الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
‏(18) مسألة الجهر بالذكر
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو القعدة / ١٤٣٤
التحميل: 5051
مرات الإستماع: 3752

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: نُواصل الحديث في هذه الليلة أيُّها الأحبّة فيما يتَّصل بالذكر، فمن المسائل: مسألة الجهر بالذكر: هل يجهر بالذِّكْر؟ هل هذا مأذونٌ فيه، أو أنَّه مشروعٌ طلبه الشَّارعُ وأحبَّه، أو أنَّه ممنوعٌ منع تحريمٍ، أو منع كراهةٍ؟

الجهر بالذكر أيُّها الأحبة أولًا هو مسألة نسبية، يعني: أنَّ الجهرَ هو خلاف السِّر، فهذا الجهر يتفاوت على مراتب، ونستطيع أن نقول ابتداءً بأنَّه على ثلاث درجات: فهناك جهرٌ يسيرٌ، يُسْمِع مَن بالحجرة، يُسْمِع مَن بجواره فقط، وهناك جهرٌ مُتوسِّطٌ فوق هذا، كأن يُسْمِع مَن في المسجد، كجهر الإمام في الصَّلاة. والأول كجهر الذي يُصلي الليل، يقوم الليل في بيته، أو نحو ذلك، فيسمعه مَن في الحجرة، لكن بقية أهل الدَّار لا يسمعونه.

الثالث: هو رفع الصَّوت جدًّا، كرفع الصوت بالأذان، وكرفع الصوت بالتَّلبية: أفضل الحجِّ العَجُّ والثَّجُّ[1]، والعجُّ هو رفع الصَّوت بالتَّلبية، والصَّحابة كانوا يرفعون أصواتهم بالتَّلبية حتى تبحّ أصواتهم، فهذه هي المرتبة الثالثة.

من هنا أيُّها الأحبة يُقال: هل يُشرع الجهر بصرف النَّظر عن مرتبة الجهر أو لا؟

من أهل العلم مَن يُطلق القول بالجواز، يُطلقون القولَ بالجواز، وهذا على كل حالٍ إلا في المواضع التي لا يُرفع الصَّوتُ فيها، ولا يُجهر: كالذي يُصلي خلف الإمام –المأموم- فإنَّه لا يرفع صوتَه؛ لئلا يُشوش على الإمام، ولا يُشوش على المصلِّين.

وعلى كل حالٍ، من أهل العلم مَن يقول بأنَّه لا يجهر بالذكر فوق ما يُسمع نفسه إلَّا ما ورد فيه الجهرُ. بهذا قال جمعٌ من أهل العلم: كبعض الحنفية، والمالكية، والشَّافعية، والحنابلة، يقولون: يجوز، لكن الرفع الذي يُسْمِعُ نفسَه[2]. يعني: القدر المجزئ في الأذكار -كما ذكرنا سابقًا-؛ يتحرَّك اللِّسان والشَّفتان، ويجري ذلك في الهواء، دون أن يسمع صوته بالذكر، فيكون قد جاء بالذكر على الوجه المشروع.

وهناك مرتبةٌ أعلى من هذا: أن يكون هناك صوتٌ بأن يُسمع نفسَه، هذا القدر يُعتبر جهرًا بالذكر، لكنَّه جهرٌ يسيرٌ، فمثل هذا الجمهور يقولون: هذا لا بأسَ به بهذا القدر، إلا ما جاء فيه مشروعية الجهر بالذكر فوق ذلك.

ويستدلون بأدلةٍ:

الحديث القدسي: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرتُه في ملإٍ خيرٍ منهم[3]. الحديث.

فهنا دلَّ على أنَّ الذي يذكر ربَّه في ملإٍ أنَّ الله يذكره في ملإٍ أفضل، وهم الملأ الأعلى، إذًا هذا الذي يجهر صار أفضل من ذاك الذي يذكر في نفسه، فتفاضلا بهذا الاعتبار.

وكذلك الحديث الآخر: إنَّ لله ملائكةً، قد ذكرناه في الليلة الماضية: إنَّ لله ملائكةً يطوفون بالطرق يلتمسون أهلَ الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلُمُّوا إلى حاجتكم. قال: فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السَّماء الدُّنيا[4]، هنا ظاهر أنَّهم كانوا يقولون ذكرًا بصوتٍ مسموعٍ.

كذلك الحديث الآخر الذي ذكرناه في الليلة الماضية: أنَّ النبي ﷺ خرج على حلقةٍ من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ به علينا. فقال: أتاني جبريلُ فأخبرني أنَّ الله يُباهي بكم الملائكة[5]، لاحظ: هل كانوا يذكرون سرًّا في نفوسهم؟ لا، كانوا يذكرون ذلك بصوتٍ يُسْمِعُ بعضُهم بعضًا.

إذًا مسألة الجهر بالذكر يمكن أن يُقال بأنَّ لها أحوالًا، لها حالات؛ فهنا هذا الذكر، هؤلاء الذين يجلسون في مجلس ذكرٍ لن يكون هذا المجلسُ سرًّا يذكرون في أنفسهم، إذًا مثل هذا يُشرع فيه رفع الصَّوت، لكن لا يكون ذاك الرفعُ الذي يكون بصوتٍ في غاية الارتفاع، كهذا الذي يُنادي البعيد، أو كالمؤذن، أو نحو ذلك، إنما بالقدر الذي يُسمع بعضُهم بعضًا، فهذا يُجهر فيه.

كذلك المواضع التي يُشرع فيها الرفع، على خلافٍ في بعضها، من ذلك: الجهر بالذكر بعد الصَّلاة مشروعٌ على الأرجح، وليس ذلك محلّ اتفاقٍ، يدل على ذلك حديثُ ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: "إنَّ رفعَ الصوت بالذكر حين ينصرف الناسُ من المكتوبة كان على عهد النبي ﷺ"[6]. رفع الصَّوت بالذكر، ويُقصد به الأذكار المعروفة التي تُقال بعد الصَّلوات.

شيخ الإسلام -رحمه الله- لم يُدخل في هذا الرفع قراءة السور والآيات، يعني: كالمعوذتين، وسورة الإخلاص، وآية الكرسي؛ أنَّه لا يجهر بذلك، إنما يجهر بقوله: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم أنت السلام، ومنك السلام"، كانوا يجهرون[7].

وكان ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- يقول: "كنتُ أعرف انقضاءَ صلاة النبي ﷺ بالتَّكبير"[8]، يعني: كانوا يسمعونهم، فذكر التَّكبير كأنَّه إشارة إلى بقية الذكر، فكان الناسُ يرفعون أصواتَهم بذلك.

بعض أهل العلم كالإمام الشَّافعي -رحمه الله- يقول: كان ذلك من أجل التَّعليم فقط[9]، وإلا فالأصل أنَّه لا يُشرع؛ لما فيه من التَّشويش على الذَّاكرين والمصلِّين، يعني: ممن يتنفَّل، أو ممن يقضي.

والأقرب -والله تعالى أعلم- أنَّ هذا مشروعٌ، ولكن ما القدر؟

القدر هو الذي يحصل به الإسماع، يجهرون بالذِّكْر.

ومسألة التَّعليم محتاجٌ إليها في كل زمانٍ، لا زال بعضُ الناس إذا سمعته يذكر الله بعد الصلاة ترثي لحاله، واضحٌ أنَّه لا يعرف الأذكار، يحاول أن يقول شيئًا، لكنَّه يُردد عبارات قليلة لم ترد، يُنشئها من عند نفسه، إذًا الجهر بالذكر بعد الصلاة هذا مشروعٌ.

كذلك ما يُقصد به الإسماع: الأذان، الإقامة، تكبيرات الانتقال، هذه يجهر بها الإمامُ، والنبي ﷺ أخبر أنَّه: لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة[10].

كذلك أيضًا القراءة في الجهرية، قول: سمع الله لمن حمده، السلام بالانصراف، السلام على الناس، هذا يُقصد به الإسماع؛ أن يُسمع هؤلاء الناس هذا الذكر، وكذلك التكبير في العيدين: ليلة عيد الفطر إلى أن يخرج الإمامُ صبيحة يوم العيد، وكذلك أيضًا التَّكبير في أيام وليالي العشر من ذي الحجّة، وأيام التَّشريق، فهذا يجهر به، والله يقول: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[البقرة:185]، هذا في تكبيرات الفطر، وذكر هنا التَّكبير، وكذلك أيضًا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، هذا أيام التَّشريق، الأيام المعدودات، والأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجّة.

وكان عبدُالله بن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهما- يخرجان إلى السوق في أيام العشر يُكبرون، ويُكبر الناسُ بتكبيرهما[11].

فهذا ذكرٌ يُشرع فيه الجهر، وكذلك أيضًا الإهلال بالنُّسُك: لبيك عمرةً، لبيك حجّةً، ونحو ذلك مما يقوله المهلُّ مع التَّلبية، والنبي ﷺ يقول: أتاني جبريلُ فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتَهم بالإهلال[12].

وكذلك أيضًا العاطسُ يقول: الحمد لله، يجهر؛ لأنَّه لا يُجاب إن لم يُسمع له حمدٌ؛ ولهذا لو أنَّه عُرف من عادة الإنسان أنَّه يحمد إذا عطس، لكنَّه لم يسمع لسببٍ أو لآخر، هل لك أن تقول: يرحمك الله؟

الجواب: لا، وإنما يُقال ذلك إذا سمعته يحمد الله ، فهنا إذًا التَّحميد يجهر به بقدر ما يُسمع مَن حوله.

وكذلك قول: يرحمك الله، ثم جوابه هو: يهديكم الله ويُصلح بالكم. كل هذا مما يجهر به، فالناس لا يقولون ذلك سرًّا، لا ابتداءً، ولا جوابًا.

وكذلك أيضًا سائر المواضع التي يُشرع فيها الجهر بالذكر، فهذا لا إشكالَ فيه، لكن يُراعى في هذا أن يكون بالقدر الذي لا يُشوش على الآخرين؛ ولهذا فإنَّ الصحابة لما رفعوا أصواتهم إذا علوا شرفًا، إذا صعدوا ثنيةً في السَّفر كانوا يرفعون أصواتهم رفعًا شديدًا بالتَّكبير، فالنبي ﷺ قال للناس كما في حديث أبي موسى : كنا مع رسول الله ﷺ، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبَّرنا، ارتفعت أصواتنا. فقال النبي ﷺ: يا أيها الناس، اربعوا على أنفسِكم، فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنَّه معكم، إنَّه سميعٌ قريبٌ[13]، فالله -تبارك وتعالى- يسمعهم، فلا يحتاج إلى مثل هذا الرفع الشَّديد.

والله -تبارك وتعالى- يقول مخاطبًا عباده، أو مُخاطبًا نبيَّه ﷺ وهو أسوة لهذه الأُمَّة وقُدوة: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الأعراف:205]، فهذه سيأتي الكلامُ عليها -إن شاء الله تعالى- في بعض المناسبات، في شرح الأذكار، إذ إنَّ من أهل العلم مَن قال: إنَّ هذه أحوال متنوعة: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا، قالوا: التَّضرع يكون بصوتٍ مرفوعٍ، من الضَّراعة، والضَّراعة لا تكون إلا برفعٍ، الضَّارع الذَّليل يرفع صوته، يتضرَّع. قالوا: هذا الجهر. قال: وَخِيفَةً، يعني: يكون مُستصحبًا للخوف من الله -تبارك وتعالى-، قال: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.

فذكر السّر: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا، قال: تَضَرُّعًا، وقال: وَدُونَ الْجَهْرِ، فذكر ثلاث حالات كما يقول بعضُ أهل العلم، وبعضُهم يقول: إنَّ ذلك في مُجمله، يعني: أن يتوسَّط دون الجهر من القول، فيكون بحالٍ من التَّوسط.

على كل حالٍ، الذكر تارةً يُشرع فيه الرفع، وتارةً لا يُطلب فيه ذلك، ولكنَّه لا يُكره، فإذا رفع الإنسانُ صوتَه بحيث لا يُشوش على الآخرين، ولا يكون رفعًا شديدًا، إلا فيما طُلِبَ فيه الرفع الشَّديد: كالأذان، والتَّلبية، ونحو ذلك؛ فإنَّ هذا لا إشكالَ فيه.

يعني: لو جلس إنسانٌ في بيته بعد صلاة الصبح، أو المرأة، أو بعد صلاة العصر لوحده، وجلس يقول أذكارَ المساء وأذكار الصباح بصوتٍ لو كان عنده أحدٌ في الحجرة سمعه، هل هذا فيه إشكالٌ؟

الجواب: لا، هذا يُعتبر رفعًا، لكنه في أدنى درجات الرفع، ولا حاجة لأن يرفع رفعًا زائدًا فوق ذلك؛ لأنَّ هذا لا يُقصد به الإسماع.

أمَّا الذكر بعد الصلاة: فإنَّ ظاهر حديث ابن عباسٍ في روايتيه اللَّتين سمعتم: أنَّ الرفعَ يكون أكثر من هذا، يُعرف انقضاء الصَّلاة على عهد النبي ﷺ بالتَّكبير.

وعلى كل حالٍ، يكون ذلك مع مُراعاة ما سبق -والله تعالى أعلم.

هذه مسألة تتعلق بالجهر بالذكر، وسيأتي الكلامُ على قوله -تبارك وتعالى-: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، فرقٌ بين الذكر والدُّعاء؛ الدُّعاء قال: وَخُفْيَةً، والذكر: وَخِيفَةً، يأتي -إن شاء الله تعالى- في بعض المناسبات.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" (1/ 224)، برقم (330)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (9/ 19)، برقم (5086)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3/ 486)، برقم (1500).
  2. انظر: الموسوعة الكويتية (21/ 250، 251).
  3. أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، برقم (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحثّ على ذكر الله –تعالى-، برقم (2675).
  4. أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب فضل ذكر الله ، برقم (6408).
  5. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2701).
  6. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم (841)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة، برقم (583).
  7. انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 217).
  8. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم (842).
  9. انظر: "الأم" للشافعي (1/ 150).
  10. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالنِّداء، برقم (609).
  11. أخرجه البخاري: أبواب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، برقم (2/ 20).
  12. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب المناسك، باب كيف التلبية، برقم (1814)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2549).
  13. أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسِّير، باب ما يُكره من رفع الصوت في التكبير، برقم (2992).

مواد ذات صلة