).

مواد ذات صلة