الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
بعض ما ورد عن السلف في باب فضل الزهد (4-4)
تاريخ النشر: ٠٥ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 1613
مرات الإستماع: 3835

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن النماذج التي تؤثر عن المتقدمين في باب الزهد في الدنيا: ما جاء عن الإمام أحمد: وذكر الدارمي فقال: عُرضت عليه الدنيا فلم يقبل[1].

ويقول الإمام البخاري -رحمه الله- صاحب الصحيح: ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه. يعني: من أجل ألا يكون كلامه صرفاً في الدنيا، وإنما يمزج معه بعض ما يتصل بالآخرة، أو بذكر الله -تبارك وتعالى؛ لأن النبي ﷺ قال: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم[2].

يقول: وقال محمد بن أبي حاتم: وضيَّف البخاريَّ بعضُ أصحابه في بستان له وضيَّفَنا معه، فلما جلسنا أعجب صاحبَ البستان بستانُه، وذلك أنه كان عمل مجلساً فيه وأجرى الماء في أنهاره، فقال له -صاحب البستان يقول للبخاري: يا أبا عبد الله كيف ترى؟ فقال: هذه الدنيا[3].

وقال أبو العباس بن الفرات: كان سليمان بن وهب أكتب خلق الله يداً ولساناً، هذا الرجل كان حاذقًا في الصنعة، من الكتّاب الذين يكتبون للخلفاء، لكن كان فيه شره وحب للمال شديد.

يقول الذهبي: إلا أنه قليل الخير، يعني: حاذق في صنعته ومهنة الكتابة إلا أنه قليل الخير، ذكر محمد بن الضحاك أنه رآه يقرأ في المصحف مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ [الشورى:20] فقال: اللهم ائتني حرثي في الدنيا -نسأل الله العافية، ولا تجعل لي في الآخرة من نصيب، فأجيب دعاؤه فأعطي في الدنيا[4]. هذا كلام الذهبي، نسأل الله العافية.

وجاء عن أبي عثمان الحيري: سرورك في الدنيا أذهب سرورك بالله عن قلبك[5]. القلب وعاء، فإذا اشتغل بالدنيا، انشغل عن الآخرة.

ويقول ابن المعتز: من ارتحله الحرص أضناه الطلب[6]. ارتحله الحرص يعني: أنه صار حريصاً على طلبها وجمعها وتحصيلها.

من ارتحله الحرص أضناه الطلب، يتعب في جمعها، وتتبّعها والجري خلفها، في ألوان المكاسب والتجارات، يشقى، حتى يأتيه الموت، ويشب ويشيب وهو على هذه الحال.

إذا كان الحرص هو المتمكن في القلب فطلب الدنيا يرهقه ويتعبه، فهو يبحث عنها في كل مكان.

وجاء عن أبي بكر البرقان: قلت لابن سمعون البغدادي يوماً: تدعو الناس إلى الزهد، وتلبس أحسن الثياب، وتأكل أطيب الطعام، كيف هذا؟ فقال: كلُّ ما يصلحك لله فافعله، إذا صلح حالك مع الله تعالى[7].

هذا يبين مفهوم الزهد الذي ذكرته في البداية، ليس معناه رفض الدنيا، والإسلام ما جاء لهذا، وإنما المقصود ألا تتملك قلبه، ألا تكون الدنيا هي غاية الإنسان التي من أجلها يسعى ويقوم ويقعد ويعيش، إنما يعيش الإنسان من أجل الغاية العظمى التي خلقه الله من أجلها، وهي: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

فلا ينسى الإنسان هذه الحقيقة، لكنه يطلب من الدنيا ما يستغني به عن الآخرين.

وجاء عن الماوردي أنه قال: صليت خلف أبي الحسن القزويني، فرأيت عليه قميصاً نقيًّا مطرزاً، فقلت في نفسي: أين الطراز من الزهد؟ فلما سلَّم قال: سبحان الله! الطراز لا ينقض حكم الزهد[8].

والنبي ﷺ لما سئل: أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال: إن الله جميل يحب الجمال[9].

كما أرشدنا النبي ﷺ إلى أنالله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده[10].

وجاء من الشعر في هذا المعنى ما قاله أبو طالب اللخمي:

أوَما عجيبٌ جيفةٌ مسمومةٌ وكلابُها قد غالهم داءُ الكَلَبْ
يتذابحون على اعتراقِ عظامِها فالسَّيد المرهوبُ فيهم مَن غلبْ
هذي هي الدنيا ومع علمي بها لم أستطعْ تركاً لها يا للعجبْ[11]

ونحن نعرف هذه الحقيقة، الدنيا مثل الجيفة، مع ذلك نتكالب عليها، ولكن الإنسان إذا رزق القناعة وارتاضت نفسه واطمأنت فإنه لا يتسارع عليها التسارع الذي يشغله عما هو بصدده فقط.

وأرجو أن يكون هذا المعنى واضحاً، الإسلام لا يدعو إلى ترك الدنيا، الإسلام لا يدعو إلى أن يجلس الإنسان في المسجد ولا يعمل، أبداً، إنما يدعو إلى عمارة الدنيا والآخرة.

ويقول آخر يقال له: ابن الخازن البغدادي:

عَنت الدنيا لطالبها واستراح الزاهدُ الفطِنُ
كلُّ ملكٍ نال زخرفَها حسبُه مما حوى كفنُ

هو يخرج في النهاية بالكفن.

يقتني مالاً ويتركه في كلا الحالين مُفتتَنُ
أملي كوني على ثقةٍ من لقاء الله مُرتَهنُ[12]

وكان الإمام محمد بن الوليد الطرطوشي المالكي يقول: إذا عرض لك أمر دنيا وأمر آخرة، فبادر بأمر الآخرة يحصل لك أمر الدنيا والأخرى[13].

إنّ لله عبادًا فُطنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
فكروا فيها فلمّا علموا أنها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لُجَّةً واتخذوا صالحَ الاعمال فيها سُفنا

 

اعتبروها مثل البحر واتخذوا صالح الأعمال فيها سفناً.

وهذا ابن تومرت كان كثيراً ما يردد هذا البيت يقول:

تجردْ من الدنيا فإنك إنما خرجتَ إلى الدنيا وأنت مجرد[14]

فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم القناعة والزهد والرضا والطمأنينة، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (12/ 229).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، رقم: (2322)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، رقم: (4112).
  3. سير أعلام النبلاء (12/ 445).
  4. المصدر السابق (13/ 129).
  5. المصدر السابق (14/ 63).
  6. المصدر السابق (14/ 44).
  7. المصدر السابق (16/ 507).
  8. المصدر السابق (17/ 611).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، (1/ 93)، رقم: (91).
  10. أخرجه الترمذي، أبواب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (5/ 123)، رقم: (2819).
  11. سير أعلام النبلاء (21/ 96).
  12. وفيات الأعيان (2/ 191).
  13. سير أعلام النبلاء (19/ 491).
  14. المصدر السابق (19/ 551).

مواد ذات صلة