الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
حديث «يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل..» إلى «طوبى لمن هدي للإسلام..»
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الآخرة / ١٤٢٩
التحميل: 1407
مرات الإستماع: 3907

إنك إن تبذل الفضل خير لك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول[1]، أخرجه مسلم في صحيحه.

قوله: يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك يعني: ما زاد على الحاجة الأساسية للإنسان، وذلك أن ما يزيد عن حاجة الإنسان وحاجة عياله من القوت والدواء والمسكن والمركب وما إلى ذلك ينطبق عليه قوله  ﷺ: إنك إن تبذل الفضل خير لك.

قال: وإن تمسكه شر لك، لأن الإنسان يحاسب على ذلك جميعًا ولا تلام على كفاف يعني: أن الإنسان إذا وجد عنده ما يكتفي به ويكفه عن الحاجة إلى الناس وعن السؤال والتطلع إلى ما في أيديهم فإن ذلك هو المطلوب، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول لأن هؤلاء الذين تعولهم هم الذين يجب عليك أن تنفق عليهم وهم أحق الناس بإحسانك وصلتك وعطائك.

من أصبح منكم آمنًا في سربه

والحديث الآخر هو:

حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري قال: قال رسول الله ﷺ: من أصبح منكم آمنًا في سربه يعني: في نفسه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها[1] يعني: كأنما حيزت له الدنيا بأسرها؛ وذلك أن مطالب الناس لا تخرج عن هذه الأمور المذكورة، إذا كان الإنسان آمنًا في نفسه ومعافى في جسده وعنده ما يكفيه عن الحاجة للناس فكأنما حيزت له الدنيا؛ لأن الإنسان لو كان عنده الكثير من العرض ولكنه مريض فإنه لا يستطيع أن يتمتع بهذه الملاذ، وإذا كان الإنسان صحيحًا في بدنه لكنه لا يجد لقمة العيش فإنه ينشغل قلبه بذلك، وإذا كان الإنسان غنيًّا ولكنه لا يأمن على نفسه ولا على أهله فإنه لا يلتفت إلى شيء من لذات الدنيا ومباهجها، وإنما يطلب الأمن، فالإنسان إذا حصلت له هذه الأمور: حصل له الأمن، وحصلت له العافية في البدن، وحصلت له الكفاية لا يحتاج إلى أحد فكأنما حيزت له الدنيا؛ لأن هذا هو المطلوب منها وما زاد فإن الإنسان لا ينتفع به غالبًا، لو قيل لأحد من الناس الآن: لك من هنا إلى أن تصل إلى الرياض كل الأراضي لك، كل ما تراه عن يمينك وعن شمالك فهو لك إلى أن تصل هناك، لكن هل تستطيع أن تأكل أكثر من القدر الذي يأكله الآخرون ولو كنت تملك أموال الدنيا؟، هل تستطيع أن تأكل أكثر مما يأكل الناس؟، لو أكلت مرتين في ليلة لربما مرضت، وهل ستلبس ثيابًا أكثر مما يلبسه الناس؟، لو لبس الإنسان شماغين أو ثوبين لضحك عليه الناس ولضاق ذرعًا بها، ولن يستطيع أن يتنقل إلا على مركب واحد، وما زاد عن ذلك فهو من الفضول، وهؤلاء الذين يملكون العرض الكثير ثم يخرجون منه الواقع أنه ليس لهم منه إلا ذاك الذي أكلوه أو تصدقوا به، أما ما بقي فهو ليس لهم.

لو قيل لك: لك مائة ألف مليار من الأموال ماذا ستأكل أنت؟ خبزة في أول النهار وخبزة في آخر النهار، ماذا ستأكل؟ كم ستأكل وكم سيبقى؟، الذي يبقى ليس لك، إنما هو قيل هكذا، لكن الواقع أنك لم تنتفع به، لو كان الإنسان يعقل لأدرك هذه الحقيقة، ولذلك يخرج أهل الدنيا بعدما شغلوا نفوسهم وأوقاتهم وأعمارهم في تطلبها وجمعها يخرج منها بخرقة بيضاء، ويبقى ذلك العرض الكثير يحاسبون عليه، ويأخذه وارث لا يحاسب عليه لأنه جاء من طريق مباح.

وهذه قضايا يحتاج الإنسان أن يعتبر وأن يتبصر ولكن النفوس لما جبلت على الطمع صار الإنسان لا يشبع من الدنيا مهما أعطي منها، لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب[2].

فأقول: الآن انظر إلى الناس الذين تذهب أموالهم هنا وهناك، قد يكون هذا الإنسان يعمل وله دخل شهري يبلغ عشرين ألفًا، وعشرون ألفا ليست قليلة فهو يضع ذلك في مساهمات، والبنك يغريه ويعطيه فوق هذا مئات الألوف؛ ثم بعد ذلك يخسر ولا يبقي لنفسه في مصروفه إلا الشيء القليل لربما أربعة آلاف، لو أنه فكر وتعقل لعرف أنه يشتغل هذه السنوات حتى يسدد هذه الديون وما ذهب عليه مما جمعه السنوات الطوال أنه يشتغل في الشهر بأربعة آلاف فقط، فلو قيل له: تنزل من عشرين إلى أربعة آلاف لجن جنونه، والواقع كذلك أنه يشتغل بأربعة آلاف والباقي أين ذهب؟ ذهب في هذه المساهمات وفي توظيف الأموال أو غير ذلك.

أليس هذا يقع لكثير من الناس؟، لكنهم لا يفكرون، فالواقع أنه يعمل بأربعة آلاف، أجير بأربعة آلاف، أجير بثلاثة آلاف، لكنه مطمئن إلى رسم ذلك أن يُكتب فيه أنه يعمل بعشرين ألفًا، بأكثر من ذلك، بأقل، والواقع أنه ليس له منها إلا ذاك الذي يأكله أربعة آلاف، خمسة آلاف أو نحو هذا، والباقي ذهب، وهكذا إذا مات الإنسان سُلب ما بيده وذهب إلى غيره، فالواقع أنه ليس له منها إلا ذاك الذي يأكله، فكم قدر هذا الذي يأكله في كل شهر؟ ستة آلاف، سبعة آلاف، طيب والمليارات؟، لا قيمة لها، ذهب وتركها، فكأنه وذاك الإنسان الذي ليس له دخل إلا ستة آلاف أو نحو هذا سواء، بل نحن نشاهد أن بعض الذين لا يحصّلون إلا القليل يتمتعون ويتوسعون في الملذات أكثر من ذاك الذي يملك المليارات، ذاك يحسبها بحسابات دقيقة، لو قيل لهذا الإنسان الذي ذهبت عليه مئات الألوف أو الملايين في المساهمات، لو قيل له: يا أبا فلان، السنة هذه أجازة رمضان ما رأيك تذهب وتسكن فندقًا قريبًا من الحرم في الشهر بثلاثمائة ألف ريال بما فيها الأكل والشرب؟، فسيقول: ثلاثمائة ألف؟ أنا مجنون!، واليوم تجد آحاد الناس من المعلمين وغيرهم لربما ستمائة ألف ذهبت عليه، إلى أين ذهبت؟ ذهبت عليه في الأسهم، لو قيل: ثلاثمائة ألف في رمضان تتمتع أنت وأسرتك تجلس كل رمضان وأمام الحرم، أنا أصرف ثلاثمائة؟ لو قيل له: طيب ما هو بثلاثمائة، ستون ألفًا فقط رمضان كله، قال: لا، ولا بعشرين، إذاً أنت جمعتها من هنا وهنا وضيقت على نفسك، وتذهب وتحاسب وكم يؤجِّر لك هذا وتسكن في مكان بعيد جدًّا وتذهب بالنقل الجماعي أو بطريقة أو بأخرى، ثم تذهب من بين يديك باردة ما تستفيد منها شيئًا، لكننا ما نفكر، فهذا الذي ذهب هو ليس لنا، لم يقدر لنا، فطار من بين أيدينا ولم ننتفع به لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة، والواقع أن الذي لنا هو هذا الذي بقي، القليل؛ ولكن يقنع الإنسان أحيانًا بمظاهر زائفة أو بأرقام أن دخله كذا والواقع أنه ليس كذلك، أو أنه يملك بأرصدته أموالًا طائلة وملايين هائلة؛ ولكنه في الواقع لربما ما ينتفع منها إلا بآلاف قليلة والباقي ليس له، فالتبصر بحقائق الأمور مطلوب، فهنا النبي ﷺ يقول: فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.

قد أفلح من أسلم

وفي الحديث الآخر:

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن النبي ﷺ قال: قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافا، وقنعه الله بما آتاه[1].

لقد أفلح من أسلم -يعني: حصّل المطلوب في الدنيا والآخرة ونجا من المرهوب- وكان رزقه كفافًا -ما قال: كان يملك المليارات أو الملايين، رزقه كفافًا يعني يكفه ويكفيه عن الحاجة إلى الناس، وقنّعه الله بما آتاه[2] رواه مسلم.

قنّعه وهذا اللفظ "قنّعه" يدل على أن هذه المسألة تحتاج إلى شيء من الترويض والمجاهدة للنفس من أجل أن يحصل للإنسان القناعة، فليس ذلك من السهولة بمكان، الذي عنده قليل غير مقتنع إلا من رحم الله ، والذي عنده كثير غير مقتنع، وهل رأيتم أحدًا ممن يملكون العرض الكثير جالسًا ممددًا رجليه ويقول: أنا خلاص لا أشتغل، أنا سأرتاح والحمد لله الذي عندي يكفي أولادي إلى الجيل العاشر أو العشرين؟، لا، الكل يعمل، والكل يكدح، والكل ينصَب.

طوبى لمن هُدي للإسلام
وفي حديث أبي محمد فضالة بن عبيد الأنصاري أنه سمع النبي ﷺ يقول: طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقَنِع[1] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

طوبى لمن هُدي للإسلام "طوبى" هذه كلمة تدل على الخير "فُعْلى" يعني: حصل له الخير.

فنسأل الله أن يبصرنا بما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه، (4/ 576)، برقم: (2349)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 10)، برقم: (1506).

مواد ذات صلة