الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(68) الذكر قبل الوضوء مسائل في البسملة
تاريخ النشر: ١٤ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 2630
مرات الإستماع: 2404

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

كنا نتحدَّث -أيّها الأحبة- عن التَّسمية على الوضوء، وقلنا: إنَّ من أهل العلم مَن أوجبها، واستدلُّوا على ذلك بأدلةٍ، من أشهرها: حديث الباب: لا صلاةَ لمن لا وضوءَ له، ولا وضوءَ لمن لم يذكر اسمَ الله عليه. أخرجه أحمد[1]، وأبو داود[2]، وابن ماجه[3]، وما جاء بنحوه من الأحاديث.

فقالوا: إنَّ هذا النَّفي يتوجّه إلى الذَّات، فطالما أنَّ هيئة الصَّلاة موجودة، فإنَّ ذلك يتوجّه إلى الصحة، يعني: لا صلاةَ صحيحة لمن لا وضوءَ له، ولا وضوءَ صحيحٌ لمن لم يذكر اسمَ الله عليه. قالوا: فكما أنَّ الوضوءَ شرطٌ للصَّلاة، فالتَّسمية أيضًا شرطٌ لها.

وبعضهم يقول: إنَّه واجب، وليس بشرطٍ.

واستدلُّوا بأدلةٍ أخرى، ذكرتُ بعضها، وبعض تلك الأدلة ليس بقائمٍ؛ فأعرضتُ عن ذكره.

وأمَّا الذين قالوا بأنها مُستحبَّة، فقالوا: إنَّ هذه الأحاديث مُعلَّة؛ قد ضعَّفها جمعٌ من أهل العلم، ومن ثمَّ فإنَّه لا يُوجد دليلٌ صحيحٌ صريحٌ في وجوب التَّسمية عند الوضوء.

قالوا: ولكن لو صحَّ قوله: ولا وضوءَ لمن لم يذكر اسمَ الله عليه فإنَّه محمولٌ على الكمال.

يعني: جعلوه في المرتبة الثالثة، وقلنا: الأصل أن يتوجّه إلى الذات، فإذا وُجِدَت يُنتقل إلى الصِّحَّة، فإذا قام دليلٌ على الصحّة فإنَّ ذلك ينتقل إلى الكمال، وهم يقصدون به هنا الكمال المستحبّ، وليس الكمال الواجب.

وقالوا أيضًا بأنَّ هذه الأدلة التي ذُكرت في الباب مع كونها ضعيفة، فإنَّ الاحتياطَ لوجود طائفةٍ من أهل العلم يُصححونها، ويقولون بالوجوب، قالوا: ننتقل من الوجوب إلى المرتبة التي دونه، وهي القول بالاستحباب.

هذان قولان مشهوران، وهناك مَن قال بأنها مُباحة، وهذا لا وجهَ له؛ لأنَّ هذا ذُكِرَ في موضعٍ معينٍ خاصٍّ لا بدَّ له من دليلٍ، فإن صحَّ شيءٌ من تلك الأدلة فهو دالٌّ على الوجوب، ولو صحَّ: ولا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه، فإنَّ هذا يُحمَل على الوجوب، ولا يُنتقل عنه إلا لدليلٍ، ولا نعلم دليلاً ينقل من ذلك، اللَّهم إلا ما ذكروا من صفة وضوء النبي ﷺ، كما في حديث عثمان، ونحو ذلك، فإنَّه لم يذكر التَّسمية، وكذلك في قول الله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6] قالوا: ما ذكرها، فدلَّ على أنَّ التسمية ليست بواجبةٍ، ولو كانت واجبةً لذُكرت. لكن قالوا: لا يلزم، يكفي هذا الدليل بمفرده، وما كان بمعناه لو صحَّ يكفي في الدّلالة على الوجوب، لكن هذه الأحاديث لا تخلو من ضعفٍ.

وأمَّا القول بأنَّ ذلك مُنكر، باعتبار أنَّه لم يثبت فيه شيءٌ، فهو عبادةٌ لا أصلَ لها، قد خُصَّت بهذا الموضع، فكأنَّهم يقولون: من قبيل البدع الإضافية.

انظر إلى هذه الأقوال ما بين قائلٍ بالوجوب، وما بين قائلٍ بأنَّ ذلك لا يُشرع أصلاً، وهو من المنكر، والأمر قد لا يصل إلى هذا، فلو أنَّ الـمُكلَّف احتاط للعبادة؛ لوجود هذه الأحاديث التي هي مع ضعفها إلا أنها قد تتقوَّى بمجموعها، وكذلك وجود مَن قال من أهل العلم بالوجوب، فلو احتاط المكلَّف وذكر التَّسمية بين يدي الوضوء؛ فإنَّ هذا قد يكون أولى -والله أعلم-، مع أنَّ هناك مسائل يجري فيها الاحتياطُ: لو أنَّ الإنسان مثلاً تردد في سفرٍ بين كونه من قبيل السَّفر الذي يترخّص فيه برخص السَّفر أو لا؟ فإنَّه يُغلِّب جانبَ الإقامة احتياطًا للعبادة، لكن هناك صور لا يجري فيها الاحتياط: كقراءة الفاتحة خلف الإمام في الصَّلاة الجهرية، هل هو ممنوعٌ؛ لأنَّ الله أمر بالإنصات: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف:204]، فإذا قرأ فهو مخالفٌ لأمر الله ، فهو يأثم عند القائلين؟ ولا شكَّ أنَّ الآيةَ نازلةٌ في الصَّلاة، كما قال ابنُ جريرٍ[4]، فعند هؤلاء يأثم؛ لأنَّه عصى الله، لم يستمع، ولم يُنصت، يقرأ مع الإمام سورةَ الفاتحة.

وعند الآخرين: أنها ركنٌ، لا تصحّ الصَّلاةُ إلا بها، ولو كان خلف الإمام، ولو في الجهريَّة، فهنا ما في مجال للاحتياط، إن تركها مُراعاةً لقول مَن قال بأنَّه مأمورٌ بالإنصات، وإلا فإنَّه يأثم، ففي هذه الحال يكون عند أولئك قد ترك ركنًا، وإن فعل للإتيان بالركن على سبيل الاحتياط يكون عند الآخرين قد قارف ما يستوجب الإثم، هنا ما يأتي الاحتياط.

كذلك في مسألة التَّسمية عند القائلين بأنَّ ذلك لا يُشرع أصلاً، ولا بدَّ له من دليلٍ ثابتٍ صحيحٍ، فهؤلاء يقولون: لو قالها فإنَّه قد جاء بذكرٍ لم يُشرع في هذا الموضع. والذين يقولون: لا بدَّ منها، بعضُهم يقول: إذا تركها عمدًا لم يصحّ وضوؤه. وسيأتي الكلامُ على هذا.

على كل حالٍ، كأنَّ الأولى بالمكلَّف -والله أعلم- ألا يترك التَّسمية إذا كان مُتذكِّرًا.

فإذا قلنا بأنَّه يقول التَّسمية، أو عند القائلين بأنَّ التَّسمية واجبةٌ أو مُستحبَّة، ما هي صيغتها؟ ماذا يقول؟

في الحديث: ولا وضوءَ لمن لم يذكر اسمَ الله عليه، هنا لم يذكر الصِّيغة، قال: لم يذكر اسمَ الله، طيب، ماذا يقول حتى يذكر اسمَ الله؟ هل يقول: بسم الله، ويكتفي، أو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أو يقول غير ذلك من العبارات؟

فهذا موضعٌ لم ترد فيه الصِّيغة المحددة التي يقولها، لكنَّه مأمورٌ بأن يذكر اسمَ الله على وضوئه، فبعض أهل العلم -وهو مذهب الحنابلة[5]- يقولون: إنَّه يقول: "بسم الله" فقط، فلا يزيد "الرحمن الرحيم" مثلاً؛ لماذا؟ قالوا: لم يرد. طيب، وهل ورد فقط: "بسم الله"؟ قالوا: لو تتبعنا الأذكارَ التي تُقال بين يدي الأعمال: كالأكل والشُّرب، والخروج والدُّخول، وما إلى ذلك، نجد أنَّ غالبَه: "بسم الله"، وليس "بسم الله الرحمن الرحيم"، فإذا أردنا أن نأكل ماذا نقول؟ كما جاء: يا غلام، سمِّ الله[6]، فعند الأكل لا نقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ولكن نقول: "بسم الله" فقط، وهكذا في كثيرٍ من المواضع التي تُشرع فيها التَّسمية.

وقالوا: هذا هو الغالب بين يدي هذه المزاولات والأعمال، فنقتصر على هذا القدر؛ لأنَّه المتيقَّن، وما زاد فهو محتمل، وهذا باب عبادةٍ، لا يُتقحّم بمجرد الاحتمال، فتركب الزيادات فيه. فهؤلاء وقفوا عند حدِّ المتيقّن، وهذا مذهب الحنابلة.

وبعض أهل العلم يقول: إنَّه يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، كما يقول ذلك الحنفية[7]، بل بعضُهم يقولون: إنَّه يقول عبارات أخذوها من روايات لا تصحّ بحالٍ من الأحوال: كـ"بسم الله العظيم"، و"الحمد لله على دين الإسلام"[8]، وهذا ليس فيه شيءٌ يثبت، فلا يُلتفت إليه.

لكن بعضَهم قال: إنَّه يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، باعتبار أنَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" تُقال بين يدي قراءة القرآن، وأنها أكمل من قول: "بسم الله"، ولكن هذه الزِّيادة تحتاج إلى دليلٍ في مسألة الطَّهارة.

وكذلك أيضًا من أهل العلم مَن يقول: إنَّه يقتصر -كما يقول المالكية- على "بسم الله". وعند بعض المالكيَّة يزيد: "الرحمن الرحيم".

يعني: عند المالكية قولان: "بسم الله"، و"بسم الله الرحمن الرحيم"[9]، فصارت "بسم الله" عند الحنابلة والحنفية والمالكية، هذا هو القدر الثَّابت المتيقّن.

كما أنَّ أيضًا بعض أهل العلم –كالشَّافعية- يقولون: إنَّ صيغةَ الكمال أن يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، والقدر المجزئ: "بسم الله"، يعني: جعلوا للتَّسمية صيغتين: القدر المجزئ: "بسم الله"، والأكمل: "بسم الله الرحمن الرحيم".

وقد ذكر هذا الإمامُ النَّووي -رحمه الله-، وجزم به، فإن اقتصر على "بسم الله" فقط يكون قد جاء بالتَّسمية، وحقق المأمور، وذلك يُجزئه، حيث قال: "واعلم أنَّ أكمل التَّسمية أن يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فإن قال: "بسم الله" فقط حصل فضيلةُ التَّسمية بلا خلافٍ، صرَّح به الماورديُّ في كتابيه "الحاوي" و"الإقناع"، وإمام الحرمين، وابن الصباغ، والشيخ نصر في كتابه "الانتخاب"، والغزالي في "الوجيز"، والمتولي، والرُّوياني، والرَّافعي، وغيرهم، والله أعلم"[10].

وعلى كل حالٍ، لو قيل بأنَّه يتوقَّف عند القدر المتيقّن بلا زيادةٍ لكان ذلك أولى، والله أعلم.

فتبقى زيادة: "الرحمن الرحيم" محتملة، فلو وقف عند المتيقّن في العبادة فهذا هو الأجدر به -والله أعلم-؛ لأنَّ هذا يُقال في مواضع كثيرةٍ كما ذكرت: في عبادات متنوعة، فعند الجماع ماذا يقول؟ يقول: "بسم الله"، ولا يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وعند الذَّبح يقول: "بسم الله"، ولا يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وعند الأكل، وهكذا، ولو تتبعنا الوارد في التَّسمية في النّصوص الشَّرعية نجد أنَّ ذلك على أربعة أنواعٍ، أو أربعة أقسامٍ:

القسم الأول: ما جاء بلفظ: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهذا أوضح مثالٍ له، بين يدي قراءة السّورة يقرأ البسملة، بصرف النَّظر: هل هي آية مُستقلّة، أو جزء من آيةٍ، أو آية للفصل -يعني: بين السّور-؟ هل هي آية للفصل بين السّور، أو أنَّها آية من السّورة، أو غير ذلك؟ فهذه الصِّيغة الكاملة جاءت في مثل القراءة، أو بين يدي قراءة السّورة.

القسم الثاني: ما جاء بلفظ: "بسم الله" فقط، كما ذكرنا عند الأكل.

القسم الثالث: ما جاء مُقترنًا بغير "الرحمن الرحيم"، يعني: فيه زيادة مع التَّسمية، لكن بغير "الرحمن الرحيم"، يعني: مثلاً عند الذَّبح: "بسم الله، والله أكبر"، وعند الجماع: "بسم الله، اللهم جنِّبنا الشَّيطان، وجنِّب الشَّيطان ما رزقتنا"، جاء مُقترنًا بهذا، ونحو ذلك، فهذا يُقتصر فيه على ما ورد، ولا يُقال فيما سواه؛ لأنَّ القياسَ لا يجري في هذه الأمور.

القسم الرابع: ما جاءت فيه التَّسمية من غير التَّصريح بلفظٍ مُحدَّدٍ، أُمِرَ بالتَّسمية، أو ذُكر أنَّه كان يُسمِّي الله، كما في حديث عائشة السَّابق الذي ذكرناه: أنَّ النبي ﷺ كان إذا مسَّ طهوره يُسمِّي الله[11]. معنى الحديث لا يصحّ، فهنا ما جاء فيه ذكر التَّسمية من غير تصريحٍ بلفظها، كهذا الموضع الذي نحن بصدد الكلام عليه، وهو ما يُقال بين يدي الوضوء، لم ترد صيغة ولفظ مُحدَّد، فماذا يفعل؟

نقول: في مثل هذا المقام يقتصر على هذا اللَّفظ، وفيما شابهه من المقامات التي ورد فيها ذكر التَّسمية فقط من غير تصريحٍ باللَّفظ، فيُقال: يقتصر على قول: "بسم الله"، ولا يزيد على ذلك، خلافًا لمن قال أنَّه إذا زاد "الرحمن الرحيم" يكون قد جاء بالتَّسمية، وجاء بزيادةٍ عليها قد تكون مقصودةً في هذا الموضع، فلا يُفوت شيئًا، كونه يقتصر على القدر المتيقّن أولى من أن يطلب فضيلةً محتملةً، والعلم عند الله .

وكذلك أيضًا ما ذكره النَّووي -رحمه الله- من أن المكلَّف إذا قال: "بسم الله" يكون قد جاء بالمطلوب، فإذا زاد فهذا هو الأكمل.

ورُدَّ عليه بأنَّ هذا يحتاج إلى دليلٍ، هذه عبادة، ولا يُزاد فيها طلبًا للأكمل إلا بدليلٍ يجب الرجوعُ إليه.

وبعد ذلك تأتي مسائل أخرى تتعلَّق بالتَّسمية في الوضوء، نتركها إلى الليلة الآتية -إن شاء الله تعالى.

وأسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم علمًا نافعًا.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (9418)، وقال محققو "المسند": "إسناده ضعيفٌ".
  2. أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، بابٌ في التَّسمية على الوضوء، برقم (101)، وصححه الألباني.
  3. أخرجه ابن ماجه: كتاب الطَّهارة وسننها، باب ما جاء في التَّسمية في الوضوء، برقم (398)، وحسَّنه الألباني.
  4. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/345).
  5. "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (1/172).
  6. أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، باب التَّسمية على الطَّعام والأكل باليمين، برقم (5376)، ومسلم: كتاب الأشربة، باب آداب الطَّعام والشَّراب وأحكامهما، برقم (2022).
  7. "الجوهرة النَّيرة على مختصر القدوري" (1/5).
  8. "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري" (1/5).
  9. "مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل" (1/383).
  10. "المجموع شرح المهذب" (1/344).
  11. "سنن الدارقطني" برقم (224).

مواد ذات صلة