الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «لقد لقيت من قومك..»
تاريخ النشر: ٢٥ / رجب / ١٤٣٠
التحميل: 1428
مرات الإستماع: 6878

لقد لقيت من قومك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "العفو والإعراض عن الجاهلين"أورد المصنف -رحمه الله- من:

حديث عائشة -رضى الله عنها- أنها قالت للنبي ﷺ: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال النبي  ﷺ: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا[1].

النبي ﷺ في يوم أحد وقع له ما وقع سقط في الحفرة، وشُج وجهه الشريف، سال الدم على وجهه ﷺ وكسرت رباعيته، وقتل من أصحابه من قتل، حيث بلغوا السبعين، ومُثِّل بعمه حمزة، كل ذلك لقيه في يوم أحد.

قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة... وليس المقصود بيوم العقبة: العقبة التي وقعت عندها البيعة الأولى، أو البيعة الثانية للأنصار ، وإنما هذه عقبة أخرى، وذلك في سفره ﷺ إلى الطائف، حينما قدم عليهم بعدما ماتت خديجة -رضى الله عنها- ومات أبو طالب، واجتمعت قريش على أذى رسول الله ﷺ وكان أبو طالب يدفع عنه ويحوطه ويحميه، وكانت خديجة تخفف عنه وتسليه وتواسيه، فماتت خديجة، ومات أبو طالب، وبقي النبي  ﷺ يتلقى الأذى منهم، فخرج إلى الطائف يعرض نفسه ﷺ ودعوته على أهل الطائف.

فقال: وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال وابن عبد يا ليل يقال: إن اسمه كنانة، وقيل: إن النبي ﷺ عرض نفسه على عبد يا ليل نفسه، وأهل السير والمغازي يقولون: إنهم ثلاثة إخوة: عبد يا ليل، وحبيب، ومسعود، وبعضهم يقول غير هذا.

الشاهد أن النبي ﷺ عرض نفسه عليهم، يقول: فلم يجبني إلى ما أردت، بل أغروا به ﷺ سفهاءهم وآذوه.

يقول: فانطلقت، وأنا مهموم على وجهي يعني: أنه أصابه من الحزن والكآبة والضيق، بسبب هذا الموقف، حيث ضاقت به الأرض بما رحبت، إلى أين يرجع؟ إلى أين يذهب؟ مكة، يعادونه ويؤذونه، وتسلطوا عليه غاية التسلط، ثم يأتي إلى هؤلاء ويؤذونه أشد الأذى، ثم يرجع منهم بعد ذلك، فإلى أين يتوجه؟.

يقول: فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب من شدة الهم الذي وقع له ﷺ، لم يعد يعي ويبصر طريقه ﷺ.

والإنسان إذا كثر عليه همٌ، أو حزن مفرط فإنه قد يمشي دون أن يشعر، وهذا شيء مشاهد، وقد سمعت من أناس مثل هذا، الواحد لشدة الهم يخرج لا يدري إلا وهو يجد نفسه في مكان بعيد، ولا يدري أن يتوجه.

يقول: فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، والمقصود بقرن الثعالب هو قرن المنازل، الميقات المعروف، ميقات أهل نجد الذي يمر عليه من أتى من الطائف.

يقول: فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم....

وملك الجبال هو الملك الموكل بها، ومعلوم أن الله أوكل الملائكة بوظائف وأعمال يقومون بها، فمنهم من هو موكل بالقطر، ومنهم من هو موكل بالنبات، ومنهم من هو موكل بالوحي، ومنهم من هو موكل بالجبال، ومنهم من هو موكل بقبض الأرواح، ومنهم من هو موكل بالجنة، ومنهم من موكل بالنار، إلى غير ذلك.

يقول: فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئتَ، إن شئتَ أطبقت عليهم الأخشبيْن....

والأخشبان هما الجبلان المحيطان بمكة، والأخشب هو الجبل الغليظ العظيم، يقال له: أخشب وبعضهم يقول: المقصود به جبل أبي قبيس المعروف الذي عند الصفا، والجبل الآخر يقابله، يقال له: الجبل الأحمر.

فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، متفق عليه.

فهذا في غاية المناسبة، أعني: إيراده في باب العفو والإعراض عن الجاهلين، فالنبي ﷺ كان في وقت شدة، وغم، وكرب، وجاءه في هذه الحال، يعني: ما جاء للنبي ﷺ في وقت انبساط وارتياح، وإنما جاءه في وقت الكرب، فقال له هذا الكلام.

فالنبي ﷺ رجا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً، وهذا فيه عبرة عظيمة، ودرس كبير للدعاة إلى الله ولغيرهم.

فإن الإنسان حينما تحتدم النفس، ويشتد الكرب، ويعظم الحزن فإنه قد يدعو بدعاء عظيم عريض على من خالفه، أو ظلمه، أو أساء إليه.

ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن من الناس من يُظلم، ثم هو يَظلم بعد ذلك فوق مظلمته، وذلك بالدعاء على هذا الظالم بأكثر مما يستحق.

فالمقصود أن الإنسان ينبغي له حتى في أوقات الشدة، وأوقات الكرب أن يتصرف بطريقة يتعقل فيها، بطريقة صحيحة، وإذا كان لا يملك ذلك، ولا يستطيع فإنه لا يتكلم بشيء حتى يجاوز هذه الحال وهذه المرحلة.

وتجد الكثيرين مَن يطلق امرأته، أو يتصرف مع ولده، أو مع جاره بتصرفات، ثم بعد ذلك يندم عليها، وقد لا يستدرك ذلك الخرق أو الخلل الذي وقع بسبب هذا التصرف.

فالنبي ﷺ يؤذَى هذا الأذى العظيم، ومع ذلك يصبر هذا الصبر الكبير، فمَن دون النبي ﷺ هو مطالب بالصبر، وهذه سبيل رسول الله ﷺ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

ولا ينبغي للإنسان أن تتجارى به العواطف، أو الانفعالات في دعوته، أو في تعامله، أو في غير ذلك، فيصدر منه ما لا يليق، وإذا تبصر العاقل بنفسه، وما يصدر عنها فإنه يجد بوناً شاسعاً بينه، وبين حال رسول الله ﷺ.

أسأل الله أن يحشرنا تحت رايته وفي زمرته، وأن يسقينا شربة من حوضه ﷺ، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.  

  1. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه (4/ 115)، رقم: (3231)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين (3/ 1420)، رقم: (1795).

 

مواد ذات صلة