الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
حديث «إن أحدكم إذا قام في صلاته..»
تاريخ النشر: ١١ / شوّال / ١٤٣٠
التحميل: 1397
مرات الإستماع: 4031

إن أحدكم إذا قام في صلاته

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا آخر حديث في باب "الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع"، وهو:

حديث أنس ، أن النبي ﷺ رأى نُخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رُئي في وجهه فقام فحكه بيده فقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقنّ أحدكم قِبل القبلة، ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض فقال: أو يفعل هكذا[1]، متفق عليه.

"رأى نخامة في القبلة"، يعني: في جدار القبلة.

"فشق ذلك عليه"، بمعنى: أن ذلك ساء النبي ﷺ؛ لما فيه من سوء الأدب مع الله -تبارك وتعالى.

"حتى رُئي في وجهه"، يعني: رُئي أثر ذلك في وجهه من الضيق والغضب، فالوجه مرآة لما في القلب يظهر فيه السرور والغضب والرضا والفرح والحزن.

"فقام فحكه بيده"، يعني: بعود ونحوه كان في يده، ولم يكِل ذلك إلى أحد، هذا هو المراد، والله أعلم.

فقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقنّ أحدكم قِبل القبلة، لما فيه من سوء الأدب مع الله -تبارك وتعالى، ولكن عن يساره أو تحت قدمه، عن يساره هذا إذا كان الإنسان في صحراء، أو نحو هذا، ولربما يحتمل ذلك في المساجد قديماً حيث لا فُرش، ويدفن ذلك، ويصلون في نعالهم، أما اليوم فإن هذا لا يمكن ولا يتأتى.

قال: "ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا"، يعني: يمكن أن يأخذ منديلاً وهذا الآن متيسر ويبصق فيه، ومثل هذا ما يفعله بعضهم يكون فيه آثار السواك بقايا السواك فهو في الصلاة يُخرج هذا بين حين وآخر كأنه يبصق إلى جهة القبلة، وهذا أمر لا يليق، وله شبه بهذا الذي نحن بصدده، وإن لم يكن مثله.

فهذا الحديث فيه الأدب مع الله -تبارك وتعالى، والتأدب مع القبلة، واستشعار مناجاة المعبود في الصلاة، وكيف يفعل من عرض له شيء من هذا فأراد أن يتخلص منه في صلاته، والشاهد فيه هو ما يتعلق بالغضب.

وخلاصة ما يمكن أن يقال في هذا الباب أقول: النصوص التي جاءت في كظم الغضب وما شابه هذا يمكن أن نقول: إن الغضب أمر يقع في قلب الإنسان من غير إرادة، وهذه الأمور التي تقع في قلب العبد من غير إرادة لا يُحاسب عليها، والناس يتفاوتون في هذا غاية التفاوت، من الناس من لا يكاد يغضبه شيء، بمعنى أنه متبلد الإحساس، وهذا وصف مذموم، ومن الناس من يستفزه أدنى الأشياء فهو سريع الغضب، وهذا أيضاً مذموم في حال واحدة، وهي ما إذا ظهرت آثار ذلك الغضب بالشتم أو الضرب أو التقبيح أو نحو ذلك من الأمور التي تحصل بها الإساءة إلى الناس، أو يستعجل في الطلاق أو نحو ذلك مما يتجارى الناس معه مع دواعي الغضب، فهذا هو المذموم، وأما إذا كان الإنسان يُسرع إليه الغضب لكنه يكظم ذلك فلا يصدر منه ما لا يليق من الأقوال والفعال فإن ذلك لا يلحقه الذم، مع أن من كان معتدل الطبع فهو أكمل ممن كانت دواعي الغضب تُسرع إليه، ولكن فيما يتعلق بالمذموم شرعاً ما جاءت النصوص فيه هو ما ذكرت -والله تعالى أعلم، ولهذا فإن القاعدة التي ذكرتها في مناسبات شتى وهي أن خطاب الشارع إذا جاء يأمر بشيء أو ينهى عن شيء غير مقدور للمكلف -والله لا يكلف نفساً إلا وسعها- فإن ذلك يتوجه إلى سببه أو إلى أثره، فإذا قال النبي ﷺ للرجل لمّا قال: أوصني، قال: لا تغضب[2]، مع أنه لا يملك هذا، فهنا إما أن يتوجه إلى السبب، وإما أن يتوجه إلى الأثر.

فالسبب مثلاً يمكن للإنسان أن يروض نفسه على الحلم، وهذا يحتاج إلى ممارسة، يعني ليست قضية وقتية، يعني: حينما يقال: يتوجه إلى سببه هذا لا يمكن بلحظته في الأمور المستفزة ممن كان طبعه الغضب، وإنما يحتاج إلى ترويض وتربية، ومن أحسن الأشياء في مثل هذا هو أن يتذكر بعض الأمور، يعني: مثلاً الناس يغضبون في الزحام، يغضبون في الحج، عندما تنغلق الأمور في وجهه، تتعطل معاملته ونحو ذلك، إذا غضب الآن وهو جالس في هذه السيارة، أو في هذه الحافلة هي تنفتح الطرق أمامك؟! ينتهي كل شيء؟ يذهب الزحام؟  

الجواب: لا، ما أحد عرف عنك وأنت تحترق في وسط هذه الشاحنة، إنما أنت تحرق نفسك، وتؤذي نفسك وتضرها، والعالم هؤلاء ما شعروا بك أصلاً، ذرّة بين هؤلاء الحجاج ولو نظر الإنسان من جبل لرأى السيارات بأمثال اللُّعب.

فأقول: يتذكر الإنسان هذه المعاني حينها، ويمكن أن يهدأ، كذلك من الأمور التي تعينه على ترويض النفس أن يتذكر ما جاء في فضل الحلم وذم الغضب، كذلك أيضاً الأشياء التي ذكرها النبي ﷺ حينما قال: إني لأعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم[3]، وأخبرنا أن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم[4]، فمن الأشياء الوقتية أن الإنسان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، يتوضأ فإنه جمرة من نار فيناسب ذلك الماء أن يُطفَأ به، وإذا كان قائماً يجلس، والعلماء ذكروا في هذا أنه يجلس من أجل أن لا يتحرك ويتصرف تصرفات يعتدي فيها على الآخرين، أو يؤذي نفسه، فيجلس، وإذا كان جالساً فليضطجع؛ من أجل أن يسيطر على تصرفاته وجوارحه، هذا فيما يتعلق بالأمور الآنية.

ومما ينفع في ترويض النفس في الحال ومع الوقت أن الإنسان إذا ابتُلي بمن يستفزه دائماً، يعني: الإنسان قد يُبتلى برفيق في العمل أو بزوجة، أو بولد يستفزه دائماً، أو بزميل في الدراسة، أو نحو ذلك فماذا يفعل؟ يعتبر أن مثل هذا الآن ميدان للتطبيق والتجريب، النبي ﷺ يقول: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[5]، بمعنى أنه يتكلف الحلم فيعتبر هذا الإنسانَ فرصة ساقها الله إليه من أجل أن يتعلم عليه الحلم، فإذا صدرت منه التصرفات المعتادة المستفزة يبتسم ويقابل ذلك بشيء من الهدوء، طبعاً في البداية قد يستغرب لأنه ما تعود الابتسامة، تعود أنه يقابله بحمم من نار حينما يصدر منه ما يستفزه، لكن يُجرب مرة بعد مرة يبتسم ويقول له: شكراً، جزاك الله خيرًا، بارك الله فيك، تفضل هذه هدية، يأخذ أشياء معه لطيفة وكذا، حتى يتعلم أن يمارس الحلم على هذا الإنسان، حتى يصير حليماً.

قلنا: يتوجه إلى سببه أو إلى أثره، إلى أثره بمعنى أنه لا يصدر منه شيء لا كلام ولا فعل ما ينبغي أن يصدر، يمكن للإنسان أن يخرج، يمكن للإنسان أن يبتعد عن زوجته لا يرمي عليها الطلاق، يمكن أن يبتعد عن صاحبه أو نحو ذلك، إذا غضب خرج حتى يهدأ، هذا بالنسبة للأثر، والنبي ﷺ قال: ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[6]، فمن كانت دواعي الغضب إليه أسرع، ويكظم غيظه فهذا أعظم أجراً من جهة المجاهدة، ومن كان معتدل الطبع فهو أكمل نفساً من جهة الطبيعة والمزاج والخلق، والناس يتفاوتون كما يتفاوتون في أمورهم الأخرى وما طبعهم الله وجبلهم عليه، يتفاوتون غاية التفاوت، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، يكون الحياء هذا طبع الإنسان جِبلة، وهذا من خُلقه الأناة، وهذا فيه عجلة، وهذا له سمت حسن، وذاك لا سمت له، إلى غير ذلك من الأمور.  

فالمقصود أن الإنسان يغضب إذا انتهكت حرمات الشرع، وهذا أيضاً لا يعني أنه يتصرف تصرفات لا تليق، أو أنه ينكر المنكر بغلظة وشدة في المقام الذي يستدعي أن يكون ذلك بأسلوب رفيق، لا، فهو يغضب -يتمعر وجهه- لكن التصرف الذي يصدر منه ينبغي أن يكون محسوباً، كونه يغضب لا يعني أنه يطيش، وأنه يرفع صوته على ذلك الإنسان، ويجرحه بالكلام الذي لا ينبغي أن يصدر منه أو يُنفر المأمور والمنهي، فلا يفعل ما طُلب منه، كل هذا ليس هو المقصود بالغضب إذا انتهكت حرمات الشرع فهو يغضب في نفسه، ولكن تصرفه يُزَمُّ بزمام الشرع، فإن كان المقام يقتضي الرفق يرفق، وإذا كان المقام يقتضي الإغلاظ يُغلظ، وفرق بين المعاند وبين الجاهل، وبين الإنسان الذي عنده قبول، والله المستعان.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، برقم (405)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم (551).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم (6116).
  3. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3282).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب ما يقال عند الغضب، برقم (4784)، وأحمد في المسند، برقم (17985)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (1510).
  5. أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (2663)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2327).
  6. أخرجه البخاري،  كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم (6114)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، برقم (2609).

مواد ذات صلة