الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
‏(62) الدعاء لمن لبس ثوبا جديدا " البس جديدا وعش حميدا ومت شهيدا "‏
تاريخ النشر: ٠٤ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 2875
مرات الإستماع: 3901

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: 

حديثنا في هذه الليلة هو امتدادٌ للحديث عمَّا يُقال ويُدْعَى به لمن لبس ثوبًا جديدًا؛ وذلك ما جاء عن النبي ﷺ أنَّه رأى على عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- ثوبًا أبيض، كما جاء ذلك في بعض الرِّوايات، فقال: أجديدٌ قميصُك أم غسيلٌ؟ فقال: بل جديدٌ. فقال النبيُّ ﷺ: البس جديدًا، وعِشْ حميدًا، ومتْ شهيدًا[1]. هكذا في عامَّة الرِّوايات دعا له بهذه الأمور الثَّلاثة.

وفي بعض الرِّوايات مما صحَّ: ويُعطيك اللهُ قُرَّةَ العين في الدُّنيا والآخرة[2]، من حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-.

وجاء أيضًا من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-، وفيه أنَّه قال له: "بل غسيلٌ" لما سأله النبيُّ ﷺ، وأنَّه دعا له بهذا الدُّعاء، وفي آخره: ويرزقك اللهُ قُرَّةَ عينٍ في الدنيا والآخرة[3].

في حديث جابر: ويُعطيك، وهنا: ويرزقك، وهما مُتقاربان.

وفي روايةٍ من حديث ابن عمر بالشَّكِّ: فلا أدري ما ردَّ عليه. يعني: لما سأله النبيُّ ﷺ: هل هو جديدٌ أو غسيلٌ؟ في الرِّواية الأولى قال: "جديد". وفي الرِّواية الثانية قال: "غسيلٌ". وهنا يقول: فلا أدري ما ردَّ عليه.

وفيه أيضًا أنَّه قال له: البس جديدًا، وعِشْ حميدًا، ومتْ شهيدًا سعيدًا.

هذه ألفاظ لهذا الحديث الذي جاء عن جابرٍ، وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.

هذا الحديث برواياته هذه التي قد سمعتُم صحَّحه أو حسَّنه جمعٌ من أهل العلم، فبعضُهم حكم عليه بالصحّة، وبعضهم حكم عليه بالحُسن، أو قال بأنَّ أقلّ أحوال هذا الحديث أنه حسنٌ: كابن كثيرٍ[4] -رحمه الله-، والهيثمي[5]، والبُوصيري[6]، والحافظ ابن حجر[7]، والشَّوكاني[8]، والشيخ أحمد شاكر[9]، والشيخ ناصر الدِّين الألباني[10] -رحمهم الله جميعًا.

هذا الحديث –أعني: حديث ابن عمر رضي الله عنهما- برواياته مداره على عبدالرزاق الصَّنعاني صاحب "المصنف"، والرُّواة الذين رووا عن عبدالرزاق جاءت رواياتهم عنه بهذه الألفاظ الثلاث؛ وذلك يدل على أنَّ الإمام عبدالرزاق لم يضبط لفظَ هذا الحديث؛ فاختلفت الرِّوايةُ عنه، ومن هنا حكم عليه جماعةٌ من أهل العلم بالردِّ، واستنكروه، بل إنَّ بعضَهم قال: إنَّه باطلٌ. وهذا قول أكثر المتقدِّمين في الحكم على هذا الحديث؛ نظرًا لوجود هذا الاختلاف أو الاضطراب في متنه، فإسناده ظاهره الصحّة على شرط الشَّيخين: البخاري ومسلم.

فممن أعلَّ هذا الحديث وضعَّفه الإمامُ يحيى بن سعيد القطَّان[11]، والإمام يحيى بن معين[12]، والإمام أحمد بن حنبل[13]، والإمام البخاري[14]، وصحح إرسالَه -أنَّه مُرسل-، والمرسل من أنواع الضَّعيف.

وممن أعلَّه أيضًا: أبو حاتم[15]، وقال: باطلٌ استنكره الناسُ. وصحح إرسالَه.

وأعلَّه أيضًا بعضُ أصحاب السُّنن: كالترمذي[16]، والنَّسائي[17]، وحمزة الكناني[18]، والبيهقي[19]، والدَّارقطني[20] وصحح إرسالَه، والطَّبراني، والبزَّار[21]، والحافظ ابن حجر في "التهذيب"[22]، وسيأتي أنَّه حسَّنه.

فهؤلاء ثلاثة عشر من الأئمّة الكبار، كلهم تكلَّم في هذا الحديث وأعلَّه، وهم مع كثرتهم من كبار أئمّة الحديث من المتقدّمين، يعني: عندهم أنَّه من قبيل المقبول.

إذن -أيها الأحبّة- لنا أن نقول في هذا الدُّعاء: البس جديدًا، وعِشْ حميدًا، ومتْ شهيدًا، ونزيد: ويرزقك اللهُ قُرَّةَ عينٍ في الدنيا والآخرة، أو: ويُعطيك اللهُ قُرَّةَ العين في الدنيا والآخرة، ويمكن أن نقول كما جاء في الرِّواية الأخرى: البس جديدًا، وعِشْ حميدًا، ومتْ شهيدًا سعيدًا[23]، كل ذلك لا إشكالَ فيه -إن شاء الله.

يبقى النَّظر في مسألةٍ أخرى، وهي: هل يُقال هذا لمن لبس ثوبًا جديدًا؟ أو يُقال لمن لبس ثوبًا غسيلاً؟ أو يُقال لمن لبس ثوبًا ليس بجديدٍ ولا بغسيلٍ؟

يعني: إذا رأيتَ عليه ثوبًا دعوتَ له بهذا الدُّعاء، ومتى يُقال ذلك؟

في بعض هذه الرِّوايات -كما رأيتم- أنَّه لما سأله قال: "جديد"، فدعا له النبيُّ ﷺ، فلو بقينا مع ظاهر هذه الرِّواية، وهو موقفٌ واحدٌ، يعني: النبي ﷺ قال له مرةً واحدةً، وأجابه بجوابٍ محدَّدٍ: إمَّا أنَّه قال: "جديد"، أو قال: "غسيل"، لا بدَّ من أحدهما، فلو بقينا مع الرِّواية الأولى وأنَّه قال: "جديد"، فيكون ذلك مما يُقال لمن لبس ثوبًا جديدًا، ولو أخذنا بالرِّواية الثانية أو الرِّواية الثالثة أنَّه قال له: "غسيل"، فهنا يُقال بأنَّ ذلك يُقال لمن لبس ثوبًا غسيلاً.

وعلى القول بصحّة الحديث، فإنَّه يبقى النَّظر في الرِّواية التي تكون راجحةً: هل هي غسيلٌ أو جديدٌ؟

فهذا يمكن النَّظر فيه باعتبار الكثرة من الرُّواة، يعني: ممن رواه على أنَّ جوابَه كان: "جديد"، أو أنَّ جوابَه كان: "غسيل"، فإذا نظرنا إلى الرُّواة نجد أنَّ الذين رووه بأنَّه أجاب بغسيل هم الأكثر: ثمانية، وكلّهم يرويه عن عبدالرزاق على أنه "غسيل"، وهم: عبد بن حميد، ويحيى بن موسى، وأحمد بن عمران، ونوح بن حبيب، والحسين بن مهدي، ومسعود بن الفرات، وأحمد بن منصور الرَّمادي في روايةٍ، وغير هؤلاء.

والذين رووه على أنَّه أجاب بجديدٍ هؤلاء ثلاثة: اثنان منهم ممن جاءت عنهم روايتان، يعني: جاء عنهم في روايةٍ: "جديد"، وفي روايةٍ: "غسيل"، فهؤلاء لا يُحسبون على هذا، ولا هذا.

فإذا أسقطنا من الأول مَن رووه على أنَّه "غسيل" أسقطنا من الثَّمانية اثنين، يبقى ستة، وإذا أسقطنا من الثلاثة الذين رووه على أنَّه "جديد" اثنين يبقى واحدٌ، وعليه تكون روايةُ الأكثر أنَّه قال: "غسيل".

فلو رجح بهذه الطَّريقة -وطرق التَّرجيح كثيرةٌ جدًّا- فيُمكن أن يُقال: لو حكم بصحّة الحديث بأنَّ ذلك يُقال لمن لبس ثوبًا غسيلاً، فيُدْعَى له بحالٍ أفضل: أن يلبس الجديدَ بهذا الاعتبار، إذا قلنا بهذه الطَّريقة في التَّرجيح، ولكن الاختلاف في المتن يمكن أن يُعلّ به الحديث؛ فيكون مُضطربًا في متنه -والله أعلم.

أمَّا حديث جابرٍ ففي إسناده جابر الجعفي، والكلام فيه معروفٌ؛ كذَّبه جمعٌ من الأئمّة.

بعد ذلك أقول: هنا هذا الدُّعاء لما رأى النبيُّ ﷺ على عمر هذا الثّوب الأبيض: أجديدٌ قميصُك أم غسيلٌ؟، هذا السؤال ليس من الفضول، ولا شكَّ أنَّ الفضولَ مذمومٌ، ومن الفضول -وهو أنواع- السؤال عمَّا لا يعني، لكن هنا النبيُّ ﷺ سأله من أجل أن يدعو له بهذا الدُّعاء العظيم الذي لا يُقادر بشيءٍ، فهو خيرٌ له من الدنيا وما فيها، يدعو له النبيُّ ﷺ بهذه الدَّعوات العظيمة، فالنبي ﷺ سأله من أجل أن يدعو له بهذا الدُّعاء.

فلا بأس أن يُسأل الإنسانُ عن أمرٍ من شؤونه الخاصَّة إذا كان يترتب على هذا فائدة كالدُّعاء؛ كأن يسأله مثلاً: هل تزوَّجتَ؟ أو يسأله من أجل أن يُعينه على أمرٍ من أمور دينه أو دنياه، أو نحو هذا، فلا يكون ذلك من قبيل الفضول.

وهذا الدُّعاء: البس جديدًا بأن يلبس الجديد، لا شكَّ أنَّ هذا من الكمالات، والإنسان إذا لبس شيئًا جديدًا ظهر أثرُ ذلك عليه، ووجد أثره هو على نفسه؛ فإنَّ لباس الإنسان ينعكس أثرُه عليه، أحيانًا يلبس الإنسانُ لباسًا يُؤرقه، ويتأذَّى به؛ لأنَّ هذا اللباس فيه عيبٌ، وليس كما ينبغي، ولا يُلائمه مثلاً، فيشعر أنَّه اشتراه وأخطأ؛ لأنَّ هذا لا يصلح لمثله مثلاً، فكلما لبسه يشعر أنَّه يحمل شيئًا ثقيلاً يُؤرِّق نفسَه.

فاللباس له أثرٌ، والألوان لها أثرٌ، والبياض له أثرٌ، وقد جاء: البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنَّها من خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم[24]؛ ولذلك جُرِّب في بعض البلاد -كالسُّجون الأمريكية- في تقريرٍ قرأتُه قديمًا: أنهم صاروا يأمرون السُّجناء أن يغتسلوا في كل صباحٍ، وأن يلبسوا ثيابًا بيضاء جديدة، في كل صباحٍ يُعطونهم ثيابًا بيضاء، فلاحظوا تغييرًا في سلوك المساجين، وهذا أمرٌ مُشاهدٌ؛ فالإنسان حينما يخرج في الصَّباح وقد اغتسل، ولبس ثيابًا جديدةً، فيكون له أثرٌ على نفسه.

وانظر إلى الإنسان حينما يخرج للجمعة: هل خروجُه لها كخروجه سائر الأيام؟

الجواب: لا، مع أنَّه قد لا يلبس الجديد، لكنَّه يلبس ثيابًا غسيلةً، وفي يوم العيد حينما يخرج، وكلّ ما لبسه من قبيل الجديد يجد فرقًا، ويجد أثرًا على نفسه، يجده الكبارُ والصِّغارُ.

لكن هذا الذي قد جاء للعيد بثيابه التي يلبسها في أمسه، وقبل أمسه، وقبله، وقبله، لا شكَّ أنَّ هذا يُؤثر في نفسه، فيُورثه شيئًا؛ ربما ضعف الهمّة والنَّشاط في الاحتفاء بالعيد والفرح به، ومُشاركة الآخرين هذا الفرح، وما إلى ذلك، فنفسه قد هبطت معنوياتها كما يُقال.

فاللِّباس له أثرٌ، فهنا يُدْعَى له: البس جديدًا، وعِشْ حميدًا، فاللباس الجديد زينة الظَّاهر، ولكن مَن لبس ثوبًا جديدًا، ولكنَّه يلبس سربالاً من الذلّ والمهانة وسُوء الذكر بين الخلائق، فجمّل ظاهره، ولكن بقي ما هو أهمّ من جمال الظَّاهر، وهو الذكر الجميل، والحياة الكريمة التي يعيشها: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84].

فإذا كان الإنسانُ يعيش حميدًا، فإنَّ (حميد) هي فعيل، تأتي بمعنى فاعل، أي: حامد، وتأتي بمعنى مفعول، فحينما يعيش الإنسانُ حميدًا، أي: حامدًا لربِّه -تبارك وتعالى-، فهذا الذي يلبس الثيابَ الجديدة يعيش وهو حامدٌ لربِّه -تبارك وتعالى-، يلبس الجديدَ، وهو مُتلبسٌ بالحمد للذي رزقه هذا الجديد، وغير هذا الجديد من ألوان النِّعَم الظَّاهرة والباطنة التي نغفل عنها كثيرًا.

فليست العبرةُ -أيّها الأحبة- بالظَّواهر هذه من: المقتنيات، والملبوسات، والمراكب، والأثاث، والمساكن، والسّمعة مُدنَّسة، والإنسان يعيش حياة ذلٍّ ومهانةٍ، تنحطّ فيها كرامتُه الإنسانية، ما الفائدة؟!

ولكن إذا حصل مع هذا أنَّه أيضًا حميدٌ بمعنى محمود، يكون محمودًا، فتكون سيرتُه حسنةً، ويكون ذكرُه جميلاً، وتكون أفعالُه وسجاياه على الكمال والتَّمام، هذا هو الكمال.

فما أجمل زينة الظَّاهر باللباس، وزينة أيضًا الذِّكْر الجميل، وكون الإنسان على حالةٍ مرضيَّةٍ من الكمالات، والحفظ للمروءات، ولم يتلبس بشيءٍ من المدنسات التي تُدنس عرضَه وشرفَه!

قد يكون الإنسانُ له رونقٌ، وله جمالٌ في الظَّاهر، وله لباسٌ رفيعٌ، ولربما يسكن القصور، ويركب أحسن المراكب، ولكن قد تمرَّغت سمعتُه بمُلابسةٍ كان يجب أن يتنزَّه عنها، فقعدت به نفسُه، فصار في حالٍ من المهانة والذُّل، فاتَّضع بذلك، فصار وضيعًا -نسأل الله العافية.

فكم من إنسانٍ أُسقط بحبائل امرأةٍ، كانت البدايةُ علاقات كما يُقال: نزيهة وشريفة، وشيئًا فشيئًا لم يزل به الشيطانُ، وهذه الوسائل والوسائط -أيّها الأحبة- هي شِراكٌ للشيطان، قد نصبه؛ حيث صار التَّواصلُ أسهل بكثيرٍ من السَّابق، لربما يُثني عليها بكتاباتها في تويتر، ويُثني عليها في المنتديات، ويُظهر الإعجاب بهذه الكتابات، ثم بعد ذلك لم يزل الشيطانُ به حتى يتدرج في هذا السَّبيل، ثم بعد ذلك في زعمه أنَّه يتواصى معها على البرِّ والتَّقوى؛ فيتواصلون، فيبدأ يُراسلها على الخاص، وتُراسله على الخاص، ولربما قضوا ليلةً طويلةً يتشاورون ويتواصون ماذا عسى أن يكتبوا في اليوم الذي بعده من تصحيح المفاهيم؟ وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك لربما استدعى هذا إلى شيءٍ من النُّصح والتَّذكير، فتأتي هذه الرِّسالة: قال الحسنُ البصري. وقال ابن سيرين. وقال كذا، رسائل خاصَّة عن طريق الجوال، فتبدأ الاتِّصالات بعد ذلك، والأمر بالإيقاظ لصلاة الفجر بعد سهرةٍ في التَّواصي على البرِّ والتَّقوى والنُّصح لعباد الله في عالم المنتديات والتّويتر، إلى آخره.

وقد سمعتُ من هذا أشياء، ولربما ظهر هذا للناس، وافتضح هذا الإنسانُ -نسأل الله العافية-، وصار عبدًا لهواه، مأسورًا، لا يستطيع أن ينتفع بعمل دنيا، ولا بعمل آخرة -نسأل الله العافية.

فهنا كون الإنسان يعيش حميدًا، حامدًا لربِّه -تبارك وتعالى-، يُضيف النِّعَم إليه بلسانه وقلبه وجوارحه، هذا هو الكمال، ويكون محمودًا أيضًا في سلوكه وسيرته، وما يأتي ويذر، وهذا فضل الله يُؤتيه مَن يشاء: عِشْ حميدًا، ومتْ شهيدًا، إذا عاش هذه الحياة الكريمة فهو حامدٌ ومحمودٌ، ما بقي عليه إلا الخاتمة الطَّيبة الحسنة، وهي أن يموت شهيدًا، معنى ذلك، المتبادر منه أنَّه يُقتل في سبيل الله، مُقبلاً غير مُدبرٍ، وحينما يُذكر ذلك لا يكون المرادُ منه موت الشَّهادة في أحكام الدنيا، وأن يكون تحت هدمٍ، أو في غرقٍ، أو مبطونٍ، أو نحو ذلك مما يُحكم له بحكم الشَّهادة في الآخرة.

فإنَّ المتبادر من قوله: متْ شهيدًا هو أعلى مراتب الشَّهادة، ومثل هذا إذا كان الإنسانُ يدعو به لإخوانه المسلمين؛ لمن لبس الثوبَ الجديد أن يعيش حياةً حميدةً، معنى ذلك: أنَّه يموت موتًا كريمًا، شريفًا، رفيعًا. فهكذا صار بذلُ النُّفوس في سبيل الله -تبارك وتعالى- رِفْعَةً، يُدعو بها الإنسانُ لنفسه، ولأقرب وأحبِّ الناس إليه من أولاده وإخوانه وقراباته، فما ضرّ الشُّهداء أن قُتلوا بيد الأعداء، فذلك رفعةٌ لهم.

ثم الدُّعاء بعده في هذه الزِّيادات: ويرزقك الله، ويُعطيك اللهُ قُرَّةَ العين في الدنيا والآخرة، قُرَّة العين إذا حصلت في الدنيا والآخرة فهذه هي الرَّاحة الكاملة، يُقال: قرّت عينُ القريب الحبيب، وسخنت عينُ العدو؛ وذلك كما يُقال بأنَّ دموع الفرح باردة، ودموع الحزن حارَّة ساخنة، فدموع العين تختلف: فتارةً تكون ساخنةً، هذا في الحزن، فيُدْعَى على العدو فيُقال: سخنت عينُه، أو أسخن اللهُ عينَه، يعني: بمصيبةٍ تنزل به، فتنزل دموعُه حارَّةً ساخنةً؛ لحرارة الجوف.

وكذلك أيضًا يُقال: أقرّ اللهُ عينَه، أو قرّت عينُك. وما أشبه ذلك، فهنا من البرودة، فالقرّ هو البرد.

فإذا رُزِقَ الإنسانُ بقُرَّة العين في الدنيا، وهل قُرَّة العين تُوجد في الدنيا؟

نعم تُوجد في الدنيا، كيف تُوجد في الدُّنيا؟

أولاً: بالصِّلة بالله ، يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه-: "إنَّ في الدنيا جنةً مَن لم يدخلها لا يدخل جنةَ الآخرة"[25]، وقال: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنَّتي وبُستاني في صدري، إن رحتُ فهي معي لا تُفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"[26].

واقرؤوا كلامَه لما أُدخل السّجن مرارًا، وآخر مرة كان في القلعة، ثم بعد ذلك مات فيها، وكان يقول في محبسه في القلعة: "لو بذلتُ لهم ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النِّعمة"، أو قال: "ما جزيتهم على ما تسبَّبوا لي فيه من الخير"[27]، ونحو هذا.

ويقول ابنُ القيم -رحمه الله- عنه: "وعلم اللهُ ما رأيتُ أحدًا أطيب عيشًا منه قطّ، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرَّفاهية والنَّعيم، بل ضدّها، ومع ما كان فيه من الحبس والتَّهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا، تلوح نضرةُ النَّعيم على وجهه، وكنا إذا اشتدَّ بنا الخوفُ، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامَه فيذهب ذلك كلّه، وينقلب انشراحًا وقوَّةً ويقينًا وطُمأنينةً"[28].

يقول العلماءُ الذين يُترجمون له: "يُؤتى بالألوف والمئين من الدَّنانير -الذَّهب والفضّة- لا يلمسها بيده، ولا يقوم حتى يُفَرِّقها، وما شدَّ على دينارٍ ولا درهمٍ قط، بل كان مهما قدر على شيءٍ من ذلك يجود به كلّه، وكان لا يردّ مَن يسأله شيئًا يقدر عليه من دراهم، ولا دنانير، ولا ثياب، ولا كتب، ولا غير ذلك"[29].

يقول بعضُ مَن يُترجم له: وأظنّه لم يدر في خلده -يعني: ما جال في فكره أصلاً- فقرٌ، ومع هذا كلّه كان يقول: "إنَّ جنَّتي وبُستاني في صدري".

فهذه قُرَّة العين في الدنيا، ومن قُرَّة العين في الدُّنيا: أن يُرزق الإنسانُ زوجةً صالحةً، تطيب بها نفسُه، وتقرّ بها عينُه، ومن ذلك الأولاد الصَّالحين، فإنَّهم قُرَّة عينٍ إذا وُفِّقوا للبرِّ، وكانوا على حالٍ من الاستقامة والصَّلاح، وهذا أمرٌ يعرفه كلُّ أحدٍ.

وأمَّا في الآخرة فالجنَّة ورضا الله والنَّظر إلى وجهه الكريم، وهذا مُنتهى النَّعيم.

فأسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم قُرَّةَ عينٍ في الدنيا والآخرة.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه: كتاب اللباس، باب ما يقول الرجلُ إذا لبس ثوبًا جديدًا، برقم (3548)، وصححه الألباني.
  2. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، برقم (6897).
  3. أخرجه أحمد في "مسنده" ط. الرسالة، برقم (5620)، وقال مُحققو "المسند": "رجاله ثقات رجال الشَّيخين، لكن أعلَّه الأئمَّةُ الحفَّاظُ".
  4. "البداية والنهاية" ط. إحياء التراث (6/227).
  5. "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (9/73).
  6. "الزوائد" (4/82).
  7. "نتائج الأفكار" (1/138).
  8. "نيل الأوطار" (2/118).
  9. في تعليقه على "المسند".
  10. "الصحيحة" (ص352).
  11. "عمل اليوم والليلة" للنَّسائي (ص276).
  12. "الكامل في الضعفاء" (5/311)، و"شرح علل الترمذي" لابن رجب (ص300).
  13. "شرح علل الترمذي" لابن رجب (ص300).
  14. "التاريخ الكبير" للبخاري بحواشي المطبوع (3/356)، و"العلل الكبير" (373/694(.
  15. "علل الحديث" لابن أبي حاتم (4/340).
  16. "علل الترمذي الكبير" (2/422).
  17. "السنن الكبرى" للنَّسائي -دار الكتب العلمية (6/85)، و"عمل اليوم والليلة" للنَّسائي (ص276).
  18. "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" (5/397) (6950)، و"البداية والنهاية" ط. إحياء التراث (6/227).
  19. "الدعوات الكبير" للبيهقي (2/205) (458).
  20. "شرح علل الترمذي" لابن رجب (ص300).
  21. "مسند البزار = البحر الزخار" (12/253) (6005).
  22. "التهذيب" (6/٢٨١).
  23. "الفتوحات الربانية" (1/310).
  24. أخرجه أبو داود: كتاب الطب، بابٌ في الأمر بالكحل، برقم (3380)، والترمذي: كتاب الجنائز، باب ما يُستحبّ من الأكفان، برقم (915)، وصححه الألباني.
  25. "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/153).
  26. "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/153).
  27. "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/154).
  28. "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/154).
  29. "الأعلام العلية" (ص63).

مواد ذات صلة