الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب ذكر الموت وقصر الأمل (2-2)
تاريخ النشر: ١٤ / صفر / ١٤٣٠
التحميل: 1106
مرات الإستماع: 1844

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ومن الآثار المنقولة عن السلف فمن بعدهم في هذا الباب -باب ذكر الموت وقصر الأمل- ما جاء عن بعضهم حينما مر بقبر عبد الله بن المبارك، الإمام المعروف، العالم المحدث، الزاهد الفقيه، قال:

مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظًا وليس بناطقِ
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنيًا وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلاً إذا هي جاءت من رجال الحقائق[1]

يقول: عندي من العلم والمعرفة والاطلاع والنظر، ولكن حينما مررت بقبره كان لذلك موعظة؛ لأنه رجل يعمل بعلمه، وله مقامات معروفة في أبواب كثيرة من العبادات، والإنفاق، وبذل العلم، والإحسان إلى الخلق، وما أشبه ذلك، فلما رأى قبره تذكر هذه المعاني، فكان ذلك واعظًا له.

والفضيل بن عياض -رحمه الله- يقول: "لو قلت: إنك تخاف الموت ما قبلت منك، لو خفت الموت ما نفعك طعام ولا شراب، ولا شيء"[2]، يعني: لو خفته على وجه الحقيقة، ولكن عندنا طول الأمل، يضعف أثر ذلك.

يقول: "ما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته إذًا لطاش عقلي، ولم أنتفع بشيء"[3] يقول: لو كشف عنا الحجاب عن الموت وما بعده لما انتفعنا بطعام ولا شراب، ولم نهنأ بعيش.

وجلس بعضهم عند الفضيل بن عياش فقالوا له: كم بلغت سنك؟ فقال:

بلغت الثمانين أو جزتها فما أؤمل أو أنتظر؟
علتني السنون فأبلينني فدق العظام وكل البصر[4]

وأنشد أيضًا أبو مسهر:

هبك عُمِّرت مثل ما عاش نوح ثم لاقيت كل ذاك يسارا
فهل من الموت لا أبا لك بد أي حي إلى سوى الموت صارا[5]

يقول: مهما بقيت، ومهما عُمِّرت، ماذا ستكون النهاية؟ لا بد من الموت، فإنه ملاقيكم.

وهذا أمير البصرة أحمد بن محمد الواثقي، يروي عن أبيه قال: "كنت أُمرِّض الواثق" وأبوه من وزراء الواثق، والواثق هو الخليفة العباسي من كبار خلفاء بني العباس، في أيام قوة دولتهم، وهذه فيها عبرة عجيبة، يقول: "فلحقته غشية" أغمي عليه في مرض الموت "فما شككنا أنه مات، فقال بعضنا لبعض: تقدموا" يعني: من أجل أن ينظروا هل مات فعلاً، يقول: "فما جسر أحد سواي" مع أنه الآن في النزع، وفي مرض الموت، ومع ذلك كانوا يهابونه، ولا يجترئ أحد أن يقترب منه، يقول: "فما أن أردت أن أضع يدي على أنفه، فتح عينيه، فرعبت، ورجعت إلى الخلف، فتعلقت قبيعة سيفي بالعتبة، فعثرت، واندق السيف" انكسر السيف "وكاد أن يجرحني، واستدعيت سفيان، وجئت، فوقفت ساعة، فتلف الرجل" مات "فشددت لحييه وغمضته وسجيته، وأخذ الفراشون ما تحته ليردوه إلى الخزائن، وترك وحده، فقال ابن أبي دؤاد -وابن أبي دؤاد هذا معروف، فهو رئيس القضاة في عهد الواثق والمأمون، وهو شيخ المعتزلة-: "إنا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة، فاحفظه" يعني: خليك عند الباب، حتى ننهي فقط إجراءات البيعة سريعًا، ثم بعد ذلك نخرجه، ويغسل ويجهز، ويصلى عليه، يقول: "فرددت باب المجلس، وجلست عند الباب، فحسست بعد ساعة بحركة، أفزعتني" فهذا ميت، وليس في الغرفة أحد، يقول: "فخفت، فدخلت، فإذا بجرذون، قد استل عين الواثق، فأكلها، فقلت: لا إله إلا الله، هذه العين التي فتحها من ساعة، فاندق سيفي هيبة لها[6]؛ لما نظر إليه، وهذا رجل متعود على الدخول على الخلفاء، قد يكون الإنسان في أول مرة فيهاب، لكن الذي دائمًا يجالسه، ومع ذلك خاف هذا الخوف، وهذا في مرض الموت، فمن مجرد نظرة عثر وسقط، وانكسر سيفه، يأتي هذا المخلوق الضعيف فأر ويستل عينه، ويأكلها، ولا يستطيع أن يدفعه بأصبعه، فهذا يظهر ضعف الإنسان، وعجزه، ونهايته، فلا يتعدى الإنسان طوره.

يقول المروذي: كان أبو عبد الله -يعني الإمام أحمد- إذا ذكر الموت خنقته العبرة[7].

وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان عليّ كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، ما  أعدل بالفقر شيئًا، ولو وجدت السبيل لخرجت، حتى  لا يكون لي ذكر[8].

يعني: أخرج إلى مكان لا يعرفني أحد، يقول: طعام دون طعام، ولباس دون لباس، يعني الدنيا عابرة كما نقول نحن، فالذي رصيده خمسين ريال، والذي رصيده عشرة مليارات، كلهم يموت، لباس دون لباس وطعام دون طعام، هذا يأكل خبزة، وهذا يأكل كعكعة، لكنه في النهاية طعام دون طعام، ولباس دون لباس، ففي النهاية شيء يملأ ويسد الجوع، وتمضي على الجميع.

ولو تأمل الإنسان هي هكذا مركب دون مركب، ومسكن دون مسكن، لكن العبرة بدار البقاء الأبدي السرمدي، أما هذه الفترة البسيطة عشرين، سبعين، إلى آخره، فهي كما قال الله : أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد: 20].

ويقول بعضهم:

إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفاع مقدور أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يبري مثله فيما مضى
هلك المداوي والمداوى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى[9]

 

الآن قبل مائة سنة أين الأطباء؟ وأين الصيادلة؟ كلهم ماتوا، وأين المرضى الذين كانوا يترددون عليهم؟ فالكل مضى.

ويقول الحسن بن عبد العزيز: من لم يردعه القرآن والموت ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع[10]، يعني: لا يعظه القرآن، ولا الموت حينما يرى الناس يموتون، فهذا لو رأى الجبال تناطحت ما تؤثر فيه، يعني ليس فيه واعظ، وليس فيه حيلة.

وهذا آخر يقول:

سوأة لشيخ قديم ملك الحرص والضراعة قلبه
فهو كالقفر في المعيشة يبسًا وأمانيه بعد التسعين رطبه[11]

يقول: ناشف، الجلد على العظم، ما فيه شيء، خلاص بعد هذا العمر المديد، ولكن الأماني لا زالت غضة، والأمل طويل، ولو كانت سن الإنسان قد تقادمت.

وهذا آخر يقول:

ترى المرء يهوى أن تطول حياته وطول البقاء ما ليس يشفي له صدرا
ولو كان في طول البقاء صلاحنا إذن لم يكن إبليس أطولنا عمرا[12]

طبعًا هذا الكلام ليس على إطلاقه؛ لأن النبي ﷺ قد سئل: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله[13]، فالإنسان لا يطلب طول البقاء، وطول العمر من أجل البقاء فقط، ليأكل من اللذات والشهوات إلى آخره، وإنما من أجل الاستزادة من العمل الصالح، وإلا فإن الإنسان كلما يتقدم به السن بعد الأربعين تبدأ شهواته بالتناقص، ولذاته تنقص، وتبدأ الأتعاب وأعراض الضعف شيئًا فشيئًا، نعم تتقسط عليه، حتى تجتمع بعد ذلك، فلا يستطيع القيام، ولا القعود، والمرأة التي معجبة بجمالها وشبابها في غاية الزهو، تتحول تلك الأدراج المليئة بالعطور إلى أدوية، وفكس، وقطرات، ومراهم، أليس هذا هو الواقع؟

فالإنسان لا يغتر، يطلب الدنيا، ويعمر هذه الحياة، هذا مطلوب، ولكن لا تدخل الدنيا القلب، فتفسده، فيوالي عليها، ويقاطع عليها، ويحسب أنها نهاية المطاف.

وهذا آخر يقول:

من أعطى الأماني نفسه قطعتها بالتسويف وبالتواني[14]

أي: الذي يعيش على الأماني، وإن شاء الله لما أتفرغ من كذا أحفظ القرآن، وإذا انتهيت من كذا سأحضر إن شاء الله مجالس العلم، وإذا تزوجت سأعمل، أو إذا بلغت الأربعين سأعمل كذا، وسأعتمر وسأحج وكذا، ثم يمضي العمر وما عمل شيئًا، وينظر الإنسان السنوات التي مضت عليه، مضت عشر سنوات ماذا أنجز فيها من الإنجازات التي تنفعه في آخرته؟ وبقية العمر يذهب بهذه الطريقة.

سهام الشيب نافذة مصيبه وسابقة الملمة والمصيبه
ومن نزل المشيب بعارضيه قد استوفى من الدنيا نصيبه[15]

وآخر يقول:

وما شنآن الشيب من أجل لونه ولكنه حادٍ إلى البين مسرع[16]

الحادي: الذي يحدو، يعني: ينشد للإبل، بصوت جميل، بحيث أنها تسرع في المشي.

فيقول: الشيب حادٍ، ما هو من أجل لونه، وإنما هو حادٍ يحدو بالإنسان -يسرع به- إلى منيته، وعلامة تلوح وتدل على قرب على النهاية.

يقول:

إذا ما بدت منه طليعة آذنت بأن المنايا خلفها تتطلع[17]

المنايا تتطلع وراء هذا الشيب الذي يلوح.

فإن قصها المقراض صاحت بأختها فتظهر تتلوها ثلاث وأربع[18]

إذا جاء بالمقراض وقص الشيب الذي طلع، بدلها أربع، وليس واحدة.

وإن خضبت حال الخضاب لأنه يغالب صبغ الله والله أصبغ[19]

حال الخضاب يعني: تغير، فهو يصبغ وبعدين يطلع الشيب تحته أبيض، شيئًا فشيئًا، كما نشاهد.

إذا ما بلغت الأربعين فقل لمن يودك فيما تشتهيه وتسرع
هلم لنبكي قبل فرقة بيننا فما بعدها عيش لذيذ ومجمع
وخل التصابي والخلاعة والهوى وأم طريق الخير فالخير أنفع[20]

على كل حال بقي أشياء، ولا أريد أن أطيل عليكم

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/419).
  2. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/432).
  3. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/432).
  4. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/442).
  5. المجالسة وجواهر العلم (7/137) وتاريخ دمشق لابن عساكر (33/441) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/233).
  6. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/313- 314).
  7. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/215).
  8. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/215 -216).
  9. الأبيات لابن الرومي في التذكرة الحمدونية (9/255).
  10. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (12/334).
  11. ميزان الاعتدال (1/443).
  12. البيتان لأبي الحسين عبد الله بن محمد السمناني في سير أعلام النبلاء ط الرسالة (14/195).
  13. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن برقم (2329) وصححه الألباني.
  14. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (16/321).
  15. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (17/516).
  16. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (18/615).
  17. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (18/615).
  18. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (18/615).
  19. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (18/615).
  20. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (18/615).

مواد ذات صلة