الأربعاء 15 / شوّال / 1445 - 24 / أبريل 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب القناعة والعفاف (2-5)
تاريخ النشر: ١٨ / شعبان / ١٤٢٩
التحميل: 1639
مرات الإستماع: 3232

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الآثار المنقولة من أحوال السلف فيما يتصل بقناعتهم بالقليل، وتقللهم من الدنيا وعفافهم: ما جاء عن فتح الموصلي -رحمه الله- أن متولي الموصل -يعني الأمير- أتى إليه فطرق بابه فخرج ابنه، فقال: هو نائم، يعني: أن والده وهو فتح الموصلي نائم، فصاح فتحٌ من داخل الدار، وقال: ما أنا بنائم، ما لي ولك، فقال له متولي الموصل: هذه عشرة آلاف خذها، فأبى[1].

وقال الحسن بن صالح: ربما أصبحت وما معي درهم، وكأن الدنيا قد حيزت لي[2].

ويقول ابن بشار: أمسينا مع إبراهيم بن أدهم ليلة ليس لنا ما نفطر عليه، فقال: يا ابن بشار ماذا أنعم الله على الفقراء والمساكين من النعيم والراحة، لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ولا حج ولا صلاة ولا صلة رحم، لا تغتم فرزق الله سيأتيك، نحن والله الملوك الأغنياء تعجّلنا الراحة، لا نُبالي على أي حال كنا إذا أطعنا الله، ثم قام إلى صلاته، وقمت إلى صلاتي، فإذا رجل قد جاء بثمانية أرغفة وتمر كثير فوضعه فقال: كل يا مغمور، فدخل سائل فأعطاه ثلاثة أرغفة مع تمر، وأعطاني ثلاثة وأكل رغيفين[3].

وعن حفص الجُعفي قال: ورث داود الطائي من أمه أربعمائة درهم، فمكث يتقوت بها ثلاثين عامًا، فلما نفدت جعل ينقض سقوف الدويرة فيبيعها[4]، يعني: ينقض من سقف الدار الخشب فيبيعه ويأكل منه.

ويقول النضر: أقام الخليل بن أحمد -وهو الإمام اللغوي المعروف- في خص له بالبصرة لا يُقدر بفلسين وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وكان كثيراً ما ينشد:

وإذا افتقرتَ إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالحِ الأعمال[5]

ويقول سوار بن عبد الله: حدثنا أبي قال: كنت آتي حماد بن سلمة، وهو من أئمة السنة، يقول: كنت آتيه في سوقه، فإذا ربح في ثوب حبة أو حبتين شد جونته ولم يبع شيئاً، فكنت أظن ذلك يعني: يكفيه لقوته[6].

وسئل سعيد بن عبد العزيز عن الكفاف من الرزق ما هو؟ قال: شبع يوم وجوع يوم[7].

وحكى حرملة بن يحيى أن ابن عيينة أراه خبز شعير، سفيان بن عيينة الإمام الكبير المعروف أراه خبز شعير وقال: هذا طعامي منذ ستين سنة[8].

ويقول يحيى بن معين: سمعت ابن إدريس يقول: عندي قوصرة مَلْكاية، وراوية من حوض الربّابين، ودَبّة زيت، ما أحد أغنى مني[9].

ويقول محمد بن أبي صفوان: كان ليحيى القطان نفقة من غلته، إن دخل من غلته حنطة أكل حنطة، وإن دخل شعير أكل شعيراً، وإن دخل تمر أكل تمراً[10].

ويقول علي بن حرب: دخلت منزل قاسم بن يزيد، فرأيت خُرنوباً في زاوية البيت كان يتقوت منه، وسيفاً ومصحفاً، يعني: ليس في البيت سوى هذا[11].

واعتل الإمام أحمد بن حنبل -يعني مرض مرة، فعاده يزيد بن هارون -وهو من شيوخه- ووصله بخمسمائة درهم، فردها أحمد واعتذر.

وروي عن علي بن حرب الطائي قال: أتينا زيدَ بن الحُباب فلم يكن له ثوب يخرج فيه إلينا، فجعل الباب بيننا وبينه حاجزًا وحدثنا من وراءه[12].

وحُكي أن عمر بن سعيد أبطأ يوماً في الخروج إلى الجماعة، ثم خرج فقال: أعتذر إليكم، فإنه لم يكن لي ثوب غير هذا، صليت فيه ثم أعطيته بناتي حتى صلين فيه، ثم أخذته وخرجت إليكم[13].

ويقول أبو حمدون الطيب المقرئ: دفنا أبا داود الحفري -رحمه الله، وتركنا بابه مفتوحاً، ما كان في بيته شيء، يعني: ليس فيه شيء يُسرق، ويقول عباس الدوري: مات الواقدي وهو على القضاء، وليس له كفن فبعث المأمون بأكفانه[14].

وعن الشافعي -رحمه الله- قال: ما فزعت من الفقر قط، طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب بها الله أهل التوحيد[15].

ويقول جعفر بن حمدويه: كنا على باب قبيصة بن عقبة الكوفي، ومعنا ابن الأمير أبي دلف، ومعه الخدم يكتب الحديث، فصار إلى باب قبيصة فدق عليه فأبطأ قبيصة فعاوده الخادم، وقيل له: ابن ملك الجبل على الباب، وأنت لا تخرج إليه!، فخرج وفي طرف إزاره كِسر من الخبز، فقال: رجل..، يعني يقول عن نفسه: رجل قد رضي من الدنيا بهذا ما يصنع بابن ملك الجبل؟، والله لا أحدثه، فلم يحدثه[16].

هذه نماذج من تقللهم من الدنيا، وليس المقصود كما ذكرت مراراً أننا نعيش على خبز الشعير، أو أن يبقى الإنسان عليه إزار، وليس عليه رداء، هذا ليس بمقصود، وإنما المقصود ألا يُعلق القلب في هذه الدنيا، وألا يظن الإنسان أن الفلاح والنجاح وأن المعالي وأن هذه الدنيا هي الغاية، فمن حصلها فقد ربح، ومن فاتته فقد خسر، فيتآكل على ما فاته منها، ويحزن وتذهب نفسه حسرات، فالإنسان ليس له إلا ما كتبه الله من الدنيا، كُتب ذلك وهو في بطن أمه، وكُتب قبل ذلك قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهؤلاء الأئمة الكبار الأعلام الذين لا زلنا نترحم عليهم ونذكرهم كانوا من أهل التقلل وما ضرهم ذلك، وأهل الكثرة قد لا يُذكرون، ولا نعرف أهل الغنى والثروة في ذلك العصر أو في العصور التي قبله أو بعده، وإنما يكون قدر الإنسان بما يحمله من العلم والعمل والتقوى لله .

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (7/ 44).
  2. المصدر السابق (7/ 57).
  3. المصدر السابق (7/ 74).
  4. المصدر السابق (7/ 93).
  5. طبقات النحويين واللغويين (ص48).
  6. تهذيب الكمال في أسماء الرجال (7/ 265).
  7. تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 207).
  8. تهذيب الكمال في أسماء الرجال (11/ 191).
  9. سير أعلام النبلاء (7/ 500).
  10. المصدر السابق (7/ 582).
  11. تاريخ بغداد وذيوله (4/ 21).
  12. سير أعلام النبلاء (9/ 395).
  13. المصدر السابق (9/ 416).
  14. تاريخ بغداد وذيوله (3/ 230).
  15. سير أعلام النبلاء (8/ 279).
  16. تاريخ بغداد وذيوله (12/ 471).

مواد ذات صلة