الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
بعض ما ورد عن السف في باب الجمع بين الخوف والرجاء
تاريخ النشر: ٢٤ / محرّم / ١٤٢٩
التحميل: 1062
مرات الإستماع: 1746

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء عن السلف في باب الجمع بين الخوف والرجاء:

ما جاء عن هرم بن حيان -رحمه الله- أنه كان يخرج في بعض الليل، وينادي بأعلى صوته، عجبت من الجنة، كيف ينام طالبها؟ وعجبت من النار، كيف نام هاربها؟.

ثم يقول: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُون [الأعراف:97][1].

وقال محمد بن واسع -رحمه الله- وهو في الموت: يا إخوتاه، تدرون أين يُذهب بي؟ والله إلى النار أو يعفو الله[2].

ويقول معتمر بن سليمان: قال لي أبي عند الموت: يا معتمر، حدثني بالرخص لعلي ألقى الله تعالى وأنا أحسن الظن به[3].

يقول عبد الله الشامي: استأذنت على طاووس بن كيسان لأسأله عن مسألة، فخرج عليّ شيخ كبير، فظننه هو، فقال: لا، أنا ابنه، قلت: إن كنت ابنه فقد خَرِف أبوك، قال: تقول ذاك!، إن العالم لا يَخْرَف[4].

يعني: أن من حفظ القرآن واشتغل به فإنه لا يصيبه الخرف، لا يتغير عقله في آخر عمره، وقد صح ذلك بإسناد صحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وطاووس بن كيسان من تلاميذ ابن عباس -رضي الله عنهما-، وجاء هذا عن جماعة من السلف -رضي الله تعالى عنهم-. 

 يقول: فدخلت، فقال لي طاووس: سل وأوجز، وإن شئت علمتك في مجلسك هذا القرآن والتوراة والإنجيل، قلت: إن علمتنيه لا أسألك عن شيء، قال: خف الله مخافةً لا يكون شيء عندك أخوف منه، وارجه رجاءً هو أشد من خوفك إياه، وأَحِبّ للناس ما تحبه لنفسك[5].

يريد أن يقول: إن هذه هي الخلاصة من هذه الكتب، إذا عملت بمقتضى ذلك حصل لك المقصود الذي من أجله نزلت الكتب، هكذا أراد، والله أعلم.

وجاء عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- قال: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحًا، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل[6]. وقد تكلمنا على هذا المعنى.

ثم بعد ذلك أذكر طرفًا مما جاء عنهم في باب فضل البكاء من خشية الله -تعالى- وشوقًا إليه، يقول عطاء: كنت أصنع الكحل لعبد الله بن عمرو، وكان يطفئ السراج بالليل، ثم يبكي حتى رَسِعت عيناه[7].

وجاء عن يعلى بن عطاء، عن أمه أنها كانت تصنع الكحل لعبد الله بن عمرو، وكان يكثر البكاء، يغلق بابه ويبكي حتى رَمصت عيناه[8].

وجاء عن عبد الله بن عبيد بن عمر عن أبيه، أنه تلا: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41]، فجعل يبكي حتى لَثقت لحيته وجيبه من دموعه، فأراد رجل أن يقول لأبي: أقصر فقد آذيت الشيخ[9].

وعن نافع: كان ابن عمر إذا قرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]، بكى حتى يغلبه البكاء[10].

وجاء عن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء[11].

وعن كعب الأحبار قال: لأَنْ أبكي من خشية الله أحب إليّ من أن أتصدق بوزني ذهبًا[12].

وكان إبراهيم التيمي -رحمه الله- يُذكِّر في منزل أبي وائل، وكان أبو وائل ينتفض انتفاض الطائر[13].

وكان العلاء بن زياد ربانيًّا، تقيًّا، قانتا لله، بكّاء من خشية الله[14].

ويقول قتادة: كان العلاء بن زياد قد بكى حتى غشي بصره، وكان إذا أراد أن يقرأ، أو يتكلم جهشه البكاء، وكان أبوه بكى حتى عمي[15].

وكان صفوان بن محرز واعظًا قانتًا لله، قد اتخذ لنفسه سربًا يبكي فيه[16].

وعن قاسم الأعرج قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمي[17].

ويقول سعيد بن جبير -رحمه الله-: ما رأيت أرعى لحرمة هذا البيت، ولا أحرص عليه من أهل البصرة، لقد رأيت جارية ذات ليلة تعلقت بأستار الكعبة، تدعو وتتضرع، وتبكي حتى ماتت[18].

ويقول إبراهيم بن عيسى اليشكري: ما رأيت أحدًا أطول حزنًا من الحسن البصري، ما رأيتُه إلا حسبته حديث عهد بمصيبة[19].

وجاء عن الأعمش قال: كان أبو صالح السمان مؤذنًا، فأبطأ الإمام، فكان لا يكاد يجيزها من الرقة والبكاء[20].

وخطب عدي بن أرطأة على المنبر، حتى بكى وأبكى[21].

وعن معاوية بن قرة قال: بكاء العمل أحب من بكاء العين[22].

وجاء عن شعبة: كان ثابت بن أسلم يبكي حتى تختلف أضلاعه[23].

وبكى ثابت بن أسلم حتى كادت عينه تذهب، فنهاه الكحال عن البكاء -يعني طبيب العيون- فقال: ما خيرهما إذا لم يبكيا، وأبى أن يعالج[24].

ويقول حماد بن سلمة: قرأ ثابت البناني: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37]، وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها[25].

ويقول ابن شوذب: كنت إذا رأيت هارون بن رئاب كأنما أقلع من بكاء[26]. يعني كأنه سكن من بكاء في ساعته تلك.

وبينما محمد بن المنكدر ذات ليلة قائم يصلي، إذا استبكي فكثر بكاؤه، حتى فزع أهله، وسألوه فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم، فجاء إليه، فقال: ما الذي أبكاك؟، قال: مرت بي آية: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

فبكى أبو حازم معه، فاشتد بكاؤهما[27].

وجاء عن ابن المنكدر أنه جزع عند الموت، فقيل له: لم تجزع؟، قال: أخشى آية من كتاب الله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب[28].

وكان -رحمه الله- يقول: كم من عين ساهرة في رزقي في ظلمات البر والبحر.

وكان إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه، ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعًا مسته الدموع[29].

وحج صفوان بن سليم، فجاء ابن عيينة يسأل عنه بمنى، فقيل له: إذا دخلت مسجد الخيف فأتِ المنارة، فانظر أمامها قليلاً شيخًا إذا رأيته علمته أنه يخشى الله، يقول: فجلست إليه، فقلت: أنت صفوان بن سليم؟، قال: نعم[30].

وجاء عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: كان يقال: ما استعان العبد على دينه بمثل الخشية من الله[31].

وغلب البكاء أيوب السختياني -رحمه الله- مرة، فقال: الشيخ إذا كبِر مَجّ[32]، -يعني أراد أن يخفي بكاءه دفعًا للرياء- إذا كبِر مَجّ، يعني: أنه يَكثر ريقُه، فيحتاج إلى شيء من التمسح.

ويقول الواقدي: كان يزيد بن أبي سمية من العبّاد، يصلي الليل كله ويبكي، وكان معه في الدار يهودية، فتبكى رحمة له، فقال مرة في دعائه: اللهم هذه اليهودية بكت رحمة لي، ودينها مخالف لديني، فأنت أولى برحمتي[33].

وكان أبو بكر بن أبي مريم في خديه أثر الدموع[34].

وعن عتبة الغلام قال: إنما أبكي على تقصيري[35].

وسئل عبد العزيز بن أبي روّاد: ما أفضل العبادة؟ قال: طول الحزن[36].

والمقصود به الحزن من الإشفاق من الله -عز وجل- والدار الآخرة.

وبكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحة، وهو لا يكاد يبصر بها[37].

وجاء عن ابن مهدي قال: كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان الثوري من كثرة بكائه[38].

وجاء عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي: كنت عند أبي صالح ورجل يقرأ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء:103]، فالتفت عليٌّ إلى أخيه الحسن وقد اخضر واصفر، فقال: يا حسن، إنها أفزاع فوق أفزاع.

ورأيت الحسن أراد أن يصيح، ثم جمع ثوبه، فعض عليه حتى سكن عنه[39]. يعني: دفعًا للرياء.

وجاء عن أبي النضر إسحاق بن إبراهيم قال: كنت أسمع وقع دموع سعيد بن عبد العزيز على الحصير في الصلاة[40].

وقيل لسعيد بن عبد العزيز: ما هذا البكاء الذي يعرض بك في الصلاة؟

فقال: يا ابن أخي، وما سؤالك عن ذلك؟

فقال السائل: لعل الله ينفعني به.

فقال: ما قمت إلى الصلاة إلا مُثلت لي جهنم[41].

ويقول عمرو بن عون: ما صليت خلف ابن عبد الله خالد الطحان إلا سمعت قطر دموعه على الباريّة[42]. يعني الحصير.

وقال إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحدًا كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله، أو ذُكر عنده، أو سمع القرآن، ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه، وبكى، حتى يرحمه من يحضره، وكان دائم الحزن، شديد الفكرة، ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غيره، كنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي، كأنه مودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء، حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة، يخبر عنها[43].

وقيل لابن عيينة: ألا ترى إلى الفضيل لا تكاد تجف له دمعة؟

قال: إذا قَرِح القلب نديت العين[44].

وبكى علي بن بكار حتى عمي، وكان قد أثرت الدموع في خديه[45].

ومات البخاري، فلم يخلف في خراسان مثل أبي عيسى الترمذي في العلم والحفظ والورع والزهد، بكى حتى عمي، وبقي ضريرًا سنتين[46].

ويقول الحسن بن عرفة: رأيت يزيد بن هارون بواسط، وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد عمي.

فقلت له: يا أبا خالد، ما فعلت العينان الجميلتان؟

قال: ذهب بهما بكاء الأسحار[47].

ويقول ابن ياسر البرداني: كان أبو بكر بن موسى الخياط من البكائين عند الذكر، قد أثرت الدموع في خديه[48] وكان أبو سعد الأصبهاني إذا أكل اغرورقت عيناه، ويقول: كان داود إذا أراد أن يأكل بكى[49].

هذه -أيها الأحبة- نماذج، وأخبارهم في هذا كثيرة مستفيضة، ولكن الإنسان حينما يعرض نفسه على هذه الأحوال فإنه يعرف قدره، وتقصيره، وقسوة قلبه.

فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم قلوبًا خاشعة، وأعينًا دامعة.  

  1. انظر: سير أعلام النبلاء (4/48).
  2. انظر: المصدر السابق (6/121).
  3. انظر: المصدر السابق (6/199).
  4. انظر: المصدر السابق (5/47).
  5. انظر: المصدر السابق.
  6. انظر: المصدر السابق (8/432).
  7. انظر: المصدر السابق.
  8. انظر: المصدر السابق (3/94).
  9. انظر: الطبقات الكبرى (4/122)، وسير أعلام النبلاء (3/214).
  10. انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/305).
  11. انظر: سير أعلام النبلاء (3/352).
  12. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (50/173).
  13. انظر: سير أعلام النبلاء (4/165).
  14. انظر: المصدر السابق (4/202).
  15. انظر: المصدر السابق (4/202- 203).
  16. انظر: المصدر السابق (4/286).
  17. انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/272).
  18. انظر: سير أعلام النبلاء (4/334).
  19. انظر: الزهد لأحمد بن حنبل (1/209)، رقم: (1449).
  20. انظر: سير أعلام النبلاء (5/37).
  21. انظر: المصدر السابق (5/53).
  22. انظر: المصدر السابق (5/154).
  23. انظر: المصدر السابق (5/224).
  24. انظر: المصدر السابق.
  25. انظر: المصدر السابق (5/225).
  26. انظر: المصدر السابق (5/263).
  27. انظر: المصدر السابق (5/355).
  28. انظر: المصدر السابق.
  29. انظر: المصدر السابق (5/358).
  30. انظر: المصدر السابق (5/366).
  31. انظر: المصدر السابق (6/9).
  32. انظر: المصدر السابق (6/22).
  33. انظر: المصدر السابق (6/133).
  34. انظر: المصدر السابق (7/65).
  35. انظر: المصدر السابق (7/63).
  36. انظر: المصدر السابق (7/186).
  37. انظر: المصدر السابق (7/152).
  38. انظر: المصدر السابق (7/277).
  39. انظر: المصدر السابق (7/370).
  40. انظر: المصدر السابق (8/34).
  41. انظر: المصدر السابق.
  42. انظر: المصدر السابق (8/279).
  43. انظر: المصدر السابق (8/426).
  44. انظر: المصدر السابق (8/439).
  45. انظر: المصدر السابق (9/585).
  46. انظر: المصدر السابق (16/372).
  47. انظر: المصدر السابق (14/423).
  48. انظر: المصدر السابق (18/436).
  49. انظر: المصدر السابق (20/122).

مواد ذات صلة