الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا كتاب "الأدب"، والأدب: هذه اللفظة على قصرها إلا أنها تعبر عن معنى كبير، يمكن أن يقال: إنه فعل ما يجمل، وترك ما لا يجمل من الأقوال والأفعال، أن يؤدي الإنسان الحق، وأن يكف عن غيره، إلى غير ذلك من العبارات التي يعبر بها أهل العلم عن معنى الأدب، هو خصلة جميلة تحمل صاحبها على فعل كل جميل، وتصرفه عن كل قبيح، بل إن بعضهم قال: إنه مأخوذ من المأدُبة، وهو الطعام الذي يُجمع له الناس، قالوا: لأن الأدب يُدعى إليه كما يدعى إلى ذلك الطعام، كل أحد يدعو إلى الأدب، ويستحسن ذلك.
وأول باب ذكره في كتاب "الأدب" باب "الحياء وفضله والحث على التخلق به"، والحياء هو خصلة من خصال الإيمان، وخلة من خلال الخير، فالحياء يمكن أن يعبر عنه بأنه صفة تحمل صاحبها على فعل الجميل وترك القبيح، وهو صفة تحمل صاحبها على فعل ما يحسن وترك ما يسوء ويقبح، والمصنف -رحمه الله- عبر عنه بعبارة أخرى: بأنه خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ونَقل عن الجنيد أن الحياء رؤية الآلاء -يعني النعم، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء، يعني إذا نظر في نعم الله عليه، ونظر في تقصيره فإنه ينكسر، فهذا الانكسار هو الحياء، والواقع أن هذا يمكن أن يكون في بعض صور الحياء، لكن معنى الحياء أوسع وأشمل من ذلك.
قد يكون هذا الرجل يعظ أخاً له من جهة النسب، وقد يكون يعظ أخاً له في الإيمان، والوعظ هو الأمر والنهي المقرون بما يدفع إلى الامتثال، الترغيب والترهيب، فهذا الرجل يعظه في الحياء معنى أنه يعظه في الحياء أي في تركه، كأنه يقول له: إن الحياء قد أضر بك، إن هذا الحياء قد أقعدك عما أنت بصدده، فهو يعظه في هذا، أن الرجل كثير الحياء وهذا يريد منه أن يتخفف من الحياء، فقال رسول الله ﷺ: دعه، فإن الحياء من الإيمان.
الحياء من الإيمان باعتبار أنه خصلة من خصاله كما سيأتي أن الإيمان بضع وستون[2]، وفي الرواية الأخرى: بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان[3]، فالصلاة إيمان، والصيام إيمان، والزكاة إيمان، والحج إيمان، والخوف من الله إيمان، والرجاء إيمان، والحياء إيمان، وقد يسأل سائل ويقول: إن الحياء غريزة فكيف يكون من الإيمان، يوجد في المسلم والكافر، والطفل الصغير، فكيف يكون من الإيمان وليس ذلك مما يتعلق بالفعل الاختياري الذي يفعله الإنسان ويقصده؟.
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن ذلك من الفطرة أصلًا التي فطر الله الناس عليها، وهذه الفطرة محمودة، خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين[4]، ومن جهة أخرى -أيضاً- فإن من الحياء ما هو مكتسب، بمعنى أن الإنسان يتخلق به، فهذا يؤجر عليه، وهو من الإيمان، كما أن مزاولة ما يتصل بالحياء إذا وضع في محله، وحصلت معه النية فإن ذلك يكون من الإيمان، ويؤجر الإنسان عليه، فمثل هذه الأمور لا تُشكل، والله تعالى أعلم.
الرقة -رقة القلب- قد تكون غريزية جِبليّة عند بعض الناس، فمثل هذا يكون كمالاً في حقه، وهكذا التواضع قد يكون جبليًّا عند بعض الناس، الأدب وحسن الخلق قد يكون جبلّة عند بعض الناس، وهو من الإيمان والنبي ﷺ قال لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة[5]، والأشج سأل النبي ﷺ عندها هل هذا شيء تخلق به -يعني هو- أو أن الله جبله عليه؟، فأخبره أن الله جبله على ذلك، ففرح، وحمد الله أن جبله على ما يحب، فهذا الحلم والأناة من الإيمان ولو كانت جبلّة في الأشج ، فالمقصود أن الحياء على نوعين:
نوع غريزي: وهذا يوجد خلقة في الإنسان، لا يخلو منه أحد في أصل الخلقة، ثم بعد ذلك تتأثر هذه الغريزة زيادة ونقصاً، بحسب البيئة، والتربية، بحسب المؤثرات، وعوامل التعرية التي تعتورها وتنتابها، المرأة مضرب مثل في الحياء، العذراء في خدرها تستحي من ظلها، وتستحي من الشمس، وتستحي من الهواء، فضلًا عن الرجال، وأدركنا النساء الكبيرات عندنا أول ما ظهر التلفاز الواحدة إذا مرت بمكان في دكان في محل فيه تلفاز ونظرت فجأة ورأت رجلا استحت وغطت وجهها، وولولت، كيف نظر إليها هذا الرجل في التلفاز!، وأدركنا النساء في بعض النواحي في بلاد نجد إذا مرت البنت أو المرأة ورأت رجلًا في الطريق لصقت بالجدار بعباءتها حتى إن عباءة المرأة تتمزق من الجدران، بحسب طبيعة الجدران آنذاك من الطين -أعزكم الله- المخلوط بالتبن، فتتمزق، تلصق بالجدار من شدة الحياء، تنكمش، ترحمها، والآن تمشي فارعة في وسط الطريق خرّاجة ولاجة، وتجد العذراء في كثير من الأحيان أبعد ما تكون عن الحياء، في غاية الجرأة، وكثير من النساء إذا اتصلت تسأل كأنها تكلم ولدها الصغير، بلا حياء، ولا حرج، وفي بلاد الله الواسعة شرقاً وغرباً حيث التربية الفاسدة أصبحت المرأة تمشي تتسكع شبه عارية، لا تلبس إلا ما يواري السوأتين في الأماكن العامة، بحار، وأماكن سياحية، وغير ذلك، ما الذي جعل المرأة التي هي محل الحياء تصل إلى هذا؟
التربية، هل يصدق عقل أحد أن بنتًا تُربى من الصغر على الحشمة ثم بعد ذلك إذا جاءت تلد يولدها رجل؟ هل يصدق هذا؟ أنا عقلي لا يصدق هذا، ولا يمكن أن يتخيله، وحاولت مراراً أن أجلس مع نفسي وأتفكر في هذه القضية، هل يمكن أن تقع فعلاً؟ ما احتمله عقلي، لا يمكن أن يتصور العقل كيف امرأة تربى على الخلق والحياء والدين ثم بمجرد ما تتزوج بعد تسعة أشهر وإذ هي يرى منها الطبيب ما لا يراه الزوج، هذا يعقل؟!، في قضية ليست خطيرة، قضية بسيطة وعادية قضية ولادة، فأين الحياء؟ بل يبدأ المشوار من أول الحمل فحوصات الحمل ومتابعة الحمل، ويرى العورة المغلظة، ويرى كل شيء طواعية، ويأتي بها الزوج الكريم الغيور إلى الطبيب ويسلمها له، أو ما يسمى بعملية طفل الأنابيب، والولد ليس بضرورة، الولد زيادة، وليس بضرورة، وكون الإنسان لا ينجب هذا ليس بعيب، لا شرعاً ولا عرفاً، وزكريا دعا ربه: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا [الأنبياء:89] لو كان ذلك من العيوب لما كان في نبي من الأنبياء، وإبراهيم ما رزق الولد إلا بعد الثمانين، ويبقى ساعات يرى منها ما لا يراه الزوج، ويتولى إيصال الحيوان المنوي، ويلقح البويضة، ويوصله إلى الرحم نيابة عن الزوج، هل يعقل هذا؟ لكن للأسف الناس استمرءوا ذلك وصارت البنت منذ نشأتها تسمع أن أمها وجارتها وأختها ذهبت إلى الطبيب، وطببها، وولدها، فهان ذلك في النفوس، فهناك أمور كهذه الغريزة تقويها التربية، البنت من الصغر عندما ترى أمها سافرة متبرجة تخالط الرجال وتضاحكهم وتجالسهم هذا يُذهب الحياء منها، لا تستحي البنت حينما تعتاد على مخالطة الرجال منذ الطفولة -الرجال الأجانب، ولا ترى في هذا غضاضة، فتلك التربية تنتزع الحياء من قلبها، لا تستحي أمام رجل كأنها جالسة مع بنت مثلها، وقل مثل ذلك في رؤية هذه المشاهد سنوات طويلة منذ نعومة أظفارها في الشاشة الفضية، ترى الرجل يقبل المرأة، ويضمها، ويعانقها، ويجالسها، ويضاحكها، والنساء في غاية التبرج تتربى البنت على هذا منذ نعومة أظفارها ماذا يبقى؟ يبقى ما نشاهده في صالات الأفراح إذا جاء النساء لبسن ألبسة لا تلبسها امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، هذه التربية تربية الإعلام.
وإذا سافرت خارج البلاد طوت عباءتها وهي في الطائرة، وترى أوضاعاً مزرية، وأحوالاً مقززة، أين الحياء؟.
ولك أن تجرب بنفسك ما يؤثره كثرة الخروج عند النساء، وهذه التربية الفاسدة، تلقى امرأة في السوق، وتقول لها: يا أمة الله، هذا الحجاب لا تبرأ به الذمة، تُخرج لك لساناً كالمنشار أمام الناس، وأمام الرجال بأعلى صوتها تنكر عليك وتشتمك، هذه أين الحياء منها؟ إلا من رحم الله -تبارك وتعالى، فهذا الحياء يُنمَّى، ويمكن أن ينكمش حتى يضمحل تماماً، وإلا فهو جبلّة، انظر إلى الطفل ولم يجاوز السنتين أحياناً يكون في موقف لو تنظر إليه بطريقة فيضع أصبعه في فمه وينكمش، هذه غريزة ما أحد علّمه، وهذا شيء مشاهد، هذا الصغير الذي عُلّم على العيب والحياء، هذا طفل صغير لربما لم يجاوز الثالثة والنصف ذهبوا به إلى المستشفى لإجراء عملية صغيرة في عينه، أرادوا أن يجردوه من ملابسه وأن يلبسوه ملابس المستشفى فأبى وغضب، وأنكر عليهم غاية الإنكار، عيب، وبدأ يتكلم على هؤلاء أنهم ما يستحون ولا، ولا؛ لأنهم أرادوا خلع ملابسه، ما الذي يجعله بهذه المثابة، ويجعل المرأة تذهب للطبيب بنفسها، وتكشف سوأتها ليولدها؟ التربية، فهذه أشياء ممكن أن تُنمَّى، ويمكن أن تضمحل، الصحبة لها أثر، إذا صحب الإنسان أناساً لا يستحون ويتكلم الواحد منهم بالفحش بملء فمه يُنتزع منه الحياء، وهكذا.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الحياء من الإيمان، برقم (24)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (36).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، برقم (9)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين، والدعاء إليه، برقم (17).
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد،وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، برقم (6117)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (37).