الأربعاء 12 / ربيع الآخر / 1446 - 16 / أكتوبر 2024
الحديث على آيات الباب وحديث «لئن كنت كما قلت..»
تاريخ النشر: ٠٤ / شعبان / ١٤٣٠
التحميل: 1516
مرات الإستماع: 2162

قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد في هذا الكتاب المبارك وهو باب "احتمال الأذى"، قال الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، ومضى الكلام على هذه الآية في بعض الأبواب السابقة، وذكرنا أن هذه درجات، فكظم الغيظ هذه مرتبة، والعفو مرتبة أعلى منها، فلا ينتقم لنفسه، والإحسان فوق ذلك وهو أعلى المراتب أن يُحسن إلى من أساء إليه، فمن أراد الكمالات فليعفُ عمن ظلمه وليصل من قطعه وليعطِ من حرمه، ولا يقابل السيئة بالسيئة، وإنما يعفو ويصفح.

قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}

وذكر الآية الأخرى وهي قوله -تبارك وتعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43] وقد مضى الكلام أيضاً على هذه الآية، فهو يصبر على الأذى، ويحتمل ويَحْمل نفسه على ما يجمل، ويصبر على تجرع مرارة الصبر على ضبط النفس وحملها على الكمالات، وكظم الغيظ، فإن ذلك أمر ليس بالشيء السهل على كثير من النفوس، ثم فوق ذلك أن يغفر، يعني مع الصبر، صَبَرَ وَغَفَرَ والغفْر يتضمن معنيين: الستر، وألا يؤاخذ بالإساءة، قال: إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني من الأمور التي يعزم عليها، فهي من الكمالات التي تُطلب، والصفات الحميدة التي ينبغي أن يشمر المشمرون لطلبها وتحصيلها.   

إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني

ثم ذكر حديث أبي هريرة وهو الحديث الوحيد في هذا الباب، والسبب في ذلك أن ما يتصل بهذا الموضوع قد مضى في الباب الذي قبله أو في بعض الأبواب التي قلبه، ولهذا قال: وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله يعني باب "العفو والإعراض عن الجاهلين" فاكتفى بذلك، الشاهد أنه ذكر حديثاً واحداً وهو:

حديث أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنه ويجهلون عليّ، فقال: لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله -تعالى- ظهير عليهم ما دمت على ذلك[1]، وراه مسلم.

تقدم الكلام على هذا الحديث في باب "صلة الأرحام"، لكن هنا الشاهد فيه هو ما يتعلق باحتمال الأذى، فهذا الرجل يذكر قرابته، وما وصفهم به يقول: "أصلهم ويقطعوني" وهذا شيء صعب على النفوس أن تُقابَل الصلة بالقطيعة، ونحن نعلم أن الواصل ليس بالمكافئ، وإنما الذي يصل رحمه إذا قُطعت، أما ما يفعله كثير من الناس من التواصل فيما بينهم على سبيل المكافأة فليس ذلك من الصلة، وإن كان ذلك مما يُحمد للإنسان أن يرد الجميل بالجميل، وأن يرد الإحسان بمثله أو بأفضل منه، لكنه لا يتوقف على ذلك، بمعنى أنه لا يصل الرحم إلا إذا وُصل، ولا يصل جاره إلا إذا وصله، أو نحو هذا، لا، وإنما يصلهم ويطلب ثواب ذلك من الله ، فهو لا ينتظر منهم عائدة أو صلة أو معروفاً أو إحساناً أو تقديراً أو تكريماً من جراء ذلك.

قوله: "أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ"، يجهلون بمعنى يعتدون بالقول أو بالفعل، قال: لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسفُّهم المَلَّ، المل هو الرماد الحار، تسفهم المل بفعلك هذا.

قال: ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك، ظهير أي: معين يعينك وينصرك عليهم ما دمت على ذلك.

فالمقصود أن الإنسان حينما يحسن إلى الآخرين سواء كانوا من قرابته، أو من غيرهم، ويقابلون ذلك بشيء من الفتور، أو بشيء من الإساءة فينبغي عليه ألا يتأثر بهذا الصنيع منهم فيفتر عن صلتهم والإحسان إليهم؛ لأن ذلك يدل على أن قصده ونيته لم تتمحض لله -تبارك وتعالى؛ لأن من يريد وجه الله فإن شعاره إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان:9]، ولهذا كان بعض السلف إذا أعطى أحداً أو تصدق أو أحسن إلى أحدٍ بشيء، فقال له: جزاك الله خيراً، رد مباشرة: بل أنت جزاك الله خيراً؛ لأن النبي ﷺ أخبر أن من قال لمن أحسن إليه أو صنع له معروفاً: جزاك الله خيراً فقد كافأه[2]، فهو لا يريد أن يُكافَأ على هذا المعروف، ولهذا كان بعضهم يأبى أن يأخذ الماء ممن يُقرئهم القرآن مثلاً، أو ممن يسمعون منه العلم أو الحديث أو نحو ذلك لئلا يكون ذلك سبباً لتعجل أجره، أو لمكافئته على هذا العمل الذي يريد به وجه الله -تبارك وتعالى.

فالمقصود أن من كانت نيته صحيحة وخالصة فهو لا ينتظر من الآخرين شيئاً، وهذا من أعظم الأمور التي يستريح معها القلب ويطمئن، فإن القلب يتنغص ويتكدر ويتعذب كثيراً إذا كان ينتظر من الآخرين العوائد والرد والمكافئة على ما يصلهم منه سواء كان حقيقة أو بوهمه هو، فهو يرى أنه قدم إليهم معروفاً وأنه أحسن إلى هذا وأعطى هذا، وزار هذا، ووقف مع هذا ثم بعد ذلك ذاك لم يقف معه، وهذا لم يزره، وذاك لم يصله، وهكذا، فمثل هذا يبقى منغصاً، معذباً له حسابات كثيرة مع الآخرين، فلان لا يستحق، وفلان كذا، وفلان لم يكن عند حسن الظن، وفلان نسي المعروف، وفلان جحد وأنكر الجميل، وما إلى ذلك.    

وأقول: إن كنت تريد ما عند الله -تبارك وتعالى- بهذه الأعمال فلا تنتظر من الآخرين شيئاً، وهكذا فيما يتعلق بالأعمال التي يقوم بها الإنسان لوجه الله، من دعوة إلى الله، من أعمال طيبة صالحة، من مشاريع نافعة وما إلى ذلك، إذا كان الإنسان نيته فيها ضعف، ويحمل نفساً صغيرة، وينتظر من الآخرين أن يكرموه، وأن يقدموه وأن ينوهوا بذكره، وأن يعطوه أشياء وشهادات تقدير وفي المحافل يقدم ويقال: فلان هو الذي عمل، إذا كانت تريد هذا فهذه بضاعة رخيصة، وهناك ما هو أعظم وأجل وأشرف من هذا أن يكون المراد هو ما عند الله ، ومن ثَمَّ فإن العبد لا يلتفت إلى شيء من ذلك ولا يطلب محمدةً ولا تقديماً ولا تكريماً، وبهذا يستريح، أحسن إلى قرابتك ولا تنتظر شيئاً، أحسن إلى جيرانك ولا تنتظر شيئاً، أحسن إلى زملائك في العمل، في الدراسة، في كذا ولا تنتظر شيئاً، لا تقل: فلان أحسنت إليه، انسَ الإحسان أنت فعلته لله، ولهذا قال الله وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [البقرة:272]، ولهذا قال قبله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ  [البقرة:272] يعني كون هذا الإنسان ما نتصدق عليه؛ لكونه لا يستحق، لا نعطيه؛ لأنه لا يستحق، الله يقول: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، أنت تقدم لنفسك وتحسن إليها، فإذا أراد العبد أن يستريح فينبغي ألا يحاسب، أن يجعل أمره لله سواء كان مع الزوجة أو مع الأولاد أو مع أي أحد من الناس، لا تنتظر من الناس شيئاً فإن ذلك سيكون نقصاً في مرتبتك، وسيكون ذلك أيضاً سبباً للتمحيص، والتكدير، وآلام متجددة؛ لأن العلائق مع الآخرين يشوبها هذا جمعياً، ويداخلها هذا أحسنت إليه وأكرمته، وهذا أنت السبب في وصوله إلى هذا المستوى في زعمك، وهذا نعم ثم بعد ذلك قابلك في ظنك بجحود أو بعدم اكتراث أو أدار ظهره كما يقول بعضهم، نقول: لا، لا، لا تنتظر هذا، ولا تسأل عن هذا، كِل أمرك لله، وإذا اعتذر إليك أحد من تقصير أو من قلة صلة لا تمهل حتى يكمل كلامه، قل: لا، لا، أنا المقصر، وأنا المذنب وأنا الذي قد فرطت في حقك، ولا تجعل الآخرين يحملون همك، هذا من أدعى الأمور ومن أقواها في راحة العبد -والله المستعان، وكثير من الناس لا يوفق لمثل هذا؛ ولذلك تجدهم دائماً تتلجلج هذه الأشياء في نفوسهم، ولربما صرحوا بها بألسنتهم فيقيّمون الناس بهذه الاعتبارات في كل مناسبة، أو بغير مناسبة: فلان ما به خير، وفلان، أنت الذي بك خير، والخير أن تريد وجه الله لا تنتظر منهم شيئاً، وكلُّ الناس ما شاء الله، وفيهم خير، طيبون وأجواد وكرام ولا يقصرون، قل هذا، هذا هي الكمالات،  أمّا أن يبقى الإنسان يحمل نفساً صغيرة  يغضب أو يحقد أو يقع في قلبه الغل لأتفه الأسباب من أجل فلان مر وما سلم، ما انتبه لك كان يفكر كان قلبه مشغولا بشيء معين، جئت وما كان استقباله بالصورة المطلوبة وتريد الإنسان هذا دائماً ما شاء الله يحلّق وهو عنده هموم وعند أشياء وعنده مشكلات وعنده آلام، ليس بلازم كلما لقيك ما شاء الله استقبلك استقبالاً حارًّا، فبعض الناس يكون ذلك سبباً لأوهام كثيرة يبني عليها أمورًا لا تخطر على البال، ويفسرها بتفسيرات لا تخطر على بال الآخر -والله المستعان، فيحاول الإنسان دائماً  أن يحمل قلباً كبيراً يحسن إلى الناس ولا ينتظر إحسانهم، واليد العليا خير من اليد السفلى[3]، وكما قال شيخ الإسلام: "أحسِنْ إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره"[4].

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم (2558).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في المتشبع بما لم يعطه، برقم (2035)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (9937)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6368).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم (1427)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، برقم (1033).
  4. مجموع الفتاوى (1/ 39).

مواد ذات صلة