الثلاثاء 01 / جمادى الآخرة / 1446 - 03 / ديسمبر 2024
‏(37) الحديث الرابع " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله "‏
تاريخ النشر: ٣٠ / ذو الحجة / ١٤٣٤
التحميل: 3741
مرات الإستماع: 4488

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيها الأحبة، في هذه الليلة نتحدَّث عن الحديث الرابع من أحاديث هذا الكتاب "حصن المسلم"، وهو حديث عبدالله بن بُسر : أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به؟ قال: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله[1].

هذا الرجل يقول: يا رسول الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ. ظاهره أنَّه أراد بذلك ما زاد على الفرائض من النَّوافل؛ لأنَّ الفرائضَ لا مندوحة عنها، ويجب على المكلَّف القيام بها، وهي محصورة، محدودة، معلومة، وأمَّا أبواب البرِّ فيما زاد على الفرائض فهي كثيرةٌ، واسعةٌ، قال عنها شيخُ الإسلام -رحمه الله- بأنَّ هذه الشَّريعة بمنزلة الشَّرائع المتعددة[2]؛ لسعة أبواب البرِّ والعمل الصَّالح فيها، فإذا نظرتَ إلى أبواب التَّعبدات البدنية فهي مُتنوعة: من الصيام بأنواعه، ومن الصَّلاة بأنواعها، ومن حجٍّ وعُمرةٍ، إلى غير ذلك. وإذا نظرتَ إلى التَّعبدات المالية وجدتها أيضًا كثيرة متنوعة، وهكذا سائر أبواب البرِّ، يمكن أن تستغرق الأعمار في بابٍ منها، وقد يُفتح على بعض المكلَّفين في بابٍ ما لا يُفتح عليه في غيره.

فهذا الرجل يسأل النبيَّ ﷺ عن هذا، يقول: إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ. وسمَّاها "شرائع" باعتبار أنَّ الله قد شرعها؛ شرع العملَ بها، والعمل المشروع هو الدَّائر بين ما طلبه الشارع: إمَّا وجوبًا، وإمَّا ندبًا، فهذا كلّه يُقال له: المشروع.

إنَّ شرائعَ الإسلام قد كثرتُ عليَّ. يعني: غلبت عليَّ بالكثرة حتى عجزتُ عنها لضعفي، فهو يُريد شيئًا يُوصيه به النبيُّ ﷺ فيتمسَّك به؛ ولهذا قال لرسول الله ﷺ: فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به. يعني: أتمسَّك به، لا أتركه بحالٍ من الأحوال، فماذا قال له النبيُّ ﷺ؟ ما العمل الذي أرشده إليه مما يمكن أن يكون به غُنية عن غيره من الأعمال التي يتطوَّعها العبدُ؟

قال له ﷺ: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله تبارك وتعالى.

ونحن نعرف أنَّ "لا زال" من جملة أفعال المقاربة، وهي تدل على الاستمرار والدَّوام، تقول: ما زال المطرُ مُنهمرًا، وما زال النهرُ جاريًا، وما زال زيدٌ يأتينا. ونحو ذلك مما يدل على الاستمرار.

إذًا قوله ﷺ بهذا الحديث: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله يدل على الدَّوام والاستمرار، فرطوبة اللِّسان هنا عبَّر بها عن ذلك، عبَّر بها كما يقول بعضُ الشُّراح، كما يقول بعضُ العلماء في كتب شروح السُّنة، عبَّر بها عن سهولة جريانه على اللِّسان، بمعنى: أنَّه لا يتوقف توقُّفًا يحصل به الانقطاع والفتور عن ذكر الله -تبارك وتعالى-؛ وذلك أنَّ يُبْسَه عبارة عن ضدِّ رطوبته؛ فيكون لسانُه يابسًا.

ثم إنَّ جريان اللِّسان -أيُّها الأحبة- حينئذٍ يكون عبارةً عن مُداومة الذكر بصورةٍ لا ينقطع فيها العبدُ، ولا يغفل؛ أعني: ذاك الانقطاع الذي يحصل به التَّباعد والفتور، فكأنَّ النبيَّ ﷺ قال له: داوم على ذكر الله -تبارك وتعالى- من أجل أن يكون الذكرُ جاريًا على لسانه؛ فيكون لسانُه رطبًا بذكر ربِّه وخالقه .

لا يزال لسانُك رطبًا، فهذا جعلوه كقوله -تبارك وتعالى-: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، كيف يستطيع الإنسانُ أن يموت على الإسلام وهو لا يملك خاتمته؟

المقصود بذلك أن يلزم شرائعَ الإسلام والإيمان لزومًا مُستمرًّا حتى يلقى الله -تبارك وتعالى-، فهنا كيف يكون اللِّسانُ رطبًا بذكر الله ؟ بمُلازمة الذكر، فيجري على لسانه جريًا لا تكلُّف فيه، ولا انقطاعَ، ولا مُباعدة.

وهذا المعنى أشرنا إليه -أيها الإخوان- في الكلام على كثرة الذكر، مَن هم الذَّاكرون الله كثيرًا والذَّاكرات؟

فهذا الذي لم يزل لسانُه رطبًا من ذكر الله -تبارك وتعالى- حينما يُقال: لم يزل الزرعُ رطبًا، لم يزل الثوبُ رطبًا، فهنا رطوبته تدل على قُرب العهد بالمؤثر الذي أوجب هذه الرُّطوبة، فإذا تُرِكَ جَفَّ، فإذا تُعوهِد فإنَّه لم يزل كذلك؛ يعني: أنَّ الرطوبةَ وصفه الدَّائم المستمرّ، تقول: هذا المكان، أو هذه الأرض، في المسجد هذه الفُرُش صار الماءُ يتتابع عليها حينًا بعد حينٍ من غير مُباعدةٍ، فإنَّك تقول: لم يزل هذا المكانُ رطبًا؛ يعني: لقُرب عهده بالمؤثر الذي أوجب هذه الرُّطوبة، وعليه فإنَّ هذا الإنسان الذي يُداوم على الأذكار في الأوقات المختلفة باختلاف الأحوال والأوضاع والأوقات يكون لسانُه كذلك.

انظروا على سبيل المثال ما يتطلب ذكرًا مما نأتيه ونُعافسه في مصبحنا وممسانا، في ليلتنا، في آناء الليل، وأطراف النَّهار، في كل حينٍ ووقتٍ، مثلاً: يُشرع لنا الذكرُ والحمد على الأكل والشرب، واللباس، والجماع، ودخول المنزل، والخروج منه، ودخول الخلاء، والخروج منه، وركوب الدَّابة، والتَّسمية على الذَّبيحة من النُّسك، وغيره، وحمد الله على العطاس، وعند رؤية أهل البلاء في الدِّين أو الدنيا، وعند التقاء الإخوان يُسلِّم عليهم، وحينما يسأله عن حاله يحمد الله، وعند تجدد ما يُحبُّه الإنسانُ من النِّعَم، وعند اندفاع ما يكرهه من النِّقَم يحمد الله، وأن يحمده في السَّراء والضَّراء، والشّدة والرَّخاء، وأن يحمده على كل حالٍ.

وهكذا أيضًا يقول ما يُشرع له من الذكر إذا سمع أصوات الدِّيَكة بالليل، وعندما يسمع نباح الكلاب، ونهيق الحمار بالليل، وعند سماع الرعد، وعند نزول المطر، وعند اشتداد هبوب الرياح، وعند رؤية الهلال، وعند رؤية باكورة الثَّمَر.

وهكذا أيضًا يدعو الله -تبارك وتعالى- إذا نزل به الكربُ، وإذا حدثت المصائب، وحينما يريد السفر إذا ركب راحلته، وحينما ينزل منزلاً إذا رجع من السَّفر.

وهكذا إذا غضب يستعيذ بالله من الشيطان الرَّجيم، وإذا رأى ما يكره في منامه، وحينما يتعارّ من النوم يذكر الله -تبارك وتعالى-.

وهكذا إذا عزم على أمرٍ فإنَّه يستخير، ولو كان هذا الأمرُ يسيرًا، وإذا أذنب أو قصَّر في طاعة الله تاب واستغفر، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، فهذا الذكر إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسَهم عند التَّقصير بالطَّاعة، أو نحو ذلك، أوَّلُ ما يتوجّه إلى ذكر القلب، يتذكر رقابةَ الله وعظمته؛ فيخافه؛ فيتوب، وينطق لسانُه بالاستغفار، فهذا هو حال المؤمن.

الحافظ ابن رجب -رحمه الله- يقول: مَن حافظ على ذلك، هذه التي جرى التَّمثيلُ بها، وهي على سبيل المثال: لم يزل لسانُه رطبًا بذكر الله؛ لأنَّ العبدَ دائمًا في حال نِعَمٍ مُتجددةٍ، وهو يُشاهد نِعَمًا، ويرى بلاءً، ثم هو يتقلَّب في أمورٍ شتَّى، كل ذلك يُوجب له الذكر.

فالعبد لا انفكاكَ له من ذلك في أحواله كلِّها، وإذا كان العبدُ بهذه المثابة فله ضمانٌ أكيدٌ بأن تكون أحوالُه على التَّمام والكمال؛ لأنَّ مَن كان بهذه المثابة فإنه يُراقب الله في أموره كلِّها، ويخافه، ويستحي منه حقَّ الحياء، ويتأدَّب معه، وإذا نادى المنادي للصَّلاة فإنَّه لا يُقدِّم على ذلك شيئًا، ولا يُؤثر على طاعة الله وعلى طاعة رسوله ﷺ أمرًا مما يُحبُّه، ولا يخاف أحدًا أعظم من خوفه من ربِّه .

يكون هذا العبدُ الذي هو بهذه المثابة، يكون على حالٍ من الخشوع والخضوع، يكون على حالٍ مرضيَّةٍ من الصَّبر، والرِّضا، والتَّوكل على الله ، والثِّقة به، وحُسن الظنِّ بربه، لا يجزع حينما يجزع الناسُ، ولا يخاف حينما يخافون، ولا يحصل له تردُّدٌ في طاعته، ولا يحصل له انتكاسٌ أو تراجعٌ، ولا يشكو مثل هذا من قسوة القلب، وما تُؤثره تلك القسوة من جفاف العين.

كل هذا وغيره -أيها الإخوان- يتحقق لمن كان بهذه المثابة: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله -تبارك وتعالى-، بخلاف الغافل؛ فإنَّه يحصل له انقطاعٌ طويلٌ مُعتبرٌ يُؤثر هذا الجفاف الذي يكون باللِّسان، وما يعقبه من جفاف القلب ويُبْسه؛ فيكون قلبُه قاسيًا، في غاية الصَّلابة، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن أولئك من بني إسرائيل: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].

فذكر الأحجار كما أشرنا في مناسبةٍ سابقةٍ، كما قال بعضُ أهل العلم؛ لأنَّ الحديدَ إذا أُدخل في النار ذابَ، والنُّحاس إذا أُدخل في النار ذاب، أمَّا الحجارة فهي لا تتأثر بالنَّار، ولا تذوب، فمثلها بالأحجار، ولم يُمثلها بالحديد ونحوه: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، ما الذي يُورث هذه الصَّلابة؟ إنَّها الغفلة عن ذكر الله، فيصير العبدُ بتلك الحال: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ[الحشر:19]، فنسيان ذكره: نسيان حمده، والثَّناء عليه -تبارك وتعالى-، وما إلى ذلك من أنواع التَّرك والنِّسيان والإعراض والغفلة التي تُؤثر هذه الآثار الخطيرة: فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ؛ فيكون العبدُ ضائعًا، مُضيِّعًا.

كما قال اللهُ -تبارك وتعالى-: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، فهذه الصِّفات الثلاث -نسأل الله العافية- هي صفات أهل الغفلة: مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا النَّتيجة: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، ثم بعد ذلك حاله: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، يكون مُضيِّعًا، لا ينهض لله بحقٍّ، ولا ينهض لعباده بحقٍّ، فمثل هذا يكون في غاية التَّفريط والتَّضييع.

أسأل الله أن يُلهمنا رُشدنا، وأن يقينا شرَّ أنفسنا، وأن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدَّعوات، باب ما جاء في فضل الذكر، برقم (3375)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع"، برقم (7695).
  2. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (26/ 25).

مواد ذات صلة