الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الحب في الله أورد المصنف -رحمه الله-:
سبعة يظلهم الله في ظله أي: سبعة أصناف، وليس المقصود بذلك سبعة أشخاص، وإنما هذه أجناس أو أوصاف، كل من تحقق فيه هذا الوصف فهو داخل في هذا الوعد، ولا ينحصر ذلك بهؤلاء السبعة، وإنما يُجمع ما ورد في الأحاديث الصحيحة، فقد صح عن النبي ﷺ أشياء زائدة على هذه المذكورات، كالتاجر الأمين، ونحو ذلك، وقد جمع السخاوي أشياء كثيرة من هذا، وكذلك السيوطي، وألفوا في ذلك رسائل مستقلة، حتى بلغ ذلك عند بعضهم ما يقرب من تسعة وثمانين.
يقول: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومعلوم في ذلك اليوم أن الشمس تدنو من رءوس العباد حتى يكون بينهم وبينها مقدار ميل، ثم بعد ذلك يكون الناس في كرب شديد، وفي حر شديد، حتى إن العرق يصير منهم على قدر أعمالهم وأحوالهم ومراتبهم، فمنهم من يلجمه العرق إلجاماً، والإنسان في ذلك الكرب بحاجة إلى ظل الله وألطافه، ثم ذكر هؤلاء.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن جماع ذلك -يعني هذه الأوصاف المذكورة- أنه إما عائد إلى العلاقة مع الله ، أو العلاقة مع المخلوقين، فالإمام العادل مثلاً هذا فيما يتصل بالعلاقة بالخلق، وهكذا أيضاً ورجلان تحابا في الله، ورجل دعته امرأته ذات حسن وجمال، إلى آخره، ورجل تصدق بصدقة فهؤلاء في إحسانٍ للخلق، وهي أحوال متعدية من الإفضال وما إلى ذلك مع المخلوقين، وأن الباقي كقوله ﷺ: وشاب نشأ في عبادة الله، فالعلاقة بين العبد وبين الرب، وذلك أن العبادة تكون إما بالقلب أو اللسان أو الجوارح، فهذا الشاب الذي نشأ في عبادة الله ، مع قوة الداعي إلى المعاصي والعبث واللهو والغفلة.
وكذلك أيضاً هذا الرجل الذي قلبه معلق بالمساجد، وكذلك أيضاً في قوله: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
فعلى كل حال يمكن أن يقال: إن هذه الأمور جميعاً عند التأمل تدل على تجذر الإيمان وقوته في قلب صاحبها، فالإمام: هو الملِك المتصرف، فهو ليس يخاف من أحد، ولا يطلبه أحد بمحاسبة ولا تبعة وما إلى ذلك، فإذا عدل مع قوة الداعي مع ما هو معلوم من سكرة الملك، فإن الكثيرين قد لا يستطيعون الانضباط مع الملك بترك الظلم والعسف والقهر والتسلط على الناس بغير الحق، فإذا وجد العدل مع القوة والتمكن فإن هذا يدل على عظم خوف الله في قلب هذا الإنسان.
وشاب نشأ في عبادة الله ، وهكذا لأن قوة الداعي إلى المعصية والنزوات والغرائز عند الشباب متوقدة، فإذا وجد معه الخوف من الله ، وزمُّ النفس بطاعة ربها ومليكها فإن هذا أيضاً يدل على تمكن الإيمان في القلب.
ورجل قلبه معلق بالمساجد؛ لأن البقاء في المسجد كثير من الناس يشعر أنه محبوس، ولذلك تجد الإنسان لربما حتى وهو يسمع كلمة لبضع دقائق كأنه طائر في قفص ينتظر متى يخرج، وكثير من الناس لا يأتي المساجد أصلاً، وإذا جاء فهو يحسب متى يأتي إليها، في وقت الإقامة إن أفلح، وإلا فهو يأتي في آخر الصلاة، ثم بمجرد أن يسلم الإمام وإذا بالزحام على الأبواب، فتعليق القلب بالمسجد الذي هو أحب البقاع إلى الله -تبارك وتعالى- هذا يدل على محبة الله، وعلى عدم الاشتغال بالدنيا، وتعلق القلب بها، وما إلى ذلك.
قال: ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه؛ لأن أكثر علائق الناس إنما هي بسبب المصالح، والمنافع التي يتبادلونها، وقلّ أن توجد العلاقة التي تكون خالصة لله ليس للإنسان فيها مصلحة، إلى آخر ما ذكر.
وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، (1/ 133)، رقم: (660)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، (2/ 715)، رقم: (1031).