الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
‏(01) مقدمة
تاريخ النشر: ١٧ / شوّال / ١٤٣٤
التحميل: 8552
مرات الإستماع: 7504

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فهذه المجالس في شرح هذه المقدمة، في أصول التفسير، ولا بأس أن أقدم بين يدي هذا الشرح بعض المقدمات التي قد تكون نافعة بين يدي دراسة هذا العلم، فأصول التفسير بهذا التركيب وبهذا العنوان الذي عُرف به هذا العلم يمكن أن يقال في بيانه وتعريفه بالنظر إلى أجزاء هذا التركيب: أن الأصول جمع أصل، والأصل ما يُبنى عليه غيره، أو ما يتفرع عنه غيره.

ويطلق الأصل على إطلاقات معروفة عند أهل العلم، فيقال ذلك للراجح بالنسبة إلى المرجوح، فيقال: الراجح أصل، هذا هو الأصل، يعني: الراجح، ويقال أيضاً للمستصحَب؛ حينما نستصحب الأصل، فإن ذلك يطلق عليه الأصل أيضاً، كما يقال مثلاً: الأصل براءة الذمة، فالذمة بريئة حتى يرِد أو يعرض ما يشغلها، حينما نستصحب هذا الأصل يقال لذلك المستصحَب: أصل، ولهذا يقال أيضاً: يطلق الأصل على القاعدة المستمرة، أو القاعدة الكلية في أي باب كان، كأن يقال مثلاً: الأصل في الفاعل الرفع، وفي المفعول النصب، ويقال: الأصل في المعاملات الحِل، والأصل في العبادات المنع، والأصل في الفروج الحظر، والأصل في الذبائح الحظر، وما شابه ذلك، وفي القواعد الأصولية: الأصل في الأمر الوجوب، وفي النهي التحريم، فكل هذا يقال له أصل، يعني القاعدة، فالقاعدة أصل، وهذا هو الذي يعنينا في هذا المقام كما سيتضح.

ويقال الأصل أيضاً للدليل بالنسبة للمدلول، ويقال: الأصل في ذلك: قول الله تعالى كذا، الأصل في ذلك قول النبي  ﷺ كذا، يعني ما بُني عليه الحكم هو الدليل المعين المذكور، سواءً كان ذلك من الكتاب أو السنة أو غير ذلك، ويقال الأصل أيضاً للمحتاج إليه، كما يقال: الأصل في الحيوان الغذاء، يعني أنه لا يستغني عن ذلك، ويقال أيضاً للأولى والأحرى، كما يقال: الأصل في الفاعل التقديم، وفي المفعول التأخير، مع أنه يصح تقديم هذا على هذا، وهكذا يقال: الأصل في المبتدأ التقديم، والأصل في الخبر التأخير، مع أنه يصح تقديم هذا على هذا، والذي يعنينا من ذلك هو ما يتصل بالقاعدة المستمرة.

 الأصول إذا نظرنا إليها باعتبار أنها أُسسٌ ومبانٍ يُبنى عليها غيرها وتتفرع عنها الفروع فهذه قواعد، هي بهذا الاعتبار قواعد، وإذا نظرنا إليها باعتبار أنها مسالك واضحة إلى هذه القواعد والمباني فهي مناهج. ونحن نرى ونسمع كثيراً على طُرّة كتاب أو في التعليم أصولَ التفسير ومناهج المفسرين، فأصول التفسير هي القواعد التي يُبنى عليها التفسير، ومناهج المفسرين هي المسالك التي سلكها المفسرون في تفسيرهم لكتاب الله  تبارك وتعالى.

 الأول: كيف نفسر القرآن؟ ما الأصول التي يبنى عليها التفسير؟

والثاني: كيف فُسر القرآن؟ ما المناحي والمسالك والطرق التي سلكها السالكون من المفسرين في تفسيرهم لكلام الله تبارك وتعالى؟

هذا ما يمكن أن يقال في هذا المقام في بيان الأصول، وهي في حقيقتها العرفية، أعني الاصطلاحية: أحكام كلية يُتعرف بها على أحكام جزئياتها، أحكام كلية، يعني ليست جزئية، حينما نقول مثلاً: إن تفسير ابن عباس -ا- ليس بحجة في نفسه مثلاً، هذا حكم جزئي، هذا القول الذي قاله ابن عباس -ا- ليس بحجة، هذا حكم جزئي، لكن حينما نقول: إن تفسير الصحابي حجة إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، أو لم يعلم له مخالف، حينما نقول هذا ونقيد الأول بأنه لا يكون ممن عرف بالأخذ عن بني إسرائيل هذا حكم كلي، وحينما نقول: العبرة بعموم الألفاظ والمعاني لا بخصوص الأسباب هذا حكم كلي، فحينما يرد علينا سبب نزول في أي موضع من المواضع مباشرة: الحكم كلي، العبرة في عموم الألفاظ والمعاني لا بخصوص الأسباب: حكم كلي، لكن حينما نأتي لموضع معين نقول: هذا سبب نزول، ولفظه عام ولا يختص بهذه الواقعة أو الحادثة، مثل هذا هو من قبيل الحكم الجزئي.

فالأصول: هي أحكام كلية يُتعرف بها على أحكام جزئياتها، وحينما نقول: هي أحكام كلية في مثل هذه العلوم أصول الفقه، أصول التفسير، القواعد الفقهية، القواعد العربية -نحو وما شابه ذلك- المقصود بالكلية أي أنها أغلبية، بمعني أنها تنطبق على أكثر الجزئيات، فيكفي أن تكون منطبقة على أكثر الجزئيات لتلم شعثها، فيسهل ضبط ذلك وحفظه، فهذا كما سيأتي مما يقرب العلم، ويسهل حفظه، إلى غير ذلك من الفوائد التي سيأتي ذكرها، هذا بالنسبة لهذه العلوم.

وإن كان أهل المنطق الذين يستعملون هذه الألفاظ بكثرة، لفظ الكلي يقصدون به الذي ينطبق على جميع الجزئيات، بحيث لا يتخلف فرد من الأفراد، وهذا لا يتأتى في قواعد العلوم إلا فيما قَلّ، كقواعد الحساب هذه يمكن أن تكون قواعد كلية بمعنى تنطبق على جميع الجزئيات، أما قواعد العربية -النحو- فتجد أن لها مستثنيات، قواعد الإملاء لها مستثنيات، خرج عن القاعدة كذا وكذا، هذا خارج عن القاعدة، قواعد الأصول: الأمر للوجوب، لكن في الواقع نجد أشياء فنقول: إلا لصارف، هناك أشياء عندنا لا نعلم لها صارف ومع ذلك لا يقال: إنها للوجوب، فتكون مما خرج عن هذا الأصل، وإذا عرفت هذا الموضع انحل عنك إشكالات في هذا الباب؛ لأن طالب العلم قد يحفظ هذه القواعد ثم يجد أشياء خارجة عنها، ولا يعلم ما يصرفها، فيظن أن القاعدة غير صحيحة، أو أنه يحمل هذا المفرد أو المثال على القاعدة فيأتي بقول قد لا يسبق إليه، يأتي بقول شاذ بعيد، قد يكون هذا القول لم يسبق إليه.

والعلماء -رحمهم الله- في مثل هذه المواضع: الأمر للوجوب مثلاً تجد أنهم يبحثون عن مخارج، فبعضهم يقول: الأمر للوجوب الأصل في العبادات إلا لصارف، وأما في غيرها مثل الآداب فهو ليس للوجوب، أظن أن لا حاجة لمثل هذا، وإنما يقال: الأصل أن الأمر للوجوب إلا لصارف، ولكن القواعد أغلبية فيخرج عنها أشياء، فلا تكون داخلة فيها ولا نعلم لها صارف، ولا يكون ذلك من قبيل القادح في القاعدة؛ لأن القواعد كما قال الشاطبي: "لا يطلب فيها الكلية"، بمعنى الكلية عند المناطقة، وإنما يكفي أن تكون منطبقة على أكثر الجزئيات، يكفي هذا، هذا فيما يتعلق بالأصول.

الجزء الثاني من هذا المركّب: هو التفسير:

فالتفسير في اللغة: من الفَسْر، ومعناه يرجع إلى الكشف والإبانة، سواء كان ذلك في الأمور الحسية أو الأمور المعنوية، فكشْف المعنى الذي دل عليه اللفظ هذا أمر معنوي، وتقول: فَسَر عن ذراعه يعني كشف عنها، هذا أمر حسي، فالتفسير تدور معانيه -ما يذكر في تفسيره في بيان معناه يدور- على الكشف والبيان في الحسيات وفي المعنويات، إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التجلي، هذا هو التفسير، فهو مشتق من الفَسْر.

 وحقيقته العرفية -يعني المعنى الاصطلاحي- يمكن أن يقال بما يقربه ويبين المراد به: إنه علم يُبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم، من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم يعني العلوم التي يبحث فيها عن أحوال الملائكة مثلاً، وعن أحوال الرسل -عليهم الصلاة والسلام. أما العلوم التي يبحث فيها عن أحوال الأحكام الفقهية هذه ليست هي التفسير، هنا علم يبحث فيه عن أحوال القرآن، من أي جهة؟ من جهة الأداء والألفاظ؟ تجويد؟ لا، من حيث دلالته على مراد الله -تبارك وتعالى، هذا هو التفسير.

لكن حينما نبحث عن القرآن من جهة المتكلم به أنه كلام الله حقاً، بألفاظه ومعانيه -مصدر القرآن،  ليس هذا هو التفسير، وإنما من حيث دلالته على مراد الله تعالى، هذا هو التفسير بقدر الطاقة البشرية، نقول: بقدر الطاقة البشرية؛ لأنه لا يستطيع المفسر أن يحيط بجميع المعاني الأصلية والتكميلية -التي يسمونها الخادمة- ويستنبط جميع ما يدل عليه القرآن، فإن هذا لا يتأتى للمفسر، وإنما يذكر بعض ما لاح له من المعاني.

 الكشف عن مراد الله -تبارك وتعالى، فبيان معاني القرآن هذا هو التفسير، الغوص في الاستنباط لاستخراج الأحكام واللطائف والنكات البلاغية وما أشبه ذلك هل هذا من التفسير؟ يقال: الذي يتجه إليه هذا الإطلاق حينما يقال التفسير: هو الكشف عن المعنى، ما وراء ذلك من الغوص إلى الأحكام المستخرجة المستنبطة بأنواع طرق الدلالة حينما تنزّل على النص ويستخرج منها الحكم والأحكام واللطائف فمثل هذا يكون تابعاً ويكون ملحقاً في التفسير، يعني يكون من قبيل الزيادة على التفسير، التفسير هو بيان المعنى، ما وراء ذلك هذا يكون تابعاً ولاحقاً له؛ ولهذا تتفاوت مناهج العلماء -رحمهم الله- في التفسير، فبعضهم يُعنَى باستخراج الأحكام الفقهية كالقرطبي، وبعضهم يُعنى بالقوالب اللفظية من الناحية البلاغية كصاحب الكشاف، ومنهم من يُعنى بالإعراب كصاحب الدر المصون، الحلبي. و كل مفسر قد تغلب عليه صنعته وتخصصه، ويظهر ذلك في تفسيره.

عرفنا الأصول وعرفنا التفسير، ما معنى أصول التفسير؟ يمكن أن نقول بعد هذا -بالربط بين الجزأين فيما اتضح من المعني-: أصول التفسير هي الأحكام الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط معاني القرآن الكريم، ومعرفة كيفية الاستفادة منها، الجزء الأول واضح، أصول كلية يتوصل بها إلى معرفة معاني القرآن، وكيفية الاستفادة منها هذا باب الترجيح عند التعارض -تعارض الترجيح-، يعني إذا تجاذب هذا الموضع -هذه الآية- تفسير هذا الكلام تجاذبه قاعدتان، ما الذي نرجحه؟ ما الذي نقدمه؟

أحياناً تجد أن هذا الموضع قد يكون فيه ضمير، تقول: القاعدة أنه يرجع إلى أقرب مذكور، ولكن قد يوجد ما يعارض ذلك من قاعدة أخرى تحملنا على معنى أو على قول آخر، كما يوجد هذا أيضاً في الأحكام الفقهية، أو في شرح الأحاديث، فتجد القواعد تتجاذب هذا الموضع، أو الحكم، وهذا واضح، يعني خذ أي مسألة من المسائل الفقهية، مسألة مس الذكر هل ينقض الوضوء أو لا؟ والأحاديث الواردة في ذلك، والكلام في صحتها وضعفها، لو نظرت إلى القواعد تجد أن عندنا من القواعد أن الأصل بقاء الطهارة فلا ينتقل عنها إلا بيقين، تجد عندنا قاعدة أخرى الحاظر مقدم على المبيح مثلاً، فالقاعدة الأولى يترجح بها أن ذلك لا ينقض، القاعدة الثانية: الناقل عن الأصل مقدم على المبقِّي عليه؛ تحملنا على أن نقول: إن ذلك ينقض الوضوء. هذا منحى فيما يتصل بالنظر في هذا الموضع بهذه المسألة الفقهية، وإلا فالكلام في هذا وفي غيره، فإذاً عندنا كيفية الاستفادة منها هذا باب التعارض والترجيح إذا تعارضت وتقابلت هذه الأصول والقواعد وتجاذبت الموضع المعين.

الفرق بين التفسير وأصول التفسير:

التفسير هو الكشف عن المعنى، وأصول التفسير هي القواعد التي يتوصل بها إلى مراد الله -تبارك وتعالى- من كلامه، القواعد التي تكون آلة في أيدينا نتوصل بها إلى المعنى، نتوصل بها إلى التفسير، فالقواعد إذاً تكون وسيلة، والتفسير بهذا الاعتبار يكون غاية.

ما الفائدة من دراسة أصول التفسير ودراسة أصول العلوم عموماً: قواعد التفسير، قواعد الفقه، قواعد الأصول، قواعد العربية؟

هذا في غاية الأهمية، فهذه الأصول هي التي تؤسس طالب العلم، فقد تقرأ كتاباً في التفسير، وقد تقرأ مائة كتاب، ولكن في النهاية إن لم يكن عندك أصول تبني عليها فإن هذه القراءة المجردة لا يمكن أن تخرج لنا مفسراً. يمكن أن تقول: قال ابن عباس -ا-، وقال مجاهد، وقال عكرمة، وقال ابن جرير، وقال ابن كثير، وقال الشنقيطي، لكن حينما نضع بين يديك هذه الأقوال ونقول: تعامل معها وبين لنا المعنى المراد، هذا لابد له من آلة، لابد له من أصول، لابد له من قواعد.

ويمكن أن تقرأ كتاباً في الفقه أو مائة كتاب، ولكن بهذه القراءة المجردة لا يمكن أن تصير فقيهاً، لكن غاية ما هنالك أنك تقول: قال مالك، وقال الشافعي، وقال أحمد، وقال الليث، وقال الأوزاعي، وقال ابن قدامة، وقال النووي -رحمهم الله جميعا-، ولكن حينما نأتي لك بالأحاديث والنصوص، ونقول: استنبط الأحكام، هذه أقوال هؤلاء العلماء في هذه المسائل، وهذه دلائلهم رجح وناقش، إن لم يكن عندك أصول فإنك لا تستطيع إلا أن تردد هذه الأقوال، قال فلان، وقال فلان، سواء من المتقدمين أو من المتأخرين.

الذي يقرأ في كتب أهل العلم من المعاصرين يقول: في فتاوى اللجنة الدائمة كذا، وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- كذا، وقال فضيله الشيخ محمد صالح العثيمين -رحمه الله- كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا، ليس هذا هو الفقه، هذا ناقل، لكن حينما تنزل نازلة ويقال له: هات الحكم، هنا ما يأتي قال فلان، وقال فلان، هنا لابد من أن يكون عند الإنسان ملكة وأصول يرجع إليها، فيستخرج الأحكام ويستنبط، وهذا هو طالب العلم حقاً، وليس القارئ، أو الناقل لهذه الأقاويل، إذاً نحن بحاجة إلى معرفة الأصول للعلوم، كما يقول الشافعي -رحمه الله-:  "الناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به.

فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية في استدراك علمه نصاً واستنباطاً والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرك خيرٌ إلا بعونه، فإن أدرك علم أحكام الله في كتاب الله نصاً واستدلالاً ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة"، هذا ممكن أن يقال في فضل هذا العلم، علم أصول التفسير، أو علم التفسير عموماً.

 شيخ الاسلام -رحمه الله- يقول ما هو أدق من هذا وأخص في الأصول يقول: "لابد أن يكون في الأصول مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم"[1].

 والزركشي صاحب المنثور في القواعد يقول فيه: "إن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة هو أوعى لحفظها، وأوعى لضبطها، وهي إحدى حكم العدد التي وضع لأجلها، يقال: عشرة مثلاً بدلا من أن تقول: واحد وواحد وواحد حتى تعد عشرة: تقول: عشرة مرة بلفظة واحدة فهذا أقصر وأسهل، يقول: "والحكيم إذا أراد التعليم لابد أن يجمع بين بيانين، إجمالي تتشوف إليه النفس، وتفصيلي تسكن إليه"[2].

 الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- لما تكلم على كتب شيخ الإسلام في "طريق الوصول إلى العلم المأمول" يقول: من أعظم ما فاقت به غيرَها -يعني كتب شيخ الإسلام-، ومن أهم ذلك -أهم ما تفردت به على ما سواها- أن مؤلفها -رحمه الله- يعتني غاية الاعتناء بالتنبيه على القواعد الكلية والأصول الجامعة، والضوابط المحيطة في كل فن من الفنون التي تكلم بها.  يقول: "ومعلوم أن الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان والأصول للأشجار، لا ثبات لها إلا بها، والأصول التي تبنى عليها الفروع، والفروع تثبت وتتقوى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى وينمى نماء مطرداً، وبها تُعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيراً". 

وقال في موضع آخر: "من محاسن الشريعة وكمالها وجمالها وجلالها أن أحكامها الأصولية والفروعية والعبادات والمعاملات وأمورها كلها لها أصول وقواعد تضبط أحكامها، وتجمع متفرقاتها، وتنشر فروعها، وتردها إلى أصولها".

 نخرج من هذا في فائدة معرفة الأصول:

أولاً: أنها تجمع ما تفرق من الجزئيات، فيكون ذلك أدعى للضبط وأسهل في الحفظ والحصر، يعني مثلاً: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" هذه قاعدة إذا حفظناها وضبطناها ففي كل موضع فيه سبب نزول واللفظ فيه عام أو عرفنا العموم من جهة المعنى؛ نقول: العبرة بعموم اللفظ والمعني، لا بخصوص السبب، وانتهينا، بدلاً من أن نأتي إلى كل موضع ونقول: هذا لا يختص بهذا الموضع، لا يختص في من نزلت فيه الآية، والموضع الآخر نقول: هذا لا يختص فيمن نزلت فيه الآية، والموضع العاشر، والموضع المائة نقول: لا يختص فيمن نزلت به الآية، إلى متى؟

 وهكذا الأمر للوجوب وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة البقرة:43] نقول هنا: هذا محمول على الوجوب، وَآتُواْ الزَّكَاةَ نقول: هذا محمول على الوجوب، وَأَطِيعُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:132]، محمول على الوجوب، لا، يكفي أن نقول: الأصل أن الأمر للوجوب والنهي للتحريم إلا لصارف.  إذاً الفائدة الأولى: أن هذا أدعى للضبط والحصر ولم الشعث وجمع المتفرق، فيسهل حفظ العلوم بهذه الطريقة وإلا فإن تتبع الجزئيات أمر لا يمكن.

الفائدة الثانية: أن يبقى طالب العلم على حال منضبطة مطردة، ولا يكون عنده شيء من الاضطراب والتناقض، فهو يقول في هذا الموضع: هذا للوجوب، وفي الموضع الآخر يقول: هذا للإباحة، وفي موضع ثالث يقول: للاستحباب، وفي موضع رابع يقول: للإرشاد يعني الأمر من غير موجِب، ليس عنده أصل يرجع إليه، فيتناقض فيكون له في كل موضع لربما حكم، لكن إن بقيت عنده أصول تكون أحكامه مطردة منضبطة متسقة، يجري على سنن متحد لا يخرج عنه إلا لصارف، وبهذا يكون سيره مستقيماً صحيحاً منضبطاً.

هاتان أهم وأعظم الفوائد لدراسة الأصول والقواعد والضوابط، وما يقال مما وراء ذلك فهو تبع له.

موضوع أصول التفسير:

موضوع هذا العلم الذي يتعلق به مناطه: كتاب الله القرآن، باعتبار أنه يبحث عن معانيه، ولو قال قائل: إن موضوعه هو التفسير، فإن ذلك لا يبعد أيضاً، فهناك ملازمة بين الأمرين، لكن هو يريد أن يتوصل إلى التفسير فهو ينظر في كلام الله -تبارك وتعالى-، ومن خلال هذه الأصول يتوصل إلى المراد، يتوصل إلى المعنى.

غايته:

 وأما غايته فهي فهم كلام الله تعالى، وفهم معاني القرآن هذه غاية قريبة، وهناك غايات وراء هذه الغاية، هو يفهم لماذا؟ يفهم ليتعظ، يفهم ليهتدي، يفهم ليعمل، يفهم ليمتثل؛ ليفوز بسعادة الدارين هذه الغاية البعيدة.

فهناك غايات قريبة، وهناك غايات متوسطة، وهناك غايات بعيدة، التي يسمونها الأهداف، أهداف قريبة وأهداف..، والمسألة نسبية، وقد يقال: هذا هدف بالنسبة لما تحته قريب، وهناك هدف متوسط أو بعيد، فنحن ندرس هذه الأصول؛ لنفهم مراد الله تعالى، لنتعرف على معاني القرآن. ويحتفّ بهذا أننا نستطيع أن نتعامل مع كلام المفسرين، وأن نرجح، نستطيع أن نميز بين الصحيح والسقيم من هذه الأقاويل، أقاويل المفسرين، هذا العلم علم أصول التفسير فيه كتب مؤلفة، تارة يسمونها بأصول التفسير، وتارة تسمى بقواعد التفسير، أو ما يقرب من ذلك، والأمر في هذا يسير.

وبعض أهل العلم قد يطلق على كتابة هذا الاسم -هذا اللقب- يقول: "أصول تفسير" ويقصد به ما هو أعم من موضوعنا الذي اجتمعنا لمدارسته، "أصول تفسير" ويضع علوم القرآن برمتها، يعني على سبيل المثال كتاب "الإكسير في أصول التفسير" للطوفي، هو كتاب في علوم القرآن، يعني على هذا الأساس نقول: إن كتاب "الإتقان" للسيوطي في علوم القرآن الذي هو خزانة هذا العلم، نقول: هو كتاب أصول تفسير بهذا الاعتبار.  كتاب الزركشي "البرهان في علوم القرآن" هو أصول تفسير بهذا الاعتبار، يسمون الكتب التي صنفت في علوم القرآن يسمونها أصول تفسير، وتارة يطلق على ما هو أخص من هذا، وهو ما يتصل بالأصول والقواعد التي يبنى عليها التفسير.

ما هذه الأصول والقواعد التي يبنى عليها التفسير؟

الذي يدخل فيه دخولاً أولياً ما يسمى بطرق التفسير، تفسير القرآن بالقرآن، بالسنة، أقول الصحابة، أقوال التابعين، الكلام على الإسرائيليات، تفسير بالاجتهاد وحكمه، تفسير باللغة، هذه تسمى طرق التفسير، ولاحظوا الكلام الذي ذكرناه في البداية من أن هذه الأصول باعتبار أنه يبنى عليها تسمى قواعد، وباعتبار أنها تُسلك تسمى مناهج، يقال: هذا الكتاب يفسر القرآن بالقرآن، وهذا يفسر القرآن بالاجتهاد، وهذا يفسر القرآن باللغة، هذا قطب الرحى، هذا الموضوع المحور الأساس لأصول التفسير، ما الذي ينضاف إليه؟، وما الذي يزاد على هذا؟ تجد أن الكتب تتفاوت، بعضهم كما فعل شيخ الاسلام -رحمه الله- يذكر أسباب اختلاف المفسرين، وهذه هل هي أصول يُبنى عليها؟

 الجواب: لا، ليست بأصول، لكن شيخ الاسلام أدخلها، ولما كان من كتب بعده غالباً استقى من هذا الكتاب واستفاد منه فإن عامة الذين ألفوا في أصول التفسير ذكروا أسباب اختلاف المفسرين، فهذان موضوعان كما سيأتي تدور عليهما هذه الرسالة، هناك قضايا أخرى ملحقة تتعلق بأمور من التفسير، كتفسير اللفظ بالمعنى، تفسيره بالمطابق، تفسيره باللازم... إلخ، مما هو أشبه بالتوصيف للحال الموجودة الواقعة التي وقفنا عليها في كلام من فسر القرآن، ابتداء من رسول الله ﷺ من النصوص المنقولة عنه، أو أصحاب النبي ﷺ ، أو من كلام من بعدهم من التابعين إلى يومنا هذا، هذه الجزئيات يتفاوت الناس فيها، في ذكرها، في استكمالها، لكن الموضوع الأساس هو طرق التفسير.

 هذه الطرق -طرق التفسير- يتفرع عنها قواعد وضوابط، وأصول كثيرة جداً، يمكن أن يؤلف من خلال ذلك مجلدات، ما يتفرع عنها. أما الذين توسعوا في ذلك وذكروا جميع علوم القرآن، وسموا الكتاب "أصول التفسير" مثل السيوطي في رسالته في أصول التفسير، والشيخ محمد صالح العثيمين في أصول التفسير، ألف رسالة في هذا وهي في علوم القرآن ورسالة السيوطي في علوم القرآن، فلا مشاحّة في الاصطلاح، الأمر في ذلك يسير، هذا اصطلاح ولكن إذا عرف المراد، وهنا فيكون طالب العلم على استحضار حينما يدرس هذا العلم استحضار لأجزائه ومكوناته ومفرداته فقط، يكون متصوراً ماذا سيدرس.

 فنحن هنا لن ندرس مثلاً المكي والمدني، والليلي والنهاري، والصيفي والشتائي، والحضري والسفري، فهذه ليست أصول للتفسير، لكن حينما نتحدث عن قواعد معينة فهذه هي الأصول، ولهذا كما قلت: يدخل في هذا أشياء، حينما نقول: تفسير القرآن بالقرآن، هناك قواعد تدخل تحت هذا كثيرة جداً، يعني مثلاً حينما نقول: إن المدني منزَّل على المكي يعني في التفسير، والنظر والفهم والاستنباط ينزل المدني على المكي، فهذا يتعلق بموضوع المكي والمدني، لكن من حيث إنه قاعدة فيمكن أن ندخله في تفسير القرآن بالقرآن بهذا الاعتبار، والأشياء التي تتفرع عن هذا كثيرة، المقصود هو وجود التصور في الجملة، الكتب المؤلفة في هذا متنوعة، وهذا من أجلها، الكتاب الذي بين أيدينا.

مصادر هذا العلم:

مصادره من كتب مؤلفة خاصة في هذا الفن مثل هذه الرسالة، وهي أصل في هذا الباب، هناك أيضاً كتب في علوم القرآن مثل: "الإتقان، والبرهان" فهذه تذكر أصولَ التفسير أيضاً، تذكر طرق التفسير، وتذكر الموضوعات التي تُذكر في أصول التفسير غالباً كباب من الأبواب، وهكذا مقدمات بعض كتب التفسير فيها أشياء من هذا القبيل، هناك مقدمات نافعة حافلة: "مقدمة ابن جرير الطبري"، "مقدمة ابن الجزري الكلبي"، "مقدمة القرطبي"، و"مقدمة تفسير ابن عطية"، و"مقدمة الراغب الأصفهاني"، وهي من أنفع المقدمات، و"مقدمة الطاهر ابن عاشور للتحرير والتنوير".

 أما ما ذكره ابن كثير في مقدمته من الأصول فغالبه بنص كلام شيخ الاسلام في هذه المقدمة، غالبه، وما ذكره القاسمي في مقدمة التفسير الطويلة جداً فهو مأخوذ من هذه المقدمة ومن كتاب الإكليل المشابه لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ومن كتاب الشاطبي في الموافقات بالنص، صفحات طويلة هي منقولة بنصها من هذه الكتب. 

 فيؤخذ من مقدمات هذه الكتب المؤلفة في التفسير يؤخذ منها جزئيات وقضايا تتصل بأصول التفسير، هناك أيضاً علوم أخرى يؤخذ منها هذا، مثل علم أصول الفقه، ومن أجلّ الكتب التي تنفع طالب العلم في هذا ما ذكره الشاطبي في الموافقات؛ لأنه ذكر أشياء لا يستغني عنها طالب العلم، لكن في مرحلة متقدمة ذكر قضايا كثيرة تتعلق بهذا الفن، هناك مصدر آخر وهو أن نستقرئ مناهج المفسرين، وننظر كيف بنوا التفسير من الصحابة  فمن بعدهم، استقراء المنقولات من الآثار وغيرها نجد أنها توفر لنا قواعد وضوابط في هذا الفن.

 يعني مثلاً لو نظرنا إلى الأحاديث نجد أن النبي ﷺ يفسر الآية أحياناً بالأولى، يعني مما يدخل في معناها، وإن كان السياق في غير ذلك، خذ مثالين على هذا بقوله تبارك وتعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [سورة التوبة:108]، لما اختلف العوفي والخدري في هذا المسجد هل هو قباء أو مسجد النبي ﷺ، فالعوفي يقول: قباء، والخدري يقول: مسجد النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: هو مسجدي هذا[3]، فهذا لا ينفي ذلك عن مسجد قباء الذي فيه السياق، ولكن النبي ﷺ فسرها بالأوْلى مما يصدق عليه هذا الوصف أنه أُسس على التقوى من أول يوم.

وقد يفسر ﷺ الآية بالمعنى الأعم وإن كان السياق في المعنى الأخص، النبي ﷺ لما ذكر صفة الحشر أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غُرلا ذكر الآية: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104] فالآية في سياقها مع نظائرها في القرآن هي في البعث والقدرة عليه، أن الله يحتج بالنشأة الأولى -كما بدأنا أول خلق- على النشأة الثانية، على البعث، فالنبي ﷺ ذكرها في مساق آخر وهو صفة البعث، صفة الحشر، كيف يحشر الناس حفاةً عراةً غرلاً؟ فهذا مما يدخل في المعنى، وهكذا، فاستقراء هذه النصوص والآثار، وكذلك استقراء كلام المفسرين المعتبرين هذا يمكن أن يضيف في هذا العلم أشياء نافعة، وفي غاية الأهمية.

والآن ما شاء الله كثرت الرسائل الجامعية والبحث عن موضوعات جديدة، فوصل الناس إلى هذه المَحَال في العلم وهذه المواضع، وصار التتبع لهذه المنقولات والآثار واستخراج القواعد والأصول والضوابط، منها: منهج الصحابة في تفسير القرآن مثلاً، منهج التابعين في تفسير القرآن، منهج السلف في كذا، بالتتبع والاستقراء نخرج بالأصول التي بنوا عليها التفسير، هل كانوا يفسرون بالاجتهاد؟ هل كانوا يرجعون إلى اللغة؟ هل كانوا يحتجون مثلاً بأقوال الصحابة؟ يعتبرونها حجة أو لا؟ وأنواع التفسير الواقعة تفسير باللازم، تفسير بجزء المعنى، تفسير بالمثال، وما شابه ذلك.

  1. مجموع الفتاوى، لابن تيمية (19/ 203).
  2. المنثور في القواعد الفقهية (1/ 66).
  3. رواه النسائي، كتاب المساجد، باب ذكر المسجد الذي أسس على التقوى، برقم (697)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3099)، وأحمد في المسند، برقم (11846)، وقال محققوه: "حديث صحيح".

مواد ذات صلة