الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب حث السلطان والقاضي على اتخاذ وزير صالح (3-4)
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو القعدة / ١٤٣٠
التحميل: 1472
مرات الإستماع: 2201

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "حث السلطان والقاضي وغيرهما من ولاة الأمور على اتخاذ وزير صالح، وتحذيرهم من قرناء السوء والقبول منهم" أورد بعض ما جاء عن السلف في هذا الباب، يقول عصام بن يزيد: لما أراد سفيان الثوري أن يوجهني إلى المهدي، قلت له: إني غلام جَبليٌّ، لعلي أسقط بشيء فأفضحك، قال: يا ناعس، ترى هؤلاء الذين يجيئوني؟ لو قلت لأحدهم لظن أني قد أسديت إليه معروفًا، يقول: لو قلت لبعض الناس اذهب إلى الخليفة، لفرح، ولكن قد رضيت بك، قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تعلم، قال: فلما رجعت، قلت لأي شيء تهرب منه؟ يعني: هو يخاطب سفيان الآن، ذهب إليه ورجع، يقول لسفيان الثوري: لماذا تهرب منه؟ وهو يقول: لو جاء -يعني سفيان- لخرجت معه إلى السوق، فأمرنا ونهينا، يعني: نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، فقال: يا ناعس، حتى يعمل بما علم، فإذا فعل، لم يسعنا إلا أن نذهب فنعلمه ما لا يعلم.

يقول عصام: فكتب معي سفيان إلى المهدي، وإلى وزيره أبي عبيد الله، قال: وأُدخلتُ عليه فجرى كلامي، فقال: لو جاءنا أبو عبد الله، يعني: سفيان الثوري، المهدي يقول: لو جاء سفيان لوضعنا أيدينا في يده، وارتدينا برودًا واتزرنا، يعني: نرتدي بردًا ونتزر بآخر، يعني: نخرج بلباس متواضع جدًّا، وخرجنا إلى السوق، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإذا توارى عنا مثل أبي عبد الله، يعني: مثل سفيان الثوري، إذا لم يأتنا، انظر ماذا يقول الخليفة المهدي: لقد جاءني قراؤكم، المقصود بالقراء من ينتسبون للعلم، ليس ما نسميه الآن يعني قراءة القرآن، لقد جاءني قراؤكم، الذين هم قراؤكم، فأمروني ونهوني، ووعظوني، وبكوا والله لي، وتباكيت لهم، ثم لم يفجأني من أحدهم إلا أن أخرج من كمه رقعة، يعني: افعل بي كذا، وافعل بي كذا، ففعلت ومقتُّهم[1].

يقول: هؤلاء وعظوني ونصحوني، وبكوا وبكيت، أو تباكيت لهم، يقول: فوجئت أن الواحد منهم يخرج معروضًا يطلب فيه قطعة أرض، أو عطية من العطايا، أو نحو ذلك من الأمور.

يقول: فأعطيتهم ومقتُّهم.

ولذلك ينبغي لمن ينتسب للعلم أن يترفع عن أن يطلب شيئًا لنفسه، وإنما يكون أمره لله، ولا يخلط هذا بهذا، يعني: لا يخلط النصح بمطالب شخصية، سواء كان ذلك لولاة أمور المسلمين، أو لعامتهم، يعني: الداعية إلى الله حينما يدعو الناس ينبغي أن يكون أمره لله أن لا يطلب بذلك شيئًا من عرض الدنيا، فإذا جاء يقدم للناس علمًا أو محاضرة، أو نحو ذلك ينبغي أن لا يكون ذلك سبيلًا للتكسب، إذا ذهب في حملة مع الحج ينبغي أن يكون ذلك لوجه الله، لا يطلب بذلك شيئًا من الدنيا، وإذا خرج في القنوات الفضائية، أو نحو ذلك فإن أمره يكون لله، لا يتخذ الدعوة سبيلًا إلى التكسب، فإن فعل مقته الناس، وسقط من أعينهم، وذهب أثر الكلمة، وخرجت كلماته ميتة.

وهذا مِسعر -رحمه الله- من أئمة أهل العلم يقول: دعاني أبو جعفر المنصور ليوليني، فقلت: إن أهلي يقولون: لا نرضى اشتراءك لنا شيئًا بدرهمين، وأنت توليني؟ يعني يقول: أهلي ما يثقون أن أشتري لهم بدرهمين، ما أصلح لشيء، وأنت تعطيني ولاية؟ أصلحك الله، إن لنا قرابة وحقًّا، يعني: فأعفني، فأعفاه[2].

ما فرح بهذا، وقال: فرصة.

ولما استخلف المهدي بعث إلى سفيان -يعني: الثوري، فلما دخل عليه خلع خاتمه فرمى به إليه، خاتم الخليفة ألقاه إلى سفيان الثوري، وقال: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده، وقال: تأذن لي بالكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك، قال: فغضب وهمّ به، هم أن يبطش به، فقال له كاتبه: أليس قد أمّنته؟ قال: بلى، فلما خرج حف به أصحابه، اجتمع أصحاب سفيان، فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل بالأمة بالكتاب والسنة؟ فاستصغر عقولهم، وخرج هاربًا إلى البصرة[3].

وانظروا النزاهة عند أهل العلم إلى أي حد تبلغ، هذا عافية بن يزيد الأسدي تولي القضاء، ثم طلب الإعفاء، وكان سبب ذلك أنه تثبت في حكم، بمعنى أنه في أحد القضايا التي عرضت له تثبت فيها، بمعنى أنه أجل إلى جلسة قادمة، لينظر ويراجع، ويبحث ويسأل، تثبت في حكم، فأهدى له الخصم رطبًا، فرده.

يعني: أحد الطرفين أهدى له رطبًا، فرده، فلما حاكم، أي جاء مجلس الحكم، فلما حاكم خصمَه من الغد قال عافية: لم يستويا في قلبي، يقول: ذاك الذي أعطاني الرطب ورددته وجدت أن قلبي يميل إليه أكثر، مع أنه رد الهدية، ثم حكاها للخليفة، وقال: هذا حالي وما قبلتُ، فكيف لو قبلتُ؟!، فأعفاه الخليفة من القضاء[4].

والليث بن سعد وكان يُعدل بمالك -رحمه الله- ولي الجزيرة، والمقصود بالجزيرة هي المنطقة الواقعة بين العراق والشام، يقال لها الجزيرة، وكان أمراء مصر لا يقطعون أمرًا إلا بمشورته[5].

وهذا كله يدل على أصل هذا الباب، وهو تقريب أهل الديانة والصلاح والثقة والأمانة، وإبعاد الأشرار، ونزاهة أهل العلم في مثل هذه المقامات، فلا يوظفون علمهم من أجل أن يستحصلوا على شيء من حطام الدنيا الفاني.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (7/ 263).
  2. المصدر السابق (7/ 165).
  3. المصدر السابق (7/ 262).
  4. المصدر السابق (7/ 399).
  5. المصدر السابق (8/ 158).

مواد ذات صلة