الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
حديث «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم..» ، «أهل الجنة ثلاثة..»
تاريخ النشر: ٢٧ / شوّال / ١٤٣٠
التحميل: 1697
مرات الإستماع: 15403

خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الوالي العادل" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث عوف بن مالك قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة[1]رواه مسلم.

قوله ﷺ: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، هذا معيار يعرف به الأخيار من الأشرار من أصحاب الولايات.

وقوله ﷺ: وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، يعني: تدعون لهم، ويدعون لكم، فإن الصلاة هنا بمعنى الدعاء، كما قال الله خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103].

يعني: ادعُ لهم.

وقوله:الذين تحبونهم، ويحبونكم، الجالب للمحبة هو: مقتضياتها من الإحسان إلى الرعية، والتوسعة عليهم، وحفظ مصالحهم، وضروراتهم، وحاجياتهم، وتحسينياتهم، من جهة الوجود، ومن جهة العدم.

فالناس جُبلوا على محبة من يعدل، ويحسن، ويرفق، ويتلطف بهم، ويرعى مصالحهم، فإن الإحسان إلى الإنسان بل إلى المخلوق -ولو كان من الحيوانات- يأسره.

وقوله:تحبونهم ويحبونكم فإن الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف[2]، فإذا كان هؤلاء يحسنون فإنه سيقابَل فعلهم بالإحسان والجميل والطاعة والمعروف، فيحبهم أئمتهم ومن وّلاهم الله أمرهم، فهؤلاء يدعون لهؤلاء، وهؤلاء يدعون لهؤلاء، وذلك أدل وأبلغ في المحبة، فإن الإنسان قد يعبر عن الجميل بالشكر والتقدير، وما إلى ذلك، ولربما يوصل شيئاً من فعال الإحسان، كالهدية ونحوها، ولكن إذا أتبع ذلك بالدعاء فإن ذلك يدل على تجذر هذه المحبة في قلبه والبر والمعروف، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] إلى أن قال: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا  [الإسراء:24].

فمع إحسانه إلى الوالدين فهو مأمور أيضاً بالدعاء لهما.

وفي قوله -تبارك وتعالى- لما ذكر المهاجرين والأنصار: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا  [الحشر:10].

فدل ذلك أنهم على طريقتهم وهديهم؛ لأن الذي دفع ودعا إلى هذا الدعاء إنما هو الموافقة والمحبة.

قال: وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟.

ومعنى المنابذة أي بالسيف بالقتال إذا كانوا بهذه المثابة، قال:لا، ما أقاموا فيكم الصلاة.

وهذا الحديث إذا انضاف إليه حديث عبادة بن الصامت، وأم سلمة فالنبي ﷺ في هذه الأحاديث قيد ذلك بإقام الصلاة، وفي الحديث الآخر، قال: إلا أن تروا كفرًا بواحاً، عندكم من الله فيه برهان[3]، وذلك أيضاً مقيد بالإمكان، والقدرة.

معنى إقامة الصلاة: من أهل العلم من يقول: إذا صلوا يعني أقاموها في أنفسهم أنهم يصلون، فإذا كانوا يصلون معنى ذلك أنه لا يجوز الخروج عليهم؛ لأنهم في حكم الإسلام.

ومن أهل العلم من يقول: ما أقاموا فيكم الصلاة، قال: ما أقاموا فيكم وذلك بإقامة الصلاة في الناس، بتثبيت دعائمها، وما يحصل به تحققها، وما إلى ذلك، ما أقاموا فيكم الصلاة، فهذا ضابط.

والضابط الآخر: إلا أن تروا كفرا بواحاً وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الاستقراء دل على أنه ما قام أحد على الأئمة إلا وحصل بفعله ذلك من الفساد ما هو أنكر وأعظم مما قام نصرة له.

وقال: هؤلاء غالباً يحصل بفعلهم فساد وسفك دماء وهزيمة، وإذا انتصروا فإن ذلك لا يدوم طويلاً، أو كما قال -رحمه الله.

وانظر ما حصل من الفتن في قتل الحسين ووقعة الحَرّة التي قتل فيها كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وفتنة ابن الأشعث، وغير ذلك على مدى التاريخ، وهي أحداث مشهورة معلومة.

أهل الجنة ثلاثة
حديث عياض بن حمار قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:  أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال[1].

أهل الجنة ثلاثة يعني: ثلاثة أصناف، ذو سلطان مُقسط موفَّق أي: موفق للخير، موفق للبر والمعروف في سياسة الرعية، وفي عبادة الله وفي القيام بما يجب.

ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وهذا أمر يسير، ولكن الإنسان قد يكون حمل الأثقال ونقل الجبال أسهل عليه أحياناً من تغيير الطباع؛ لأن النفس قد تأبى على صاحبها، وتحمله على لون من القسوة والشدة؛ لأنه قد يرى في غير ذلك ضعفاً وعجزاً.

قال: وعفيف متعفف، ذو عيال (عفيف) يعني: في نفسه، لا يقبل من أحدٍ شيئاً، ومتعفف، أي: طالب للعفاف، بمعنى أنه لا يطلب لا تصريحاً ولا تلميحاً، مع أنه ذو حاجة؛ لأنه قال: ذو عيال، والولد كما قال النبي ﷺ: إن الولد مبخلة مجبنة[2].

لربما يصبر الإنسان على الجوع والحاجة والفقر وشظف العيش، ولكنه حينما يرى هؤلاء الأولاد يتضاغون جوعاً ينكسر قلبه، ولا يتمالك، ولا يستطيع الصبر، فيحمله ذلك على أكل الحرام، ولربما حمله ذلك على ألوان من المذلة من طلب المال من الناس، والانكسار بين أيديهم، إلى غير ذلك من مقامات ومواقف لا تحمد.

كل ذلك بسبب هؤلاء العيال، فانظروا إذا كان هذا الإنسان عفيفًا متعففًا، ذا عيال، هي خصلة سهلة، ولكن النفس تحتاج إلى مجاهدة، وفي كل مطلب من المطالب العالية لابد من مجاهدة.

ومن أراد أن يعرف كيف يكون ذلك أحياناً من السهل الممتنع على كثير من الناس، فلينظر في طباعه وأخلاقه، إذا أراد أن يغير شيئاً منها ولو كانت يسيرة، كم يحتاج من المجاهدات، إذا كان قد عُرف -مثلاً- عند زوجته بأنه عنيف شديد، لسبب أو لآخر، لو أراد من الآن، وقرر وقال: أنا سأرجع بوجه جديد، ومعاملة جديدة، ورفق ولطف، وسأحمل لها هدية، نفسه قد لا تطاوعه.

إذا كانت عادته مع الصغار الزجر والإغلاظ والتعنيف، شديد يخاف منه الصغار، لو أراد أن يغير من هذه الليلة، قال: أنا سأرجع من اليوم مع جميع الصغار، من الأولاد والقرابات، وأحمل لهم دائماً في جيبي الحلوى، وأتلطف بهم، وأمسح على رءوسهم، وأضاحكهم، وأسأل عنهم، ولا أنادي أحدًا إلا بكنيته، ونحو ذلك، لربما يقف عند التطبيق، يصعب عليه.

إذا كان من طبعه الجفاء، فيه شيء من الجفاء والرعونة، يدخل على أبيه وأمه، ولا يقبل رأس أبيه، ولا يقبل رأس أمه، اعتاد على هذا، تربى في بيئة صحراوية، أخلاق صحراوية، ما اعتاد على هذه الأمور، ولم يألفها، فسمع عن ذلك، وأراد أن يغير، عرف أن من التلطف بالناس أن تكنيهم، قال: أنا من الآن لا أدعو صغيراً ولا كبيراً إلا بكنيته، وإذا دخلت الدار أقبل رأس الأب والأم، والأخوة الكبار والأخوات، إذا أراد أن يطبق لربما تقعده نفسه عن هذا.

وكل إنسان يجرب، ويلاحظ نفسه في الأمور التي تقعد عنها، كيف يستطيع أن يغير، وهكذا لو أراد أنه يتعامل مع الناس بطريقة أخرى، مع الخصوم، مَن بينه وبينهم خصومات وعداوات بالعفو والصفح، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34] وأراد أن يعامل هؤلاء بأجمل معاملة، وأن يرد الإساءة والعداوة بإحسان، فإذا أراد أن يطبق قعدت به نفسه.

فحينما يأتي مثل هذه الحديث بأنه: عفيف متعفف، ذو عيال، أو رقيق، أومخموم القلب[3]في الحديث الآخر، هي سهلة، لكن إذا جاء الإنسان ليتخلق بهذه الأشياء فقد يصعب عليه جدًّا، والله المستعان.

لكن لا يمكن لأحد أن يرتقي في شيء من المعالي في الأمور الدنيوية أو الدينية إلا بالمجاهدات، وإلا صار الناس في الغنى بلغوا فيه ذروته، وفي الأخلاق حصلوا معاليها، وفي الأعمال الصالحة كانوا مع السابقين في الخيرات.

لكن لماذا تفاوتوا؟ كما قال ابن القيم -رحمه الله: تفرقت فيهم أخلاق المخلوقات، هذا أخلاقه أخلاق الثعلب، في المكر والدهاء، وهذا أخلاق الذئب، وهذا أخلاقه أخلاق الحمام، وهذا أخلاقه أخلاق السباع، وهكذا، لماذا تفرقت أخلاقهم؟

لو أنك ابتليت فقط ربما أنك تلتفت عند الإشارة تنظر إلى أحد، مجرد النظر، لربما تقوم الدنيا، ولا تقعد، لماذا تنظر إليّ؟ وماذا تريد؟

لو أنك تأخرت عند الإشارة لحظة، انظر الأخلاق، إذا أردت في أوقات الزحام في الصباح أحدًا يفسح لك تجد السيارة مباشرة، يعني: أحياناً تستحي وتتصبب عرقًا من أخلاق هؤلاء الناس، كيف تضيق نفسه عندما يتأخر ربع دقيقة لأجل هذا الذي هو محجوز في هذا المكان الضيق يريد أن يجتاز، وتجد المبادرة والمسارعة من أجل أنه ما يخرج، الواحد يستحي، والله يستحي ويعرق جبينه، ويغض بصره، ما يستطيع أن ينظر في السيارات، يعني: إلى هذا الحد تضيق النفوس؟ ما الذي جعل الناس بهذه المستويات؟

لو كانت القضية سهلة لصاروا كلهم في القمة في اللباقة، واللطف، والأخلاق، لكن هذا تجده من أشرس الخلق مع أقرب الناس إليه زوجته، وأولاده، يشكون فيه، نسأل الله العافية.

وهذا من أشرس الناس إذا خرج، سبع في هذه الطرقات، لا يتحرش به أحد أو يخطئ عليه أحد، أو يلف عليه أحد، تظهر لك أخلاق، شيء هائل.

فالواحد من يوم أن يخرج من بيته إلى أن يرجع يقول: اللهم سلم سلم.

فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم مغفرته ورحمته، وأن يلطف بنا، وأن يعيننا على أنفسنا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (4/ 2197)، رقم: (2865).
  2. أخرجه ابن ماجه، كتاب الأدب، باب بر الوالد، والإحسان إلى البنات (2/ 1209)، رقم: (3666).
  3. أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الورع والتقوى (2/ 1409)، رقم: (4216).

مواد ذات صلة