الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب استحباب العزلة عند فساد الناس (1-2)
تاريخ النشر: ١٠ / ربيع الآخر / ١٤٣٠
التحميل: 1875
مرات الإستماع: 5281

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:  

ففي باب (استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان، أو الخوف من فتنة في الدين، ووقوع في حرام وشبهات ونحوها) نورد ما جاء عن السلف من الأقوال، والمواقف، والأفعال إزاء ذلك، وما كان عليه حالهم عند وقوع الفتن، فقد وقعت فتن في أواخر عهد الصحابة ، ووقعت فتن بعد ذلك، فهذا عبد الله بن عامر قال: لما طعنوا على عثمان صلى أبي في الليل ودعا فقال: "اللهم قِني من الفتنة بما وقيت به الصالحين من عبادك، فما أُخرج ولا أَصبح إلا بجنازته"[1].

وأما ابن عمر -وهو ممن اعتزل الفتنة كما هو معلوم- فقد قال مقالة توضح الموقف الصحيح إزاء الفتن، يقول: "إنما مثلنا في هذه الفتنة -يعني التي وقعت بين علي ومعاوية -رضي الله عن الجميع- كمثل قوم يسيرون على جادة يعرفونها، فبينا هم كذلك إذا غشيتهم سحابة وظلمة، فأخذ بعضهم يمينًا وشمالًا، فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك -لما جاءت وهم في الطريق وقفوا في أماكنهم حتى انجلت، حتى جلّى الله ذلك عنا، فأبصرنا طريقنا الأول فعرفناه، فأخذنا فيه، إنما هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على السلطان، وعلى هذه الدنيا، ما أبالي أن لا يكون لي ما يقتل عليه بعضهم بعضاً بنعلي هاتين الجَرْداوين"[2]، نعل ليس لها شعر، يقول: هذا المُلك الذي يقتتلون عليه لا يساوي عندي نعلين جَرْداوين .

وكان مسروق بن الأجدع من التابعين إذا قيل له: أبطأت عن عليٍّ، وعن مشاهده، يعني لماذا لم تنصره؟! فيقول: "أرأيتم لو أنه حين صُفّ بعضكم لبعض فنزل بينكم ملك فقال: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، أكان ذلك حاجزًا لكم؟ قالوا: نعم، قال: فوالله لقد نزل بها ملك كريم، على لسان نبيكم، وإنها لمحكمة ما نسخها شيء"[3].

ولبث شريح في فتنة ابن الزبير وكان السلف يسمونها بذلك، ابن الزبير -، ملَكَ الحجازَ مكة والمدينة، والعراقين الكوفة والبصرة، ولم توجد بغداد آنذاك، وملك المشرق خرسان وما والاها، ولم يبق إلا الشام، فوقعت بينه وبين عبد الملك بن مروان حروب معروفة، فأبطأ شريح في هذه الفتنة، فتنة ابن الزبير وبقي تسع سنين لا يحدث، لا يخبر، لا يتكلم عنها أصلاً، فقيل له: قد سلمتَ، قال: كيف بالهوى؟! يعني هو الآن لا يتحدث عنها، ويقولون له: أنت سلمتَ منها ما اشتركت فيها، فيقول: كيف بالهوى؟ الميل، ميل النفس، فيخاف من ذلك، ولا يتحدث[4].

وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لما سئل عما وقع بين الصحابة ؟ فقال: "تلك دماء طهر الله منها أيدينا، فلنطهر ألسنتنا"[5].

وقيل ليزيد بن الشخير: "ما كان مطرف بن عبد الله يصنع إذا هاج الناس؟، إذا حصلت فتنة؟، قال: يلزم قعر بيته ولا يقرب لهم جمعة ولا جماعة حتى تنجلي"[6]، وكان مطرف يقول: "لأنْ آخذ بالثقة في القعود أحبُّ إليّ من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير"[7].

 لأنْ آخذ بالثقة في القعود: أجلس، ويقال: إنه قعد أو لم ينصر فلانًا، أو نحو ذلك أحبُّ إليّ من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير، التغرير يعني أن يغرر بنفسه في أمر لم تتضح معالمه.

ولذلك كان بعض السلف إذا دعاه الخوارج مثلًا أن ينصرهم وأن يخرج معهم، وكان في ذلك الوقت لربما أُخرج الرجل بالقوة، فكان يقول: لو كان لي نفسان، فتخرج واحدة، ثم أنظر ما يقع هل لقيت نعيماً وحضوراً وفوزاً، ثم أستدرك بالثانية، إنما هي نفس واحدة، إذا فاتت فاتت[8]، ولهذا فإن الإنسان لا يقدم على أمر لم يتضح له تمامًا وينجلي، لاسيما إذا كان يخالفه عليه جميع أهل العلم، أو عامة أهل العلم، فأبواب الجنة كثيرة يستطيع الإنسان أن يلج من باب التطوع في الصلوات، أو باب التطوع في الصيام، أو باب الصدقات، أو الأعمال الخيرية، والبر والمعروف، وإيصال المنافع، والحاجات لأهلها من الفقراء والمعوزين، وما إلى ذلك، ولا يدخل في أمر قد يُكب بسببه على  وجهه في النار، فهي نفس واحدة، فلا يقدم الإنسان إلا على مثل الشمس.

ويقول أبو العالية: "لما كان زمان عليٍّ ومعاوية، وإني لشابٌّ القتالُ أحبُّ إليّ من الطعام الطيب، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم، فإذا صفان ما يُرى طرفاهما، إذا كبر هؤلاء كبر هؤلاء، وإذا هلل هؤلاء، هلل هؤلاء، فراجعت نفسي فقلت: أي الفريقين أُنزله كافرًا؟ ومن أكرهني على هذا؟ قال: فما أمسيت حتى رجعت وتركتهم"[9]، لم يتبع هوى النفس، فنفسه كانت تميل إلى القتال وتحبه، وهو أحب إليه من الطعام الطيب، ولكن لما كان هذا الأمر لم يتضح له وجهه فإن الواجب متعين على الإنسان أن يتبعد، وينأى بنفسه، وأن يكون حِلْس بيته، ويبتعد عن الفتن ومواطنها.

هذه بين الصحابة فماذا يقول فيمن بعدهم؟ وكل زمان لهم فتنة تصلح لمثلهم، في كل زمان، لكن هذا طريق، ومنهج في الفتن أن يبتعد الإنسان عنها، لا تدخل في طريق يخالفك فيه أهل العلم، هذا الشعبي يقول: ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، ولهذا يقول الله -: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] فيحصل الضعف، وانظر إلى حالنا اليوم، التفرق والاختلاف، وصارت الأمة على طوائف يضلل بعضها بعضًا، وصاروا إلى حال من التناحر والتشرذم، ولم يسلم من ذلك حتى طلبة العلم، حتى الدعاة إلى الله -، وبهذه الحال يظهر أهل الباطل، وخذ مثالًا من ظهور اليهود على المسلمين في هذا الوقت، فهذه أمة واسعة ممتدة من المحيط إلى حدود الصين يظهر عليهم حفنة من إخوان القردة والخنازير لا يتجاوزون خمسة، ملايين أجبن الناس، وأذل الناس، وأخس الناس، وأحط الناس، يظهرون عليهم ويلعبون بمصالحهم ومقدراتهم ويضحكون على تناقضاتهم، واختلافاتهم، وتنازعاتهم، فهذا أمر في غاية العجب، لكنه مصداق لما أخبر الله به: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وقل مثل ذلك حينما يحصل الخلاف بين أهل الإيمان، ويتبادلون التهم، وما إلى ذلك، يظهر عليهم أهل الباطل من الليبراليين والعلمانيين، ويشتمون بهم ويقعون في أعراضهم، ويقولون عنهم كل قبيح في الصحف، وفي أعمدتهم، ونواديهم، كل ذلك بسبب تفرقنا وتناحرنا، وإلا لم يجرءوا على هذا.

ويقول خالد بن سُمير: لما ظهر المختار الكذاب بالكوفة، المختار هذا الثقفي، والنبي ﷺ أخبر أنه يخرج من ثقيف مُبِير وكذاب[10]، المُبِير هذا الحجاج، والكذاب المختار، المختار هذا كان من قادة ابن الزبير، كان قائداً كبيراً، ثم بعد ذلك انقلب عليهم، ثم ادعى التشيع، ثم بعد ذلك ادعى أنه يوحى إليه -قبحه الله، وكان يخبر عن أمور غيبية، فإذا ما وقعت قال: "قد بدا لله[11]، يعني أن الله غير رأيه، بدا لله، ولهذا إذا ذكر في أصول الفقه مسألة القول بالبداء في النسخ، الذين يقولون به: اليهود، وهؤلاء: المختار والرافضة، فالشاهد أن الرجل هذا الكذاب لما ظهر بالكوفة هرب منه ناس فقدموا البصرة، فكان منهم    موسى بن طلحة، وكان في زمانه يرون أنه المهدي، يقول: فغشيناه، فإذا هو رجل طويل السكوت، شديد الكآبة والحزن -هذا موسى بن طلحة- إلى أن رفع رأسه يوماً فقال: والله، لو أعلم أنها فتنة لها انقضاء أحبّ إليّ من كذا وكذا، فقال رجل: يا أبا محمد، وما الذي ترهب أن يكون أعظم من الفتنة؟ قال: الهَرْج، قالوا: وما الهَرْج؟ قال: "كان أصحاب رسول الله ﷺ يحدثونا: القتل القتل حتى تقوم الساعة وهم على ذلك"[12].

وهذا عروة بن الزبير من كبار التابعين، وأئمتهم، ذُكر في ترجمته أنه رجل -كما قال أحمد بن عبد الله العجلي- صالح لم يدخل في شيء من الفتن[13]، هذه منقبة ومزية.

وذكر في ترجمة ابن مُحيريز -رحمه الله- أنه كان صموتًا معتزلاً في بيته[14].

ويقول أبو قلابة: قال لي مسلم بن يسار: إني أحمد الله إليك أني لم أرمِ بسهم، ولم أضرب فيها بسيف، يقول: الفتنة التي وقعت بين الصحابة بين علي وبين معاوية لا رميت بسهم ولا ضربت بسيف، فقال له أبو قلابة: فكيف بمن رآك بين الصفين؟ لأن مسلم بن يسار حضر -شهد- لكن يقول: أنا لم أشارك، فقال أبو قلابة: كيف بمن رآك بين الصفين؟، فقال: هذا مسلم بن يسار لن يقاتل إلا على حق، يعني رآك وما علم أنك ما ضربت لكن غررت به، فاقتدى بك فقاتل حتى قتل، فبكى مسلم بن يسار، يقول أبو قلابة: "حتى وددت أن الأرض انشقت فدخلت فيها"[15]، من شدة البكاء الذي بكاه مسلم بن يسار مع أنه لم يقاتل .

ويُذكر أن أيوب السختياني -وهو من أجلاء التابعين، ومن أبعدهم عن الظهور والشهرة والمعرفة- كان يدخل في أزقة -كما قال بعض من رآه، يتعجبون كيف يهتدي لها؟ كيف يعرفها؟ وكان إذا مر بقوم فسلم فردوا جميعاً كان يحزن وينقبض ويسترجع، وإذا سئل عن هذا قال: "ما ردوا هذا الرد إلا أنهم قد عرفوني"، يقول: صرت معروفًا هذه مصيبة الآن، ولم يكن يسمح لأحد أن يمشى معه.

يقول أيوب السختياني: "وفي القُرّاء، القُرّاء يعني طلبة العلم، العلماء الذين خرجوا مع ابن الأشعث، وابن الأشعث هذا رجل اجتمع حوله مجموعة كبيرة من القراء من العلماء، وخرجوا بقيادته على الحجاج، انتصروا بعض الانتصارات في أول الأمر، ثم بعد ذلك هزموا، وقتل ابن الأشعث، وقتل مجموعة من القراء، ومن غيرهم، واختفى من اختفى، وبدأ الحجاج يطلبهم ويبحث عنهم في كل مكان، فيقول أيوب السختياني: "وفي القُرّاء الذين خرجوا مع ابن الأشعث لا أعلم أحداً منهم قُتل إلا رُغِب له عن مصرعه"[16]، يعني يقول: الذين قتلوا من هؤلاء القراء الذين بقوا من أهل العلم ما من أحد من هؤلاء القراء قتل إلا رُغِب له عن مصرعه، قيل: ليته ما مات في هذا، ليته سلم من هذه المشكلة والفتنة، "أو نجا إلا ندم على ما كان منه"، يعني من نجا وسلم تأسف وندم على ما جرى ومشاركته، والذين ماتوا من بقي حيًّا كان يقول: ليته ما دخل في هذا، مع أنهم خرجوا على الحجاج الذي كان لا يرقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة، ومع ذلك ندموا، والأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن الفتن لا يعرف ما فيها إلا إذا أدبرت[17]، وأهل العلم ومن له بصيرة يعرفون الفتن إذا لوحت وأقبلت، وأما غيرهم فإنهم يعرفونها إذا أدبرت، ويوجد من خلق الله من لا يعرفها لا إذا أقبلت ولا إذا أدبرت، يرددها ومتمسك بها لربما قرونًا، كما هو مشاهد، والله المستعان.

  1. سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي (2/ 335).
  2. المصدر السابق (4/ 321).
  3. انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (6/140)، وسير أعلام النبلاء (5/ 27).
  4. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (23/ 44)، وسير أعلام النبلاء (5/ 52).
  5. انظر: التدوين في أخبار قزوين (3/ 335)، وبغية الطلب فى تاريخ حلب (1/ 306).
  6. سير أعلام النبلاء (5/ 107).
  7. المصدر السابق.
  8. انظر: المعرفة والتاريخ (1/ 588)، وسير أعلام النبلاء (5/ 109).
  9. انظر: الطبقات الكبرى (7/ 81)، وسير أعلام النبلاء (5/ 119).
  10. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها، برقم (2545).
  11. انظر: تفسير العياشي (2/ 218)، وبحار الأنوار، للمجلسي (4/ 214).
  12. انظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر (60/ 431)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (29/85)، وسير أعلام النبلاء (5/ 214).
  13. انظر: الثقات للعجلي (ص: 331)، والبداية والنهاية، لابن كثير (9/ 101)، وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 436).
  14. سير أعلام النبلاء (4/ 496).
  15. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (58/ 147)، وسير أعلام النبلاء (4/ 513).
  16. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (58/ 146)، وسير أعلام النبلاء (4/ 513).
  17.  منهاج السنة النبوية (4/ 409).

مواد ذات صلة