الثلاثاء 04 / ربيع الآخر / 1446 - 08 / أكتوبر 2024
‏(28) فضل الذكر قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}
تاريخ النشر: ١٧ / ذو الحجة / ١٤٣٤
التحميل: 4606
مرات الإستماع: 3717

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

أيها الإخوة والأخوات، في هذه الليلة نتحدَّث عن الآية الرابعة من الآيات التي أوردها المؤلفُ في هذا الكتاب (حصن المسلم)، وذلك قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأعراف: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205].

فقوله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ هذه الآية ذكرها اللهُ -تبارك وتعالى- بعد الأمر بالإنصات والاستماع للقرآن الكريم إذا قُرِئَ؛ وذلك قوله قبله: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، إذا قُرئ القرآنُ سواءً كان ذلك في صلاةٍ، أو في خارج الصَّلاة: إذا كان ذلك عبر المذياع، وعبر آلة التَّسجيل، أو سمعته من قارئٍ، أو سمعتَ ذلك من الإمام وأنت تُصلي خلفه، فأنت مأمورٌ بشيئين:

الأول: وهو الاستماع، وهو أن يقصد أن يسمع القرآن ويتطلَّب ذلك.

والأمر الآخر: وهو الإنصات، ألا يشتغل مع هذا الاستماع بشيءٍ آخر، كما مضى في بعض المناسبات السَّابقة، بمعنى: أنَّه لا يستمع وفي يده شيءٌ آخر، أو أنَّ عينَه تنظر إلى شيءٍ آخر، تقرأ في جهاز الجوال مثلًا، أو أنَّه يكتب رسالةً، أو أنَّه يبري قلمًا، أو أنَّه يشتغل بصنعةٍ، أو نحو ذلك، فإنَّ هذا خلافُ الإنصات: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي: من أجل أن تُرحموا، فإنَّ ذلك من أسباب الرَّحمة.

وابن جريرٍ كبير المفسّرين -رحمه الله- يربط بين الآيتين في المعنى فيقول: بأنَّ قوله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً، يعني: واذكر أيُّها المستمع المنصِت للقرآن إذا قُرِئَ في صلاةٍ، أو في خُطْبَةٍ[1].

وذلك أنَّ ابن جرير -رحمه الله- له مذهبٌ معروفٌ في هذا؛ وهو أنَّ قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا أنَّ ذلك في الصَّلاة، أو حينما يسمعه في خطبة الجمعة؛ فيجب عليه الإنصاتُ والاستماعُ، وأنَّ ذلك ليس لما يكون خارجًا عنهما -عن الصَّلاة، وعن خطبة الجمعة-، مع أنَّ الأقربَ الذي هو رأي عامَّة أهل العلم هو أنَّ ذلك يشمل الصَّلاة وخارج الصلاة، لكن ابن جرير -رحمه الله- علل ذلك بأنَّها نازلة في الصَّلاة، فهو وإن كانت كذلك فإنَّ العبرةَ بعموم الألفاظ والمعاني، لا بخصوص الأسباب، فيشمل ذلك الصَّلاة، وتدخل فيه دخولًا أوَّليًّا، وكذلك إذا قرأه الخطيبُ على المنبر يوم الجمعة، فإنَّ المأمومَ مأمورٌ بالإنصات والاستماع، ولا يجوز له أن يشتغل بشيءٍ: لا بالذكر، ولا بغيره.

فالحاصل أنَّ ابن جرير -رحمه الله- يربط بين الآيتين فيقول: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً يعني: حال استماع القرآن في الصَّلاة، أو عند سماع ذلك من الخطيب[2] إذا قرأ الآيات، أو قرأ سورةً، كما كان النبيُّ ﷺ يقرأ سورةَ (ق) على المنبر، فالمأموم مأمورٌ بالإنصات في هذا وفي هذا، والمعنى أعمّ من ذلك كما أشرتُ -والله تعالى أعلم.

إذن: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ عند ابن جرير -رحمه الله- يقول: اتَّعظ بما في آي القرآن، واعتبر به، وتذكّر معادك إليه -إلى الله- عند سماعك للقرآن[3].

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ بمعنى: أنَّه يكون من قبيل ذكر القلب بالاتِّعاظ والاعتبار والتَّفكر والتَّدبر فيما يسمعه من القرآن في الصَّلاة، أو من الخطيب حال الخطبة، فيكون ذلك من قبيل الذكر القلبي بالتَّدبر والتَّفكر والاعتبار.

وعامَّة أهل العلم يحملونه -كما سبق- على ما هو أعمّ من ذلك؛ ولهذا فإنَّ قوله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً على هذا يكون المحملُ الأول: اذكره في قلبك. وعند الذين عمَّموا المعنى قالوا: لا يختصّ بالصلاة. يكون محملُ ذلك: اذكره في قلبك؛ أن يكون القلبُ ذاكرًا، فلا يكون الذكرُ جاريًا على اللِّسان والقلب في غفلةٍ وإعراضٍ، بمنأى عمَّا يقوله اللِّسان، ويتفوَّه به، فيكون القلبُ هو المنطلق للذكر، وهو المحلّ الأول الذي يتعين أن يكون موقعًا لذكر الله ، وأن يكون عامرًا به؛ فيخافه ويُراقبه ويتَّعظ ويتفكَّر ويعتبر ويتدبر، وما إلى ذلك.

المعنى الثاني: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يعني: بلسانك، بحيث تُسمع نفسَك، بمعنى: أنَّك لا تجهر بذلك، وإنما يكون ذكرًا لا يكون بجهرٍ تُسمع الآخرين لرفعك الصَّوت بالذكر.

وقد عرفنا من قبل أنَّ ذكرَ الله -تبارك وتعالى- قد يُطْلَب فيه الجهر، وأنَّ الجهرَ على مراتب، وذكرنا من هذا الجهر على الأرجح: الجهر بالذكر بعد الصَّلاة، كما دلَّ عليه حديثُ ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، وأنَّهم كانوا يعرفون انقضاء الصَّلاة على عهد النبي ﷺ بالتَّكبير[4]، فكانوا يجهرون بعد الصَّلاة.

وكذلك أيضًا ما يُطلب فيه الإسماع: كتشميت العاطس، وقبل ذلك الحمدلة بالنسبة للعاطس؛ أن يقول: "الحمد لله" من أجل أن يُجاب.

وكذلك أيضًا السلام، ومما يُطلب فيه الرفع جدًّا: التَّلبية، فإنَّ أصحابَ النبي ﷺ كانوا يُلبُّون حتى تبحّ أصواتهم، وذكرنا أنَّ النبي ﷺ سُئِلَ: أيُّ الحجِّ أفضل؟ فقال: العجُّ والثَّجُّ[5]، وأنَّ جبريل أمر النبي ﷺ أن يأمر أصحابَه أن يرفعوا أصواتهم بالتَّلبية، فكانوا يرفعون أصواتهم جدًّا حتى تبحّ حلوقهم من شدّة الرَّفع.

فعلى كل حالٍ، إذا تقرر هذا، فذكر الله -تبارك وتعالى- يكون بالقلب، ويكون باللِّسان، فذكر القلب مطلوبٌ، وهو داخلٌ في قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، يدخل فيه ذكرُ القلب، ويدخل فيه الذكر باللِّسان، ويدل على ذلك أيضًا قوله بعده -كما سيأتي-: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ، فمثل هذا لا بدَّ أن يكون جاريًا على اللِّسان.

فالذكر يكون بالقلب وحده، وباللسان وحده من غير مُواطأة القلب، ويكون بهما، وهذا هو الأكمل، فالله -تبارك وتعالى- أمر عبدَه ورسولَه ﷺ، والأمر لسائر الأُمَّة؛ لأنَّ الأُمَّة تُخاطَب في شخص قُدوتها ومقدّمها -صلى الله عليه وسلَّم-، فتكون الأمةُ مقصودةً بذلك جميعًا، وإن خُوطب بذلك النبيُّ ﷺ، فيكون غير النبي ﷺ يدخل فيه على سبيل التَّبَع.

وهذا أيضًا يشمل نوعًا آخر أشار إليه إشارةً خفيفةً الشيخُ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- قال: "مخلصًا خاليًا"[6]، وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، فهذا إشارة إلى الإخلاص، وأيضًا إلى الخلوة إذا كان الإنسانُ خاليًا، يعني: في خاصَّة نفسك، وهو مما يدخل في معنى هذه الآية؛ ولذلك الطَّاهر بن عاشور -رحمه الله- في "التحرير والتنوير" حمله على هذا المعنى فقال: "والمعنى: اذكر ربَّك وأنت في خلوتك، كما تذكره في مجامع الناس"[7].

والواقع -والله أعلم- أنَّ ذلك جميعًا مما يدخل فيه، فصار الدَّاخلُ في هذا الذكر بالقلب، والذكر باللِّسان، لكن من غير رفعٍ للصَّوت.

الذكر أيضًا في الخلوة: حينما لا يكون الإنسانُ في حالٍ من الجلوة؛ لا يكون عند الناس، فهو مأمورٌ بأن يذكر الله -تبارك وتعالى- في قلبه، وفي لسانه أيضًا، لا كما قال ابنُ عاشورٍ -رحمه الله-: بأنَّ ذلك يكون باللسان باعتبار أنَّه ذكر قوله: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ.

فالإنسان في حال الخلوة يحتاج إلى الذكر، وقد جاء في الحديث: ورجلٌ ذكر اللهَ خاليًا، وذكرنا أنَّ هذا الذكر يكون تارةً بالقلب، وتارةً باللسان مع مُواطأة القلب: ففاضت عيناه[8]، فلا يمكن أن تفيض عيناه بذكر الله بلسانه دون مُواطأة القلب، فذكر الله -تبارك وتعالى- ذكر عظمته؛ ولهذا لما قال النبيُّ ﷺ في السَّبعة الذين يُظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلّه: ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله[9]، فهذا ذكر الله خاليًا، ولو تأمَّلت أحوال هؤلاء السَّبعة جميعًا لوجدتهم داخلين في ذكر الله في حال الخلوة، فهم يخافون الله في سرِّهم، وهذا الذي: أنفق نفقةً فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفق يمينُه[10]، فمثل هذا أخفى هذا العمل، وقلنا: إنَّ الذكرَ يكون أيضًا بالجوارح.

فالمقصود -أيُّها الأحبة- أنَّ هذه الآداب ينبغي أن يُراعيها المؤمن حقَّ رعايتها: أن يُكثر من ذكر الله آناء الليل وأطراف النَّهار، خصوصًا في طرفي النَّهار، مُخلصًا، خاشعًا، مُتضرِّعًا، مُتذللًا، ساكنًا، يتواطأ القلبُ واللِّسانُ والجوارح على هذا الذكر بأدبٍ ووقارٍ وإقبالٍ على الدعاء، مُحضرًا لقلبه، وليس في حالٍ من الغفلة؛ فـإنَّ الله لا يستجيب دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ[11]، ذكر هذا المعنى الشيخُ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله-[12].

وهكذا أقوال المفسرين هي غير خارجةٍ عمَّا ذكرتُه في هذه المناحي الثلاثة في المعنى، وصاحب التَّفسير الكبير حمله معنى قوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ أنَّ المراد بذكر الله في نفسه كونه عارفًا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه، مُستحضرًا لصفات الكمال والعزِّ والعلو والجلال والعظمة؛ وذلك لأنَّ الذكرَ باللِّسان إذا كان عاريًا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة[13].

إذن معنى: اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أن يقوم في قلبه حال الذكر من التَّعظيم للمعبود، وإجلاله، ومعرفة معاني الأذكار التي يقولها، كلّ هذا مما يتَّصل بالقلب، ودون الجهر من القول، فيتواطأ اللِّسانُ مع القلب، فنحن مُطالبون بهذه الأمور جميعًا.

وهذا الذكر قال الله -تبارك وتعالى- في صفته: تَضَرُّعًا وَخِيفَةً، التَّضرع ما هو؟

عامَّة المفسرين من السَّلف والخلف حملوا ذلك على التَّذلل والتَّخشع والتَّواضع لله -تبارك وتعالى-: بأن يكون الذكرُ مع الإخبات والخشوع، وهذا إذا حصل معه حضورُ القلب، وإلا فإنَّه لا يتأتَّى للذكر المجرد باللِّسان، فيكون القلبُ ضارعًا، أي: ذليلًا، خاشعًا، وهذا أحسن ما يكون عليه القلبُ من الأحوال.

وَخِيفَةً لاحظ هنا لم يقل: وخُفيةً في الذكر، وإنما قال: وَخِيفَةً، يعني: وخوفًا من الله، وابن جريرٍ -رحمه الله- يقول: "وخوفًا من الله أن يُعاقبك على تقصيرٍ يكون منك في الاتِّعاظ به والاعتبار، وغفلةٍ عمَّا بيَّن اللهُ فيه من حدوده"[14]، باعتبار أنَّه حمله على المعنى السَّابق؛ وهو أن يكون مُنصتًا له حال استماعه من الإمام إذا قرأ، أو من الخطيب حينما يتلو القرآنَ على المنبر، يقول: تخاف في قلبك أن تُعاقب؛ لأنَّك غير ممتثلٍ؛ ولأنَّك لم تُؤدِّ حقَّ هذا القرآن؛ لأنَّك لم تعتبر بعظاته، ولم تعمل بأحكامه وآدابه وشرائعه. هذا على المعنى الذي فسَّرها به، وعلى المعنى الأعمّ: تَضَرُّعًا وَخِيفَةً يكون الإنسانُ في حالٍ من الخوف، وبيَّن هذا الملحظ مجاهد -رحمه الله- حيث يقول: "أُمِرُوا أن يذكروه في الصُّدور تضرُّعًا وخيفةً"[15].

لكن ابن القيم -رحمه الله- ذكر ملحظًا دقيقًا في وجه ذكر الخيفة هنا في الذكر؛ لماذا في الدُّعاء قال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]؟

قال: لأنَّ الدعاء يُناجي ربَّه، فالله يسمع مُناجاة العبد، ويسمع دعاءه، فلا حاجةَ لأن يرفع صوته؛ لأنَّ الذي يدعوه ليس بأصمّ، ولا بأبكم، ولا بغائبٍ، بل هو سميعٌ، قريبٌ، مجيبٌ، يسمع دعاء الدَّاعين -تبارك وتعالى-[16].

في الدُّعاء وفي الذكر: التَّضرع مطلوبٌ، والتَّخشع والتَّذلل، لكن في الدُّعاء خفيةً؛ ولهذا ذكروا من الاعتداء في الدُّعاء ومن سُوء الأدب فيه: أن يرفع صوتَه رفعًا زائدًا؛ ولذلك المؤمن داعٍ، فبعض الناس يُؤمِّنون بصوتٍ مرتفعٍ جدًّا خلف الإمام في القنوت مثلًا، مثل هذا لا يليق، وإنما يخفض صوتَه بحيث يتأدَّب مع الله.

كذلك الإمام أحيانًا يدعو ربَّه في القنوت -هو نعم يدعو دعاءً يُسمعهم-، لكن لا يكون خارجًا عن حدود الأدب اللَّائق مع الله -تبارك وتعالى-، فيكون دعاؤه بحيث يُسمع مَن يُصلون خلفه.

وابن القيم بيَّن الملحظ هنا، يقول: "وتأمّل كيف قال في آية الذكر: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً، وفي آية الدُّعاء: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً، فذكر التَّضرع فيهما معًا، وهو التَّذلل والتَّمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدُّعاء، وخصّ الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحِكَم وغيرها، وخصّ الذكر بالخفية لحاجة الذَّاكر إلى الخوف؛ فإنَّ الذكر يستلزم المحبَّة ويثمرها، ولا بدَّ، فمَن أكثر من ذكر الله تعالى أثمر له ذلك محبَّته، والمحبَّة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبَها، بل قد تضرّه؛ لأنها تُوجب الإدلال والانبساط، وربما آلت بكثيرٍ من الجهَّال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على الله، ومحبّته له، وتألهه له، فإذا حصل المقصودُ فالاشتغال بالوسيلة باطلٌ"[17]، جرأةٌ الباعثُ لها المحبَّة، والله لا يليق معه هذا.

وهنا ذكر الخيفةَ في الذكر بحيث لا يحصل إدلالٌ، فهذه المحبَّة يكون معها خوفٌ يحجزها من التَّعدي ومجاوزة الحدِّ، فلا يكون العبدُ بهذه المحبَّة مُدلًّا على ربِّه -تبارك وتعالى-، يجترئ عليه، كما يحصل بين الناس حينما تكون بينهم المحبَّة؛ فتسقط الكُلْفَة، فيكون المحبُّ مع محبوبه على شيءٍ من الجراءة والإدلال عليه، هذا ما يليق بالله -تبارك وتعالى.

فالمحبَّة إن لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبَها، بل قد تضرّه؛ لأنها قد تُورثه شيئًا من الانبساط والإدلال، فجاء هنا تَضَرُّعًا وَخِيفَةً أي: تذللًا.

والطَّاهر ابن عاشور -رحمه الله- نظر إلى لفظة "التَّضرع"، وأنَّها تعني في اللغة في أصلها: رفع الصَّوت، يقول: فلان يتضرع، وضارعٌ إلى الله -تبارك وتعالى-، كأنَّه يجأر إلى الله بصوتٍ مرتفعٍ، فهذا يستلزم الخطابَ بالصَّوت المرتفع في أصله[18]، لكن هنا قال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً، وقد ذكرتُ -فيما سبق- أنَّ عامَّة المفسّرين فسَّروه بالتَّذلل والتَّخشع، وابن عاشور فسَّره برفع الصَّوت، باعتبار أصل الضَّراعة، قال: فقابله بالخيفة، والخيفة هنا: الخائف يُسر، قال: فهي تقتضي الإسرار، فصار الذكرُ في حالاته المختلفة تارةً يرفع حينما يُطلب رفعُه، وتارةً يكون في خفضٍ حينما يُطلب خفضُه، فيكون ذلك مُشتملًا على أحوال الذكر كلِّها[19]. هكذا فسَّره، وهذا له وجهٌ على كل حالٍ، ولكن عامَّة المفسرين لم يذكروا هذا المعنى، وإنما ذكروا ما سبق.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين.

اللهم اجعل القرآنَ الكريم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا.

اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوتَه آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 353).
  2. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 353).
  3. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 353).
  4. أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب الذكر بعد الصلاة، برقم (583).
  5. أخرجه ابنُ ماجه: كتاب المناسك، باب رفع الصَّوت بالتلبية، برقم (2915)، والترمذي: كتاب الحجّ، باب ما جاء في فضل التَّلبية والنَّحر، برقم (757)، وصححه الألباني.
  6. "تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن" (ص314).
  7. "التحرير والتنوير" (9/ 241).
  8. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب مَن جلس في المسجد ينتظر الصَّلاة وفضل المساجد، برقم (620)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصَّدقة، برقم (1712).
  9. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب مَن جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، برقم (620)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصَّدقة، برقم (1712).
  10. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب مَن جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، برقم (620)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصَّدقة، برقم (1712).
  11. أخرجه الترمذي: كتاب الدَّعوات، باب ما جاء في جامع الدَّعوات عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3401)، وحسَّنه الألباني.
  12. "تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن" (ص314).
  13. "تفسير الرازي = مفاتيح الغيب" دار إحياء التراث (ص2115).
  14. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 353).
  15. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 354).
  16. "بدائع الفوائد" (3/ 10).
  17. "بدائع الفوائد" (3/ 10).
  18. "التحرير والتنوير" (9/ 242).
  19. "التحرير والتنوير" (9/ 242).

مواد ذات صلة