الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم" أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله: الناس معادن أي: أنهم أصول للأخلاق والأعمال والأوصاف الطيبة والرديئة، كما أن المعادن كذلك، وأصل المعدِن هو محل الإقامة، ومنه يقال: جنة عدن، أي: جنة إقامة، فالمكان الذي يقيم فيه الناس يقال له ذلك، يقال له: معدِن.
فالنبي ﷺ يقول: الناس معادن كمعادن الذهب والفضة..، فمعادن الذهب والفضة تتفاوت، الذهب أنفس المعادن، ولكنه أيضاً هو يتفاوت جودة ورداءة، فقد يكون ذهباً خالصاً، وقد يكون ذهباً مشوباً، وكذلك الفضة فهي وإن كانت دون الذهب إلا أنها من أنفس المعادن أيضاً، وهي متفاوتة في نفسها.
قوله: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، بمعنى أن أشرافهم ومن كانوا أفضل في معادنهم في الجاهلية فإنهم كذلك يكونون إذا دخلوا في الإسلام إذا فقهوا، بمعنى إذا علموا من الدين، وصار لهم فقه فيه، وتهذبت نفوسهم وأرواحهم، فإن الإسلام لا يزيد تلك المعادن الجيدة التي كانت في الجاهلية إلا زكاءً ونقاءً وتطهيراً وتهذيباً.
ثم قال ﷺ: والأرواح جنود مجندة، جنود مجندة: أي: أن الأرواح يحصل فيها من الانجذاب أو التنافر بحسب ما جبلت عليه، وبحسب ما تخلقت به، فتميل إلى من يشاكلها وتنفر ممن يباينها، وهذا أمر مشاهد في الناس، فأهل الفضل والدين والصلاح والخير يميلون إلى من يشاكلهم، وأهل الشر ينجذبون إلى ما يشاكلهم، وكذلك أيضاً ما جُبلت عليه النفوس، وطُبعت عليه، فإنه يحصل للنفوس من الانجذاب إلى نظائرها ما لا يخفى.
فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، ما تعارف منها ائتلف بمعنى أنه ما تقارب في الأوصاف فإنه يحصل بينه التقارب والانجذاب والتآلف، وإذا حصل التنافر في الصفات فإن ذلك يحصل معه التناكر والتباين والتباعد وهكذا.
فإذا وجد الإنسان من نفسه نفرة من الخير أو من أهل الخير والفضل والدين والصلاح ينبغي أن يرجع إلى نفسه، وأن يعلم أن هذه النفس فيها دَخَل، وفيها ما فيها من الدَّغَل، فيحتاج إلى تنقيتها وإصلاحها وتهذيبها وحملها على طاعة الله ؛ من أجل أن تألف الخير وتميل إليه، وهذا الحديث في قوله ﷺ: الناس معادن كمعادن الذهب والفضة.. إلى آخره، وكذلك الجزء الثاني من الحديث فيه معنى كبير لربما تجد في العلوم الحديثة مثل علم النفس مثلاً، وحتى في علم الإدارة وما شابه، تجد نظريات يختلفون فيها، ومدارس توجد في بلاد الغرب هل الإنسان يولد وهو فيه أوصاف كاملة وأوصاف جيدة، مثل القيادية مثلاً القائد، أو المدير، هل يولد كذلك في هذه الخصائص والسمات، وأن هذه أمور أصلاً وراثية؟، أو أن ذلك يحصل للإنسان بالاكتساب والتمرين والدراسة وما أشبه هذا؟، تجد هؤلاء لهم مدرسة، ولها رواد ومؤلفات، وهؤلاء لهم مدرسة، ولها رواد ومؤلفات.
وهذا الحديث يدل على أن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فيوجد فيهم ما فطرهم الله عليه من الأوصاف الكاملة، وأيضاً هذه الأوصاف الكاملة، والنفوس التي من المعادن النفيسة -طبعاً نقول: معادن نفيسة مجازاً وإلا فكل النفوس ليست رديئة- إذا وجد معها التهذيب والتربية والترويض والصقل وما أشبه ذلك فهو مثل نور العين مع ضوء الشمس، فيحصل لصاحبها الكمال، وأما الذي ليس عنده قابلية أصلاً -المحل غير قابل- فمثل هذا ما يمكن أن يصل إلى الكمال، لكن قد تكون القابلية ضعيفة وتقوى بالتهذيب، وقد تكون القابلية قوية وتهمل فيكون النقص والضعف وما أشبه ذلك، لكن الأجسام غير القابلة لا تصلح لغير ما يصلح لها، تقول لي مثلاً: المعادن لها أوصاف وخصائص ونحو ذلك، فالذهب والفضة وكذلك المعادن الأخرى مثل الحديد هذه لها خصائص ويستفاد منها في جوانب، وهذه لها خصائص ويستفاد منها في جوانب لكن مهما عالجت الحديد هل تستطيع أن تجعل منه ذهباً؟.
لا، لكن يمكن أن يلمع، ممكن أن يكون أبيض، ممكن أن يكون فيه رونق، فيه شيء من كذا، لكن يبقى حديدًا، الذهب مهما غبّرته هل ينقلب إلى حديد؟ لا، لكن بالتهذيب تكون هيئة الحديد أجمل من هيئة الذهب والفضة، ممكن هذا، فالتهذيب له أثر، لكن القابلية أصل في هذا، فهي كما قلت: مثل نور العين مع ضوء الشمس، الإنسان إذا عنده نور في العين يبصر، لكن في مكان مظلم لا يرى، وإذا كان الإنسان في وسط النهار لكن العين ما تبصر ما يرى، فلابد من وجود هذا وهذا، بعيداً عن تلك النظريات والمدارس التي يختلف أصحابها، هؤلاء يأخذون طرفاً من القضية وهؤلاء يأخذون الطرف الآخر، فهذا غير صحيح، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب الأرواح جنود مجندة، رقم: (2638).