الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
‏(43)‏‎ ‎أذكار الاستيقاظ من النوم الحديث الثاني حديث الذي تعار من الليل
تاريخ النشر: ١١ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 3459
مرات الإستماع: 3958

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: الحديث الثاني من الأحاديث التي أوردها المؤلفُ مما يُقال عند الاستيقاظ: هو قوله ﷺ: مَن تعارَّ من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم، ربِّ اغفر لي مَن قال ذلك غُفِرَ له، فإن دعا استُجيب له، فإن قام فتوضأ ثم صلَّى قُبِلَتْ صلاتُه[1]. أخرجه البخاري -رحمه الله-.

وهذا اللَّفظ الذي أورده المؤلفُ هو لفظ ابن ماجه، وذلك أنَّ فيه زيادات ليست في لفظ البخاري.

وهنا النبي ﷺ يقول: مَن تعارّ من الليل فقال حين يستيقظ، سيأتي إيضاحُ ذلك وبيانُ المراد به، وهل هذا يكون من أدعية الاستيقاظ، أو مما يُقال حال التَّنبُّه حينما يكون الإنسانُ في حال النَّوم؟

فقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وفي روايةٍ: يُحيي ويُميتُ بهذه الزِّيادة: وهو على كل شيءٍ قدير، هنا: سبحان الله، والحمد لله، وعند البخاري: الحمد لله، وسبحان الله، وهذا فيما يبدو من تصرُّف بعض الرُّواة.

وقوله: ولا إله إلا الله هذه ليست عند البخاري إلا في بعض النُّسخ، في بعض روايات "الصَّحيح"، ولكنَّها عند ابن ماجه وغيره، فهي ثابتة.

لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم، العلي العظيم هذه ليست عند البخاري، وإنما عند النَّسائي[2]، وابن ماجه[3].

ربِّ اغفر لي، فهنا مَن قال ذلك غُفر له: فإن دعا استُجيب له، فإن قام فتوضّأ ثم صلَّى قُبِلَتْ صلاته.

هذه الاختلافات في الألفاظ يستدلّ بها مَن قال بأنَّه يجوز تبديل لفظةٍ بلفظةٍ في الأذكار الواردة، وسبق الكلامُ على هذا، وما جاء عن النبي ﷺ في الحديث: آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ، فقال الصَّحابي: وبرسولك الذي أرسلتَ. فالنبي ﷺ أعادها عليه: وبنبيِّك الذي أرسلتَ[4]، فهنا إبدال لفظةٍ بلفظةٍ، مع أنَّ الرسولَ أبلغ وأتمّ في المعنى من النبي، ومع ذلك أعاد عليه النبيُّ ﷺ ليقولها ثانيةً كما سمعها: "ونبيّك"، فيُفهم منه أنَّه لا يُبدل شيءٌ من الألفاظ، وسيأتي إيضاحٌ لهذه القضية أيضًا لهذه المناسبة، لكن هنا إذا جاء في الحديث زيادات مثل: لا إله إلا الله هنا فإنَّه يمكن القول بأنَّ الأفضل أن يُؤخذ بأوفى الرِّوايات، إذا كانت هذه الزِّيادات ثابتةً وصحيحةً نأخذ بالأتمّ والأكمل.

هذا الحديث -حديث عُبادة- حديثٌ عظيمٌ، شريفُ القدر، من أَجَلِّ الأحاديث؛ ففيه ما وعد الله -تبارك وتعالى- عبادَه على التَّيقُّظ من نومهم حال كون ألسنتهم لاهجةً بذكره -تبارك وتعالى-، تلهج بكلمة التَّوحيد: لا إله إلا الله، تلهج لله -تبارك وتعالى- بالتَّسبيح، والتَّحميد، والتَّكبير، والتَّهليل، فهي ذاكرةٌ لربها وخالقها ، هذه الألسن وما وراءها من النفوس التي تفطَّنت لهذا حال الاستيقاظ من النوم.

والإنسان يُغالب فيه ما يُغالب، ويُكابد فيه ما يُكابد، ولا يكون في حالٍ من تمام اليقظة، ومع ذلك يُسارع إلى الإعلان بالشَّهادة بالتَّوحيد، وتكبير المعبود وتسبيحه وحمده -تبارك وتعالى-، هذا لا شكَّ أنَّه يدل على قلبٍ يقظٍ، ولسانٍ ذاكرٍ، فهو يُعلن الإذعان لله -تبارك وتعالى- بالملك، والاعتراف له بالحمد -كما يقول الشُّرَّاح-، يحمده على جزيل النِّعَم التي لا تُحصى.

مَن كان بهذه المثابة فإنَّ هؤلاء تكون ألسنتُهم رطبةً بذكر الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّهم إن كانوا يذكرونه في هذه الحال، فهم في حال النَّشاط واليقظة التَّامَّة يكونون أعظم ذكرًا له .

فهم يُضيفون إليه القُدرة التَّامة، والملك الكامل، وقلوبهم في حالٍ من الاطمئنان بتوحيده، وعبادته، وذكره، وتسبيحه، وتنزيهه عمَّا لا يليق بجلاله وعظمته، يُنزِّهونه عن أوصاف النَّقص، يسلمون بالعجز عن نيل شيءٍ إلا به -تبارك وتعالى-.

والله -تبارك وتعالى- وعد بإجابة دعاء مَن بهذا دعاه، مَن كان بهذه المثابة من عباده، وأن يقبل صلاتَه إذا صلَّى، والله لا يُخلف الميعاد، فهو الكريم، الجواد، الوهاب.

فينبغي لكل مؤمنٍ كما يقول شُرَّاحُ الحديث كابن بطَّال -رحمه الله-[5]: أنَّ مَن بلغه هذا الحديث ينبغي أن يغتنم العمل به، وأن يُخلص نيَّته لربِّه أن يرزقه حظًّا من قيام الليل؛ لأنَّ هذا تنبّه تعارَّ من الليل، فحينما يقوم يُصلي من الليل، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- يرزقه الإعانة والتَّسديد، فإنَّه لا عونَ إلا به، وأن يسأل فِكاكَ رقبته من النار؛ لأنَّه حينما يدعو يُستجاب له هذا الدُّعاء، وأن يُوفِّقه لعمل الأبرار، وأن يتوفَّاه على الإسلام، كما كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يسألون ربَّهم -تبارك وتعالى- ذلك، وهم خيرة الخلق، هم صفوة الناس.

فمَن رزقه الله حظًّا من قيام الليل فليُكثر من شُكره على ذلك، وليسأل ربَّه أن يُديم عليه هذه النِّعمة، وأن يختم له بالفوز في العاقبة، وأن يُحسن له الختام.

فهذا إذا سمعه المؤمنُ أقبلت نفسُه وتنشّطت لمثل هذه المقامات والأحوال التي تكون لهؤلاء من الذاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات.

الإمام البخاري -رحمه الله- ذكر هذا الحديثَ تحت باب: فضل مَن تعارّ من الليل، النبي ﷺ يقول: مَن تعارَّ من الليل، ما معنى: تعارَّ من الليل؟

هذه اللَّفظة "تعارّ" تُقال للسَّهر والتَّمطِّي والتَّقلُّب على الفراش ليلاً مع الكلام، التَّقلب مع الكلام؛ ولهذا فسَّرها أكثرُ أهل العلم باليقظة مع صوتٍ، يعني: وهو نائمٌ تنبَّه حال نومه فتحرَّك مع صوتٍ يصدر منه، يعني: الإنسان عادةً إذا تحرَّك لربما يمدّ صوتَه بأنَّةٍ، أو بهاءٍ ممدودةٍ، أو نحو ذلك مما يدل على ضعفٍ وارتخاءٍ وعجزٍ، وما إلى ذلك مما يكون عليه النَّائم حينما تحصل له يقظة، حينما تحصل له يقظة فإنَّ الإنسان في هذه الحال يُبادر إلى النّوم من جديدٍ؛ أي: يرجع إلى النّوم من جديدٍ، وكثيرٌ من الناس لربما تحصل له أنَّة، كما فُسّر هنا: يقظة مع صوتٍ. وهذه المعاني مُتقاربة على كل حالٍ.

أغاض الطَّير: هو صوته الظَّليم، ذكر النَّعام يُصدر صوتًا يُقال له ذلك، فهذا يدل على صوتٍ في حال التَّيقظ، يتحرَّك –يعني-، كما نقول: تنبّه حال النوم، حصلت له انتباهة، حصلت له يقظة حال النوم فانقلب، فتحرَّك، غيَّر نومته، غيَّر هيئته في نومه، نام على جنبٍ آخر، أو نحو ذلك، وصدر مع هذا صوتٌ، هذا الصّوت يصدر عادةً في مثل هذه الحال، يدل على أنَّ الإنسان لا زال يُغالب النوم، ولا زال في سكرات من هذا النوم.

ومعلومٌ أنَّ النومَ موتةٌ صُغرى، أنَّه وفاةٌ صغرى، مثل هذا الإنسان لربما يكون في حالٍ من الذهول لا يعي فيها كلَّ الوعي، في هذه الحال يتذكّر الذكر، هذا يدل على ماذا؟

يدل على قلبٍ يَقِظٍ، هذا الإنسان قلبه حيٌّ؛ ولهذا قال الشُّراحُ بأنَّ قوله هنا حينما عطف القولَ على التَّعارّ فقال: هذا الذي يُصوت عادةً بأنين أو نحو ذلك من أصواتٍ تصدر منه تدل على تَراخٍ وعجزٍ وضعفٍ وما إلى ذلك، عادةً يصدر منه صوتٌ بغير الذكر، لكن هذا صدر منه ذكرُ الله -تبارك وتعالى- وهو في هذه الحال؛ ولهذا قالوا بأنَّه عطف القول على التَّعارّ هنا، لاحظ: تعارّ من الليل فقال، فصار هذا الصوت الذي أصدره هو الذكر نفسه.

ويحتمل أن تكون الفاءُ تفسيرية لما صوت به المستيقظُ بهذا الاعتبار فقال، فهذا هو التَّعارّ: تيقظٌ مع صوتٍ، حركةٌ للنَّائم مع صوتٍ، فيكون هذا الصّوتُ هو قوله كما جاء في هذا الحديث –يعني: الذكر-، فهنا خصَّ الفضلَ المذكورَ بمَن صوَّت بما ذُكر من ذكر الله -تبارك وتعالى-.

فبعض الشُّراح يقولون: هذا هو السّر في اختيار لفظ "تعارّ" دون استيقظ أو انتبه؛ لأنَّ هذا الذي يتعارّ يُصدر صوتًا حينما يتيقّظ، فصوت هذا الذاكر هو ذكر الله -تبارك وتعالى- بما جاء في هذا الحديث، وهذا لا يتّفق إلا لمن تعوّد على الذكر، وصار سجيَّةً له، واستأنس به، وغلب عليه حتى صار حديث نفسه في نومه ويقظته، فمثل هذا أكرم بإجابة دعوته، وقبول صلاته إذا صلَّى.

وهذا فيه عِبرٌ في حال المغالبة، يعني: مما أذكر مما قرأتُه قديمًا في أخبار المجانين: أنَّ أحد الوزراء زار مستشفى للمجانين، فكان هذا يخبط، وهذا يقوم، وهذا يقعد، وهذا يضرب برأسه في الجدار، ونحو ذلك، إلا واحدًا كان في غاية الصَّمت، لا يتكلم، ولا يتحرك، فهذا الوزير أخذ جولةً على هؤلاء ورأى ما بهم من الأحوال: هذا يسقط، وهذا يقوم، وهذا يدور، إلا هذا، وهو في غاية الصَّمت، فلمَّا همَّ بالخروج هذا الوزير -انتهت الجولة- قال: عندي سؤال؟ قال: تفضّل اسأل. قال: متى يجد النَّائمُ لذَّةَ النوم؟ فقال الوزير: إذا أراد أن ينام. قال: وكيف يجد لذَّةَ شيءٍ لم يدخل فيه؟! قال: فإذا استيقظ. قال: كيف يجد لذَّته وقد فارقه؟! قال: فأجبني أنت. قال: حينما يحصل له انتباهه، يقوم لحاجةٍ ثم يرجع. يعني: ما كمَّل النّوم. فقال: لا كلَّمتُ مجنونًا بعدك. يعني بهذا الذَّكاء[6] وبهذا الحذق والمعرفة والبصر.

عجز هذا الوزيرُ أن يُجيب بمثل هذا الجواب، وهذا الجواب وجيهٌ كما ترون؛ حينما يقوم الإنسانُ يحصل له انتباهه، ثم يريد أن يرجع: يردّ على التليفون، يردّ على الجرس، ويريد أن يُسرع قدر ما يستطيع ليرجع لفراشه لينام؛ لأنَّ هذا الهاتف قد قطع عليه هذا النوم ولذَّته وغمرته، فيُبادر إلى الرجوع.

هذا يذكر الله -تبارك وتعالى- بهذا الذكر المفصّل، هذا يدل على أنَّ هذا الإنسان أنَّ الذكرَ يجري على لسانه بمجرد ما يحصل له أدنى انتباهٍ، فكيف بالانتباهة الكاملة؟ فهذا أمرٌ عجيبٌ يستدعي الوقوفَ عنده، والتَّفكّر فيه.

انتهى الوقتُ، وبقيت للحديث بقيةٌ في التَّعليق على هذا الحديث، ولا يستكثر الكلام في ذلك؛ فإنَّ هذا الحديث قد تضمن كنزًا من الكنوز التي لطالما فرطنا فيها.

فنسأل الله أن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب التَّهجد، باب فضل مَن تعارّ من الليل فصلَّى، برقم (1154).
  2. لم أقف عليه عند النَّسائي بهذا اللفظ.
  3. أخرجه ابن ماجه: أبواب الدُّعاء، باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل، برقم (3878).
  4. أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، باب فضل مَن بات على الوضوء، برقم (247)، وكتاب الدَّعوات، باب النوم على الشق الأيمن، برقم (6315)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2710).
  5. انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (3/ 148).
  6. انظر: "سير أعلام النبلاء" ط. الرسالة (10/ 204).

مواد ذات صلة