الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الحب في الله والحث عليه أورد المصنف -رحمه الله-:
قول النبي ﷺ: إن الله تعالى يقول هذا ما يعرف عند أهل العلم بالحديث القدسي، ومعنى الحديث القدسي: أي الحديث المنسوب إلى الله -تبارك وتعالى، أي أنه من قوله، والنبي ﷺ يقول فيه: قال الله تعالى، والراوي يقول: قال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى، فالحديث القدسي كلام الله ، وليس بقرآن، فكلام الله كما هو معلوم لا ينحصر بالقرآن، فمنه ما هو قرآن، ومنه ما ليس كذلك، ككلام الله للملائكة، والله يتكلم متى شاء، كيف شاء كلاماً يليق بجلاله وعظمته، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
والفرق بين الحديث القدسي والقرآن: أن الحديث القدسي لسنا متعبدين بتلاوته، والقرآن تعبدنا الله بتلاوته، بمعنى: القرآن إذا قرأتَ حرفاً فهو بعشر، كما قال النبي ﷺ: لا أقول: الم حرف، بل أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[2]، يعني الحسنة بعشر أمثالها، والحديث القدسي ليس محفوظاً، يعني: لم يتعهد الله بحفظ ألفاظه، أما القرآن فقد تكفل الله بحفظه، لا يستطيع أحد أن يحرفه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، الأحاديث القدسية يوجد منها أحاديث ضعيفة ميزها العلماء -رحمهم الله، وأيضاً الحديث القدسي يجوز أن نرويه بالمعنى، نروي معنى الحديث، لكن القرآن يجب أن نأتي به بألفاظه وحروفه، ما نغير حرفاً واحداً، هذه الفروقات الأساسية بين الحديث القدسي والقرآن.
الشاهد هنا أن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟، أي: في جلالي، يعني: المتحابون في الله ، والله -تبارك وتعالى- أعلم بالمتحابين بجلاله، لكن هذا الاستفهام وهذا السؤال تنويهاً بذكرهم وتشريفاً لهم، ورفعاً لمقامهم ودرجاتهم في ذلك اليوم العظيم الذي تشهده الخلائق.
أين المتحابون بجلالي؟، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي، يوم تدنو الشمس على قدر ميل من رءوس الخلائق، فهم أحوج ما يكونون إلى الأمن، وهم أحوج ما يكونون إلى الظل، فهؤلاء الذين صارت محبتهم في الدنيا لله، وفي الله صار لهم ذلك الجزاء العظيم في الدار الآخرة وهم أحوج ما يكونون إلى هذه الألطاف، والإنسان ليس عليه ضير من أن يغير قصده ونيته بأن تكون علائقه لله وفي الله، أن يحب الناس لله، أن يحب المرء لا يحبه إلا لله[3]، لا يحبه من أجل دنيا، من أجل عرض زائل، من أجل مصلحة عارضة فتكون علائق الناس مادية، يحبون من أجل مصالحهم، فإذا زالت تلك المصالح وانعدمت ارتفعت تلك العلائق وزالت، فهذا أمر لا يليق بحال من الأحوال.
ثم ذكر النبي ﷺ بعده -أيضاً- حديثاً لأبي هريرة يوصلنا إلى هذا التحابّ، وإلى هذه المحبة التي تكون في الله، قد يسأل السائل: نحن نريد أن نصل إلى تلك المراتب، ما هو الطريق لتوجد بيننا المحبة في الله ؟ فالنبي ﷺ ما ترك خيراً يقربنا إلى الله -تبارك وتعالى- إلا دلنا عليه، فالمحبة أمر قلبي قد يقول الإنسان: أنا لا أملكه، قد أرى إنساناً فأحبه من غير تطلّب لذلك، وقد أرى إنساناً فأكرهه من غير تطلّب لذلك، بعض الناس يسأل يقول: إنه يكره والده أو والدته بسبب ظلم أو سوء معاملة أو نحو ذلك، يقول: أنا أحاول أن أدفع هذه ولا أستطيع، فما هو الطريق؟ فهنا المحبة في الله كيف نحصّلها؟
ولا تؤمنوا حتى تحابوا أي: المحبة التي تكون في الله ولله، وإذا قال النبي ﷺ: لا تؤمنوا حتى تحابوا دل ذلك على أن الإيمان لابد فيه من المحبة بين المؤمنين، ودل ذلك على أن هذه المحبة واجبة، وأنها من كمال الإيمان الواجب، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا لم يحب لله وفي الله أنه يكون كافراً، ليس كذلك، وإنما مثل هذا النفي دائماً إذا وجدناه في أمر قد دلت الأدلة الأخرى على صحة الإيمان معه -أصل الإيمان- فإننا نحمل ذلك كما يقرر أهل العلم على معنىً وهو أن ذلك من الكمال الواجب الذي إذا ضيعه الإنسان يكون مستحقًّا للعقوبة، إلا أن يغفر الله له، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم، رواه مسلم.
ومعنى أفشوا السلام، أذيعوه، أن يكثر ذلك في الناس، وهذه قضية سهلة، ولكن النفوس عصيّة أبيّة في كثير من الأحيان، أحياناً الإنسان قد يتردد، يرفع يده يسلم أو لا يسلم، من الناس من يستكثر أن يرفع يده يسلم على من مر عليه، وقد لا يسلم إلا على من يعرف، هو يحاول أن يرفع يده والشيطان ينزلها، وأحياناً يرفعها رفعاً محتملاً، لا تدري هل سلم أم لم يسلم، بتثاقل شديد، لماذا؟ مع أن هذا أمر لا يكلف شيئاً، السلام عليكم، كلما رأيت أحداً من إخوانك لاسيما الضعفة في المجتمع، هؤلاء أحوج ما يكونون إلى أن يشعروا بأن الآخرين يحبونهم، وأنهم يشعرون تجاههم بمشاعر طيبة، هؤلاء قد يعيشون غربة محكمة من جميع الوجوه، قد لا يجد الواحد منهم من يسلم عليه، ولا من يكلمه، ولا من يسمع منه أحزانه وهمومه ومشاعره، ولا من يواسيه، عامل مسكين فقير لا تعرف لغته، ولا تعرف همومه، ولا تعرف آلامه، الله أعلم ما الذي يحصل له من الهموم، فقر يطحنهم، ولا عائل يعيلهم، ولا يجد من يقول له: السلام عليكم، فضلاً عمن يجلس معه، ويواسيه ويسمع منه.
فأقول: إذا كان الشخص كلما جاء وذهب قال: السلام عليكم، يسلم على الناس، تحبه القلوب، ولا تجد إلا أن تحبه ولابد، وجرِّبْ هذا، أما الذي يمر ولا يسلم، يذهب ويجيء ولا يسلم وكأنه مار من حجر فمثل هذا لا شك أن النفوس تنقبض منه.
فإفشاء السلام لاسيما أن السلام فيه معنى السلامة، والدعاء بالسلامة من الآفات، فهو دعاء، تدعو لهم بالسلامة من الآفات، وإلقاؤه أيضاً تأمين للناس، أن لا يصل إليك مني مكروه وسوء وشيء تتضرر به، حينما تقول له: السلام عليكم.
فنسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، وأن يبصرنا بما يرضيه وما يقربنا إليه، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب في فضل الحب في الله، (4/ 1988)، رقم: (2566).
- أخرجه الترمذي، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ماله من الأجر، (5/ 175)، رقم: (3783)، وصححه الألباني في المشكاة، رقم: (2137).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، (1/ 12)، رقم: (16)، و مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصالٍ من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، (1/ 66)، رقم: (43).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها (1/ 74)، رقم: (54).