الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الرجاء أورد المصنف -رحمه الله:
قوله ﷺ: جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، الرحمة: صفة ثابتة لله -تبارك وتعالى، فهو الرحمن الرحيم، كما أن المخلوق أيضاً يوصف بالرحمة، وللمخلوق ما يليق به من هذه الصفة، وللخالق ما يليق به منها، فرحمة الله لا يمكن أن تماثل رحمة المخلوقين، كما أن ذات الخالق لا تماثل ذوات المخلوقين، فكما أن للخالق ذاتًا، وللمخلوق ذاتًا، فإن ذات الله ليست كذات المخلوق، وهكذا أيضًا صفاته ليست كصفات المخلوق، وإذا كان التفاوت واقعًا بين المخلوقين بصورة كبيرة جدًّا، فكيف بالتفاوت الذي يكون بين الخالق والمخلوق؟ انظر إلى الصفات التي يتفاوت فيها الخلق، فحينما يقال: الوجه، فالنملة لها وجه، والإنسان له وجه، فهل وجه الإنسان يشبه وجه النملة، وهو مخلوق ومخلوق؟ الجواب: لا، وهل وجه الإنسان يشبه وجه دواب البحر؟ الجواب: لا، وهل وجه الإنسان يشبه وجه الحيوان؟ الجواب: لا، فبينها من التفاوت ما نشاهده، وهي: مخلوقات، وقل مثل ذلك في الرِّجل مثلاً، فكل مخلوق له رجل، فالإنسان له رجل، والبط لها رجل، والإوَزُّ لها رجل، والجمل له رجل، أو خف، والفرس له رجل، أو حافر، فهل رجل الفرس كرجل البط والإوَزِّ؟ الجواب: لا، فهذه رِجل وهذه رِجل، وكل ذلك يرجع إلى المخلوق، وبينها هذا التفاوت العظيم، فكيف بالتفاوت بين الخالق والمخلوق؟ لا وجه للمماثلة.
إذًا رحمة الله صفة ثابتة على ما يليق بجلاله وعظمته، ورحمة المخلوق ثابتة له أيضاً على ما يليق بحاله وضعفه وعجزه وافتقاره.
فهذا الحديث يقول: جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، هذه الرحمة التي يتراحم بها الخلائق ترجع إليهم، هي صفتهم، وهي مخلوقة، ليست هي من رحمة الله التي هي صفته، وصفاته ملازمة لذاته، وذاته غير مخلوقة، وصفاته غير مخلوقة، لكن قد يضاف الشيء إلى الله -تبارك وتعالى- خلقًا، أن الله خلقه، فيقال: خلْقُ الله، وبيت الله.
فهنا: أمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، انظر هؤلاء الخلائق من الآدميين، وأنواع الحيوانات، والطيور، والهوام، كل ذلك إنما يشترك برحمة واحدة قد وُزعت عليهم، وبينهم أيضا من التفاوت في هذه الرحمة كما بين السماء والأرض، تجد الإنسان أحيانًا الأب أو الأم أو غير ذلك في غاية الرحمة والشفقة على أولاده، ومنهم من يكون في غاية القسوة والجفاء والغلظة، كأن قلبه قد قطع من الحجر، والولد أحيانًا يكون في غاية الرحمة لأبيه أو لأمه، وأحيانًا لا يبالي بشيء، ولا يوجد فيه رحمة لوالديه، فهذه الرحمة يتفاوت فيها الناس، وقسمها الله بين العباد، فتصور أرق الناس، وأكثر الناس رحمة، كيف تكون حاله مع أقرب الناس إليه؟ فهؤلاء يتراحمون يشتركون بجزء من مائة جزء.
فالنبي ﷺ يقول: فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، الدابة: هي في اللغة: كل ما يدب على الأرض، وفي عرف الاستعمال: تطلق على ذوات الأربع، وقد تطلق في عرف خاص على نوع منها كالحمار.
حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، ذوات الحوافر مثل: الفرس، والحمار، والبغل، فترفع حافرها، وكذلك ذات الأظلاف كالغنم مثلاً، ترفع أيضاً رجلها، وكذلك ذات الخف كالناقة، ترفع رجلها عن صغيرها خشية أن تصيبه.
لماذا ذكر الحافر هنا؟ ذكره كمثال، ولربما يكون ذلك بسبب أن ذوات الحوافر هي أكثر ما يشاهدونه في ذلك الحين؛ لأنها هي مراكبهم، فهم ما يجلسون على الشاة، وإنما ينتقلون على ذوات الحوافر غالبًا، فيشاهدونها كيف تصنع مع صغيرها؛ لأنها هي مركبهم، كما نحن في السيارات، فيصاحبونها في تنقلاتهم، وفي أسفارهم، وفي حضرهم.
والبهائم هي الحيوانات التي لا تُبين، يقال لها: بهائم، وأكثر ما يطلق ذلك على غير الوحشي والطير، مثل بهيمة الأنعام مثلاً، فهذه بهائم؛ لأنها لا تُبين، عجماوات، لا تُفصح عما في نفسها، يقال لها: بهيمة، والهوام هي: الحشرات، والدواب، والحيات، والعقارب، كلها يقال لها: هوام.
قوله: فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، لاحظ الآن: فقد ذكر هناك البهائم، مع أن الوحش في الأصل بهيمة، حيث إنه لا يُبين، لكن كما قلت: يطلق في كثير من الأحيان على غير الطير، والوحش، والهوام، وإلا فكلها بهائم، فقال هنا: وبها تعطف الوحش على ولدها، والوحش: كل حيوان غير مستأنس فهو وحش، سواء كان مأكول اللحم، أو غير مأكول اللحم، فبقر الوحش، وحمار الوحش، والظباء، والسباع بجميع أنواعها، كلها يقال لها: وحش.
قال: وأخّر الله تعالى تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة متفق عليه.
وقال: ورواه مسلم أيضًا من رواية سلمان الفارسي قال: قال رسول الله ﷺ: إن لله -تعالى- مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسع وتسعون ليوم القيامة[3].
وفي رواية: إن الله -تعالى- خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض[4].
طباق يعني: غشاء، يعني: أنها تملأ ما بين السماء والأرض.
قال: طباق ما بين السماء إلى الأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة، فنسأل الله أن يشملنا برحمته، وأن يجعلنا من عباده المرحومين، وأن يغفر لنا ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
فمثل هذا الحديث: إذا نظر إليه الإنسان، وعرفه، فإن ذلك يؤثر فيه سعة الرجاء، وانتظار رحمة الله في أموره كلها، فإذا كان العبد مذنبًا فإنه لا يقنط، فيبادر إلى التوبة، والله غفور رحيم، مهما تعاظمت ذنوب العبد، وإذا كان العبد في حالة مفارقة الدنيا فينبغي أن يغلِّب جانب الرجاء؛ لأن النبي ﷺ يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه[5]، فيتذكر سعة رحمة الله، فيورثه ذلك الرجاء، وهكذا أيضاً: إذا أصيت الإنسان بالمرض، ما تسود الدنيا وتظلم في ناظره، وإنما يتذكر أن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فينتظر فرج الله وعافيته، وهكذا: إذا نزلت به ضائقة من بلية في ماله، أو في ولده، أو في نفسه، أو غير ذلك، فإنه ينتظر ألطاف الله، فإن الله رحيم، فحينما يقع للإنسان أحيانًا مكروه، قد يكون هذا المكروه شديد الوقع على نفسه، ولكنه إذا تذكر أن الله أرحم به من الوالدة بولدها، ما يضجر، ولا يتسخط، ولا يتشكك، ولا يعترض على أقدار الله -تبارك وتعالى، ولا يقول: لماذا يا رب؟ وبعض الناس يقول كلامًا لا يليق، يقول: ماذا بيني وبينه؟ لماذا يفعل لي هذا؟، فيستحضر الإنسان أن الله حينما ابتلاه ما ابتلاه ليهلكه، وإنما ابتلاه ليرفعه، فهو أرحم به، لكن نحن لا ندرك، ولا نرى إلا الشيء الذي أمامنا القريب العاجل، ولو نظر الإنسان إلى العواقب البعيدة فإنه يدرك أن ذلك يكون من الخير له؛ لأن النبي ﷺ قال: عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له[6]، سواء كان ذلك من المكاره، أو من الأمور المحبوبة؛ لأنه إن وقع به المكروه صبر فكان خيرًا له[7]، وكما جاء في الأحاديث: أن العبد قد يكون له مرتبة عند الله عالية، فيسوق له أمرًا يكرهه من البلاء؛ ليرفعه إلى تلك الدرجة، والعبد متضايق، ومتسخط، فإذا جاء يوم القيامة كما جاء في الحديث الآخر: أن أهل العافية يتمنون حينما يرون أهل البلاء -يعني: وما يصنع بهم من رفع الدرجات والأجور- أن لو قُرضت أجسامهم بالمقاريض[8]؛ من أجل أن يحصِّلوا هذه الأجور العالية، لكن هذا مثل الولد الصغير الذي لا يدرك بعدُ، يذهب به أبوه إلى الطبيب، ولربما استعمل المشرط، ولربما قطع بعض جلده، أو لحمه، أو قطع طرفًا من أطرافه، وهو يرى أن هذا في غاية القسوة، والشدة، والألم، وهو في الواقع في العاقبة: خير له، وإنما فعل به ذلك لمصلحته، وإن كان هو لا يدرك الآن، فنحن مثل هذا الصغير الذي لا يدرك، فهناك حجاب على الغيب لا نطلع على ما وراءه، ولكن النبي ﷺ أخبرنا عن عواقب الأمور بالنسبة لأهل الإيمان، فالإنسان يستحضر هذا المعنى، وأن الله أرحم به من نفسه بنفسه، ومن والدته به، فيثق بالله تعالى.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: جعل الله الرحمة مائة جزء، رقم: (6000)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: (2752).
- أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: (2752).
- أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: (2753).
- المصدر السابق.
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، رقم: (2877).
- أخرجه أحمد، رقم: (20283)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (1/ 277)، رقم: (148).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، رقم: (2999).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، رقم: (2402)، وقال: وهذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (2/ 1358)، رقم: (8177).