الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «ليس المسكين الذي يطوف على الناس..»
تاريخ النشر: ٠٤ / شعبان / ١٤٢٩
التحميل: 1647
مرات الإستماع: 4896

ليس المسكين الذي يطوف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحديث الأخير في باب القناعة والعفاف وذم السؤال هو:

حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غِنًى يغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس[1]. متفق عليه.

ليس المسكين الذي يطوف على الناس بمعنى: أنه ليس المسكين حقيقة الذي يكون أولى الناس بهذا الاسم، أو تحقُّق هذه الصفة وهي المسكنة: هو ذلك الذي يطوف فيسأل، مع أن الذي يطوف ويسأل إذا كان يفعل ذلك من حاجة وفقر فلا شك أنه مسكين، ولكن النبي ﷺ قصد بيان الأحق بهذه التسمية والأجدر بها، وهو ذلك الإنسان المتعفف؛ لأن هذا الذي يطوف على الناس، ويسأل فإن الناس يعطونه ما قد يكون به سدُّ جوعته، وأيضًا يعرف الناس أن هذا الإنسان محتاج وفقير فيتعاهدونه، ويعطونه، ويطلبونه وما إلى ذلك، فلا يضيع، لكن الذي لا يسأل لا بلسان المقال، ولا بلسان الحال، فكيف يعرف الناس أنه محتاج؟ فيبقى في بيته يعاني شدة الجوع والمسغبة هو وعياله، والناس يظنونه في غنى وعافية وسعة من الله فهذا هو المسكين حقيقة؛ لأن أصل المسكنة مأخوذ من أن أطرافه وجوارحه وأبعاضه كأنها سكنت من شدة فقره، فالذي يسأل الناس من حاجة هو مسكين، لكن هذا أحق وأجدر بهذه التسمية.

يقول: ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، يعني: يعطيه الناس شيئًا ولو قل، ولكن المسكين الذي لا يجد غٍِنى غنيه يعني: يكفيه عن سؤال الناس ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، يعني: هو ما أعلمهم بحاجته وفقره، وما سألهم، وما طاف عليهم، فمثل هذا قد يكون في غاية المعاناة، وأقرب الناس إليه لا يطلعون على حاله، وهذا لا شك أنه هو الأجدر والأولى بالصدقة والإحسان والبر، مع أن الأول يعطَى، بل حتى لو كان غنيًّا وقام وسأل الناس فإنك إن أعطيته فإن هذا لن يضيع أصلًا، كما في الحديث: تُصدق الليلة على غَني[2] الرجل الذي تصدق فرأى في المنام من يقول ذلك، أو فأصبح الناس يتحدثون: تُصدق الليلة على غني، فالنبي ﷺ أخبر أنها قد بلغت، والإنسان على نيته، وكما قال الله : وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:272].

وكالعادة نذكر بعض الآثار المروية عن السلف في الباب.  

فعن سعيد بن المسيب -رحمه الله- قال: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس[3].

يعني: الإنسان الذي لا يعمل إما بزعمه أنه متوكل على الله، أو أنه متواكل على الآخرين، قد أراح نفسه من البذل والسعي، وطلب الرزق ليكتفي بما عند الناس، فهذا لا شك أنه أمر سيئ مذموم، وإنما يحصّل الإنسان ما يكفيه، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما أخبر الله عنهم: وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان:20] يعني: لطلب الرزق.  

وجاء عن سعيد بن المسيب -رحمه الله- أيضًا أنه خلف ألفين أو ثلاثة، وقال: ما تركتها إلا لأصون بها ديني[4].

يعني: من أجل أن لا يذل لأحد من المخلوقين، وكان يقول: من استغنى بالله افتقر الناس إليه[5]، لكن من افتقر إلى الناس ذل عندهم.

وكان الربيع -رحمه الله- إذا أخذ عطاءه فرقه وترك قدر ما يكفيه[6]، وهذا هو الشاهد: لا يفرّق كل ما عنده، ثم بعد ذلك يحتاج، ولهذا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].

وبعض أهل العلم أدخل فيه النفقة في سبيل الله، والصدقة، قالوا: يُطلب فيها الاعتدال, والإسراف يدخلها, هكذا قال بعضهم، والمسألة فيها خلاف معروف، وأبو بكر جاء بكل ماله، وعمر جاء بنصف ماله، وقبل منهم النبي ﷺ، ولكن لما جاءه رجل بماله لم يقبل منه وغضب لما أعطاه قطعة من ذهب، ورماه بها، وقال: يعمد أحدكم إلى ماله فينفقه، ثم بعد ذلك يتكفف الناس[7]، أو كما قال ﷺ، فدل ذلك -كما قال الشاطبي -رحمه الله- على أنه يختلف باختلاف الناس، فمن كان بمنزلة من اليقين كأبي بكر فلا مانع أن ينفق كل ماله؛ لقوة ثقته بالله، ومن ضعفت ثقته فإنه لا ينفق كل ما عنده، وإنما يترك شيئًا له ولأهله، كما دلت عليه الأحاديث الأخرى.                                                                                                      ودخل ميمون بن مهران على ابن عمر، يقول ميمون: فقوّمت كل شيء في بيته، فما وجدته يساوي مائة درهم، ثم دخلت مرة أخرى فما وجدت ما يساوي ثمن طيلسان -وهو ما يلبس من الثياب، ودخلت على سالم -يعني ابن عبدالله بن عمر- فوجدته على مثل حال أبيه[8]، يعني: من التقلل والزهد.

نحن لا نطالب الناس أن لا يَبقى في بيوتهم ما يساوي مائة درهم، لكن نقول: ينبغي أن نتقلل من هذا التوسع وألا ينظر الإنسان إلى الآخرين ماذا عندهم فيحاكيهم في كل شيء، من الأثاث، واللباس، وعمارة الدور، ونحو ذلك، ويتوسع في الدنيا، فإن هذا مذموم، وهكذا ما يغلب النساء الرجال عليه من التوسع في الدنيا، ففي كل سنة أو نحو ذلك لربما يجدد الأثاث الذي اشتُري بأغلى الأثمان من أجل المحاكاة للآخرين، أو نحو هذا، فلا يطاوَعون في هذا.

وجاء عن مطر الوراق يقول: دخلنا على الحسن البصري نعوده فما كان في البيت شيء، لا فراش، ولا بساط، ولا وسادة، ولا حصير إلا سرير مرمول، هو عليه[9].

وكان سويد بن غفلة إذا قيل له: أُعطي فلان ووُلي فلان قال: حسبي كسرتي وملحي[10]، كسرة خبز وملح تكفي يُسد بها الجوع، يعني: حينما تُحرَّك نفسه يقال: انظر إلى نظرائك وأقرانك، وكذا، فلان ولي ولاية، وفلان صار أميراً في المكان الفلاني، وفلان أعطي كذا، ما يُستفز يقول: صحيح، لا، تكفيني كسرتي وملحي.

ويقول عاصم بن بهدلة: كان لأبي وائل الأسدي -رحمه الله- خص من قصب -يعني مثل الكوخ- يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضه، وتصدق به، فإذا رجع أنشأ بناءه[11].

ويقول هشيم بن حسان: كان قوت العلاء بن زياد رغيفًا في كل يوم، وكان للعلاء بن زياد مال ورقيق، فأعتق بعضهم، وباع بعضهم، وتعبد وبالغ، فكُلم في ذلك، قال: إنما أتذلل لله لعله يرحمني[12].

وجاء عن عمران بن عبدالله قال: كان سعيد بن المسيب لا يقبل من أحد شيئًا[13].

نحن حينما نذكر هذه الأشياء دائمًا سواء هنا أو فيما مضى في الأعمال القلبية، أو نحو ذلك لا نقصد أن الناس يكونون بهذه المثابة، فكل زمان له ما يناسبه، لا نقصد هذا، وأيضًا ينبغي أن يُعرف أنه يسع الإنسان في نفسه ما لا يسعه في غيره، قد يعيش الإنسان على وسادة من ليف، وعلى حصير، قد يفعل هذا لنفسه، ولا يلام، هو شأنه هو يريد أن يتقلل، فلا يحمل على التوسع في الدنيا، لكن هل له أن يتزوج امرأة ويعاملها بهذه الطريقة؟ هل له أن يحمل أولاده على هذه الطريقة في وقت هم يرون من حولهم في غاية البهجة والتوسع في الدنيا؟، هذه مشكلة قد تسبب لهم أمورًا ومشكلات نفسية، ولربما يعمد بعضهم إلى السرقة، الاختلاس، الكذب، التطلع للآخرين، لربما أبغضوا هذا الأب وتصوروا أنه عبء ثقيل عليهم قد حرمهم لذات الدنيا، وجعلهم من بين الآخرين بحال من المسغبة، فهذه مشكلة، ولذلك يبقى الإنسان يعاني في هذا العصر كثيرًا من هذه القضايا، وهذه الجوانب، لربما يريد التقلل هو، ولكنه إذا نظر للأولاد لا يريد أن يشعرهم بالحرمان أيضًا، فالذي أراه -والله تعالى أعلم- في هذا هو التوسط في الأمور، والتوسط عند كل قوم بحسب حالهم، كل أناس بحسب حالهم، فالتوسط في بيئة قد لا يكون هو التوسط في بيئة أخرى، التوسط عند إنسان قليل الدخل ليس كالتوسط عند إنسان يعيش في أسرة ثرية، ويملكون أموالا طائلة ومَن حولهم من أهلهم وقراباتهم ومن يحيطون بهم -ليسوا يعيشون في مكان آخر لا يرونهم- ويحتكون بهم صباح مساء يعيشون في غاية البذخ والتوسع، فهؤلاء تحرمهم وتقول لهم: يكفيكم كسرة خبز وملح، هذا ما يمكن، فنحن قد نفسدهم بهذه الطريقة وليست هذه تربية.

وفرقٌ أيضًا بين من يوجد عندهم إقبال ورغبة في هذه الأمور من التقلل، وبين من يكون عنده تطلع إلى الدنيا وغفلة، فلابدّ أن تراعَى هذه الجوانب جميعًا، فبعض الناس قد تمر عليه هذه الآثار ويردها، ويقول: هذه مبالغات، ومن الناس من يريد أن يطبق هذا في هذا الوقت بهذه الطريقة، وعلى أهله، وزوجته، وأولاده فينفرون منه، هذا لو طبق على كثير من الصالحين لما طاقته قلوبهم.

فالاعتدال في الأمور أن نربي الأولاد دائمًا والزوجة ألا تكون الدنيا هي همهم وغايتهم، ونبين لهم أن هذا الحطام زائل، وأنه ليس المعيار والمقياس الذي يوزن به الناس، ونبين لهم أن هذا المتاع على اسمه متاع، وأنه إنما يقصد به ما يحصل به قضاء الوطر، ودفع الحاجة، سيارة توصل الإنسان تذهب به وتجيء به لا داعي إلى أن ينظر إلى فلان، وولد الجيران، وولد العم، هذا عنده سيارة بأربعمائة ألف، وهذا عنده سيارة بثلاثمائة ألف، وهو طالب في الثانوي، والولد يقول: أنا أريد أن أكون مثلهم، طيب إلى أي حد ستقف؟ وأكثر من هذا من يذهب بولده ويدرسه في مدرسة يدرس فيها أناس ممن لا يستطيع أن يجاريهم، ولا يخطو خطوهم، ما يستطيع، لو جمّع كل ما عنده وعند أقاربه ربما ما يستطيع أن يصل إلى حساب هذا الولد الصغير الذي في المدرسة.

فهؤلاء يأتون بسيارات لو باع بيته ما اشترى مثلها، لوحة السيارة يمكن أن يشتريها بستة ملايين، فمثل هذا لما يجيء يتحدث: اشترينا لوحة بستة ملايين، ويأتي الولد لأبيه ويقول: نبغى أن نشتري لوحة متميزة، التميز بالعلم والعمل يا ولدي، ما هو بلوحة السيارة، فنحن نربي الأولاد على هذه المفاهيم، لا نجاريهم ونتوسع معهم بحجة ألا نشعرهم بالحرمان، وأيضًا في نفس الوقت المنع وحمل هؤلاء الأولاد والزوجة على التقشف أو التقلل بالرغم من إرادتهم لا، التوسط والاعتدال، ولكل شيء ما يناسبه، الجوال في المرحلة الابتدائية خطأ، لا للولد ولا للبنت، ليست تربية، حتى لو كان للأولاد، في المتوسط ربما في ثاني متوسط، في ثالث متوسط إذا دعت الحاجة وأغلِقْه وضعْه في الدرج، فإذا دعت الحاجة ذهبتَ إلى المركز، أو ذهبت كذا احتجنا إليك لتخرج في وقت معين لا بأس، أمّا كل طفل ماسك جوالا في يده فهذه ليست تربية، كل بنت طفلة ماسكة جوالا في يدها فهذه ليست تربية.

ترْك الأولاد كل ليلة طلبات من المطاعم كل ليلة في الصيف، وسيارات المطاعم تجول بين بيوت الناس هذه ليست تربية، والمنع تمامًا والحرمان خطأ، الاعتدال، أن يبقى هؤلاء يعطون كل ما أرادوا وجيبوهم مليئة بالمال فهذا إفساد لهم، ولن يسد تطلعات هؤلاء الأولاد شيء، لأن الناس إذا بطروا النعمة ما يرضيهم شيء ولا يقفون عند حد.

ولعلكم رأيتم بعض الصور في الجوال ناس معهم أموال وجالسون يحرقونها على النار، هؤلاء بطروا النعمة فلم يبق عندهم شيء إلا العبث، فليس عنده مشكلة أنه يجلس يحرق هذه الأموال، ومن أجل أن يصور في الجوال وتنشر هذه الصور، هذه تعتبر كمالات بالنسبة إليه.

فالتوسط هو المطلوب والاعتدال هو المطلوب، ومن أحسن ما يكون ومن أنفع ما يكون ألا يترك زوجته وأولاده يجارون -إذا استطاع- من هم أهل توسع في الدنيا، فإنهم سيطالبونه بالمثل أو يشعرون بانكسار في نفوسهم وقلوبهم، لا، اجعلهم يجارون مَن عندهم شيء من التواضع، لا يجارون الناس الذين يريدون مظاهر الدنيا والتوسع فيها، فسيتخلقون بأخلاقهم ويحاكونهم، فهذا خطأ، لكن أحيانًا يبتلى الإنسان كأن يكون هؤلاء هم الأقارب، فتبقى التربية وغرس المفاهيم قدر المستطاع والمتابعة؛ لأن الغفلة غلابة، مثل المرآة لو تركتها مدة غبشت، الآن السيارة ترونها إذا تركت جاءها الغبار، وإذا مسحت صقلت ثم بعد ذلك ترجع، فلو تركت سنة ما تمسح ما تستطيع أن تلمسها، وهكذا البيت ونحو ذلك، فالنفوس أكثر تأثرًا من هذه الفرش أو المراكب، أو المرآة حينما يصيبها ما يصيبها من الغبش، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة: 273] وكم الغِنى، (2/ 125)، برقم: (1479)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له فيتصدق عليه، (2/719)، برقم: (1039).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم، (2/ 110)، برقم: (1421)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، (2/ 709)، برقم: (1022).
  3. انظر: سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص:779).
  4. سير أعلام النبلاء (5/ 135).
  5. المصدر السابق.
  6. المصدر السابق (4/ 261).
  7. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب قول المريض: " إني وجِع، أو وارأساه، أو اشتد بي الوجع، (7/ 120)، برقم: (5668)، بلفظ: أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، (3/ 1250)، برقم: (1628).
  8. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (20/ 56).
  9. سير أعلام النبلاء (4/ 582).
  10. سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 793).
  11. انظر: تاريخ بغداد وذيوله (9/ 271).
  12. سير أعلام النبلاء (4/ 203).
  13. المصدر السابق (4/ 238).

مواد ذات صلة