الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
‏‏(02) أول المتن
تاريخ النشر: ١٨ / شوّال / ١٤٣٤
التحميل: 8637
مرات الإستماع: 6006

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الرسالة تدور على محورين اثنين:

الأول: هو طرق التفسير، وإذا أردنا أن نمشي على الترتيب الذي ذكره المؤلف نقول: الأول الذي قدمه هو أقسام الاختلاف في التفسير، والأنواع الداخلة تحت كل قسم.

فذكر القسم الأول الذي هو اختلاف التنوع، وذكر أنه على صنفين، ثم ذكر القسم الثاني وهو اختلاف التضاد، وذكر أنه أيضاً على نوعين، ثم بعد ذلك يأتي المحور الثاني وهو ما يتعلق بطرق التفسير، تفسير القرآن بالقرآن، بالسنة، بأقوال الصحابة، بأقوال التابعين، حكم الإسرائيليات، التفسير بالرأي.

والذي يقرأ في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يحتاج إلى ضبط للموضوع الأساس الذي يتكلم عليه، ثم بعد ذلك لا ينسى هذا الموضوع حينما ترد هذه الاستطرادات، هذه الاستطرادات في كتب شيخ الإسلام -رحمه الله- المطولة قد تزيد في بعض المواضع على مائتي صفحة. يتكلم على قضية استطراداً ثم يطيل، ثم يرجع إلى الموضوع الأصلي، فكان المقصود أن نبقي على الموضوع الأساس أو على الموضوعين الأساسين لهذه الرسالة، فتبقى الاستطرادات تدرس ويعلق عليها، لكن لا يُنسِي ذلك الأصل الذي اجتمعنا من أجل دراسته.

ولهذا سأبين لكم -إن شاء الله تعالى- العناوين في هذه الرسالة لكل موضع، سأبين لكم مواضع الاستطراد، هذا استطراد ثم أقول: رجع هنا إلى كلامه، لأصل الموضوع، وهكذا، ولعل ذلك يكون دربة -إن شاء الله- من أجل أن نتعرف كيف نقرأ كتب شيخ الإسلام -رحمه الله رحمة واسعة.

كتب شيخ الإسلام -رحمه الله- حتى الرسائل المختصرة تحتاج من طالب العلم أن يقرأها مرة، وأخرى، وثالثة، ورابعة، ولذلك تجد بعض أهل العلم أصدروا بعض كتب شيخ الإسلام فوضعوا مقدمة يذكرون فيها جُمَل ما ذكره شيخ الإسلام بطريقة مرتبة، من أجل أن يكون ذلك توطئة للناظر في هذا الكتاب والقارئ، فيفهم المراد والموضوع الذي تعرض له في هذا الكتاب أو في هذه الرسالة. هناك بعض الأعمال في بعض الرسائل الصغيرة مثل كتاب (العبودية) لشيخ الإسلام -رحمه الله- تحقيق الدكتور عبد الرحمن الألباني، وهناك أعمال لبعض الكتب الكبيرة مثل كتاب (درء تعارض العقل والنقل) فهذا في غاية الأهمية.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولجميع المسلمين.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر وأعن برحمتك، الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﷺ تسليماً، أما بعد:

فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب لهم مقدمة تتضمن لهم قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل، فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين، والباطل الواضح والحق المبين.

أقول: أولاً: فيما يتعلق بالتعلم والتعليم، أحياناً يُشتغل بشرح المقدمة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله إلخ، فيُشرح الحمد و"ال" الداخلة عليه هذه ما معناها، واللام في "لله" ما نوع هذه اللام وأنواع اللامات، ولفظ الجلالة هل هو مشتق أو غير مشتق؟ وإذا كان مشتقاً من أين اشتق؟ وما معنى الحمد؟ والفرق بينه وبين المدح والشكر والتمجيد؟ وما يدل عليه دخول اللام في "الحمد"؟ ومعانٍ كثيرة جداً تذكر في هذا وفي الصلاة على النبي ﷺ وما معنى الصلاة؟ في شرح ألفاظ في المقدمة لم يجتمع الناس من أجل دراستها.

وليس الموضوع في رسالة في الحمد والثناء والشكر لله، إنما الرسالة في أصول التفسير، وفي مصطلح الحديث، أو في الفقه، فمن الأخطاء الشائعة أن يُشتغل بتفكيك هذه الألفاظ وشرح كل لفظة، والإغراق بالتفاصيل، فيذهب الزمان، ويتوهم أو تصل رسالة -قد لا تكون مقصودة- إلى أذهان المتلقين أن العلم طويلٌ وصعبُ المنال، فإذا كانت هذه الألفاظ في أوله في مقدمته تحتها هذه المعاني الواسعة الكثيرة فمتى يُدرَك غوره؟! ومتى يتوصل إلى أواخره ونهاياته؟! فينقطع الناس عن الطلب، ويظنون أن العلم بعيد المنال صعب، والأمر ليس كذلك. فلذا لا يحسن إطلاقاً أن نشتغل في هذه الأشياء، وتفكيك هذه الألفاظ، هذا خطأ في التعليم، وقد يوافق ذلك رغبة عند بعض الطلبة في أوائل الطلب بسبب الحماس، ولكن حينما يمضي عليه حين من الدهر فإنه يدرك أنه كان يشتغل بأمور كان الأولى أن يتجاوزها، وأن ذلك قد ذهب عليه بسببه زمان طويل، ولم يخرج بكبير طائل، فتنبهوا لهذا.

يقول: أما بعد: فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب لهم مقدمة. هذا يبين لنا سبب تأليف هذه الرسالة، أنها لم تكن مبتدأةً من شيخ الإسلام -رحمه الله-، وإنما كان ذلك جواباً عن سؤال، وهذا حال كثير من رسائل شيخ الإسلام، فهي إما جواب على سؤال، وإما رد على مقالة أو كتاب. وقد نفع الله بهذا وهذا من كتبه نفعاً عظيماً، وهذا جواب السؤال، هذه فُتيا تتدارسها الأجيال، وهي أصل في هذا الباب كما سبق، وهذا فضل يؤتيه الله لمن يشاء، وأما ردوده فهي عُمَد في أبوابها، وفيها من العلم الشيء الكثير -كما هو معلوم- والأصول والقواعد والضوابط، مع أن عامة الكتب المؤلفة في الردود التي يكتبها العلماء تذهب وتتلاشى، ولا يكاد ينتفع بها الناس، ولو سميت لكم أسماء وأشياء لعلماء مشهورين من الردود التي لربما كانت من ذوات العناوين التي يغلب عليها السجع، لربما عامة طلاب العلم ما سمعوا بها، وبعض هذه الأسماء قد لا تكون أصلاً مناسبة ولا لائقة.

(العروج بالفروج) هذا رد، كل هذه ذهبت، لا أحد سمع بهذا العنوان، مع أن هذا العالم من أشهر العلماء، لو سميته لعرفتموه جميعاً، لكن هذا أحد الردود. (الكاوي لدماغ السخاوي)، لا أحد سمع بهذا العنوان.

أما ردود شيخ الإسلام -رحمه الله- فلم تكن في أمور لربما من المنافرة مع بعض المعاصرين ونحو ذلك، وإنما كانت لتأصيل الحق، وتقعيده، فهو يختار رأساً في الباب من رءوس أهل البدع، فيأتي إلى كتاب هو أصل عند الرافضة مثلاً فيهدم أصول هذا الكتاب، فيكون هذا الكتاب الذي ألفه شيخ الإسلام -رحمه الله- يكون من المراجع الأساسية في هذا العلم. يأتي إلى أهل الكلام الذين يدعون أنهم أصحاب العقول، ويقدمونها على النقول والآثار، فيأتي إلى رأس وهامة عندهم فيكسره، ويبين بطلان هذه الأصول التي يبنون عليها ويرجعون إليها ويستقونها من هذا الكتاب مثلاً، فيكون هذا المؤلف من المراجع الأساسية في هذا الباب، بل هو المرجع الأول، مثل كتاب (درء التعارض)، ويأتي هكذا إلى الرافضة كما في (منهاج السنة) وهو أصل في هذا الباب، النصارى (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) فتكون ردوده هي أصول في أبوابها، لا يمكن أن يستغني عنها الناظر بذلك الباب أو الفن، فرحمه الله ورفع درجته في الجنة.

يقول: سألني بعض الإخوان أن أكتب لهم مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن، مقدمة تتضمن قواعد كلية، ومن هنا أخذ الذي أخرج الكتاب هذا العنوان، فسماه: (مقدمة في أصول التفسير). يعني شيخ الإسلام -رحمه الله- لم يسمِّ هذه الرسالة بمقدمة في أصول التفسير، من الذي سماها؟

أول من أخرج هذه الرسالة، الشيخ جميل الشطي -رحمه الله- مفتي الحنابلة في دمشق، أخرج الكتاب من نسخةٍ خطيةٍ في مكتبته عنده، فأخرج الكتاب من هذه النسخة العتيقة المكتوبة لعصر المؤلف، عصر شيخ الإسلام، لكنها ليست بخط شيخ الإسلام؛ لأن خط شيخ الإسلام لا يكاد يفك ويقرأ، حتى إن شيخ الإسلام كان -رحمه الله- أحياناً يعسر عليه قراءته، فيستعين بخبيرٍ بخطه من تلامذته فيقرأ له بعض المواضع. كان يكتب كتابتُه وخطه ليس بذاك، فيعسر قراءة هذا الخط، وما ضره ذلك.

فالمقصود أن تلك النسخة وقعت فيها أخطاء ووقعت فيها أشياء ربما يكون نقلها من نسخة المؤلف فلم يستطع قراءة بعض المواضع بشكل صحيح، فهي طبعة أخرجها الشيخ جميل الشطي وهو الذي سماها بـ (مقدمة في أصول التفسير). أخذ هذا العنوان من قوله هنا: أن أكتب لهم مقدمة تتضمن قواعد كلية تعين على فهم القرآن، إذاً هي مقدمة في أصول التفسير.  ثم أخرجها الشيخ محب الدين الخطيب -رحمه الله- اعتمد على هذه المطبوعة الأولى، ثم بعد ذلك استعان بنسخةٍ أخرى صحح بعض المواضع، وبقيت بعض المواضع فيها إشكال، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- التنبيه على هذا.

أن أكتب لهم مقدمة تتضمن قواعد كلية، المقدمة في العلم: هي ما يتوقف عليه صحة الشروع فيه، تقول: هذه مقدمة في النحو، مقدمة في البلاغة، مقدمة في المنطق، مقدمة في أصول الفقه، مقدمة في أصول التفسير.

تتضمن قواعد، والقواعد جمع قاعدة، ويقال فيها ما قيل في الأصل (الكلام السابق الذي ذكرناه في الأصل)، إذ إن القاعدة هي الأصل والأساس الذي يبنى عليه غيره ويعتمد، ويقال عنها في الاصطلاح: حكم كلي يتعرف به على أحكام جزئياته.

تتضمن قواعد كلية، يعني بحيث تكون مشتملة على أحكام ما تحت موضوعها من جزئيات، يعني لابد أن يكون تحت القاعدة جزئيات متعددة، أما إذا كانت في صورة قاعدة (في قالب قاعدة) ولكن ليس تحتها إلا مثال واحد فقط، فهذه لا يقال لها: قاعدة، وإن كانت جميلة وفائدة ولطيفة لكنها ليست بقاعدة.

القاعدة يقصد بها الاطراد، فهنا لا يتأتى الاطراد إن لم تنطبق إلا على مثال واحد، ولهذا فإن القواعد لابد أن يكون تحتها جزئيات، سواء كانت واسعة جداً أو كانت محدودة، لكن لابد أن تكون متعددة، ولهذا فإن بعضهم يفرقون بين القواعد والضوابط، فيجعلون الضوابط أخص، يعني كأن الضابط أخص من القاعدة، كأنه قاعدة صغيرة، هذا يذكر في الفروقات بين القواعد والضوابط، عند من فرق بين القاعدة والضابط.

فهنا يقول: قواعد كلية، الأصل -كما قلنا-: أنها تكون منطبقة على جميع الأفراد، لكن في هذه العلوم كما سبق يكفي أن تنطبق على الأكثر.

يقول: تُعين على فهم القرآن وفهم تفسيره ومعانيه، فهذا لا شك أنه من المطالب المهمة المقصودة من نزول القرآن أن يُفهم المعنى، كما أن من مقاصد نزول القرآن التعبد بتلاوته والتدبر، وكذلك العمل به، فهذه كلها مقاصد تُطلب وتُقصد.

يقول: والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، الذي يكون عنده قواعد وضوابط -كما سبق- يستطيع أن يميز بين الغث والسمين، ويستطيع أن يتعامل مع المنقولات في التفسير، فيُنَزِّل كل واحدٍ على الحال اللائقة به، فيقول: هذا من باب التفسير باللازم، وهذا تفسيرٌ بالمثال، وهذا تفسيرٌ بالمطابق، وهذا تفسيرٌ بجزء المعنى، لا تعارض بين هذه الأقوال، يمكن أن نجمع بين هذين القولين، هذا إذا عنده قواعد؛ فيميز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل.

والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل، فإن كتب التفسير مشحونةٌ بالغث والسمين، والباطل الواضح والحق المبين، هذا الذي عنده أصولٌ وضوابطٌ إذا قرأ في كتب التفسير يستطيع أن يميز ويستطيع أن يستخرج الأرجح الأقرب، ويستطيع أن يقارن، ويستطيع أن يختار، ويستطيع أن يجمع أحياناً بين هذه الأقوال ويؤلف بينها؛ فيخرج بمعنى شمولي يليق بظاهر القرآن في ذلك الموضع مثلاً، وهكذا.

قال: والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.

قوله: فقد سألني بعض الإخوان، هنا عنوان: (سبب تأليف الرسالة)، وقوله: والعلم إما نقل مصدق، هنا عنوان: (أقسام العلم)، يعني العلم الصحيح لا يخلو من حالين: إما أن يكون من قبيل النقل المصدق عن معصوم، قال الله، قال رسوله، العلم الذي مصدره الوحي، فهذا إذا صح وثبت فإنه أصل العلم وينبوعه وأساسه، فالعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قولٌ عليه دليلٌ معلوم، هذا القول الذي عليه دليلٌ معلومٌ مثل أقاويل العلماء التي قام الدليل على صحتها. فحينما يقال مثلاً: إنَّ الدُورَ ثلاثة: الدنيا، والبرزخ، والقيامة، مثلاً هذا قولٌ عليه أدلة، هذا قولٌ صحيح، هذا من العلم، حينما نقول: إن العذاب في البرزخ يقع على الروح والبدن، ونستدل على هذا فيكون هذا عليه دليلٌ معلوم.

فالعلم إما نقل مصدقٌ عن معصوم، تقول مثلاً: إن الله -تبارك وتعالى- استوى على العرش، هذا علم، له الأسماء الحسنى، هذا من العلم عن المعصوم، إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة[1]، هذا علمٌ عن معصوم. لكن حينما يقال: إن الاسم الأعظم هو لفظ الجلالة "الله"، يستدل قائل هذا القول بأدلة، إذا كانت هذه الأدلة يصح الاستدلال بها على هذا القول؛ يكون هذا القول من العلم الذي قام الدليل عليه، وهكذا حينما نقول: إن أسماء الله لا يحصيها إلا هو، وإنها أكثر من تسعةٍ وتسعين اسماً، هنا استدل على هذا: أسالك بكل اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسك، أو ذكرتَه في كتابِك، أو علمتَّه أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علمِ الغيبِ عندك[2]، فهذا عليه دليل، أسماء الله لا يحصيها إلا هو، أسماء الله كثيرة، وهكذا، فهذا عليه دليل.

ما عدا ذلك وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود، يعني وما سوى ذلك، أي ما لم يكن من كلام المعصوم الصحيح الثابت، ولا ما قام عليه الدليل، لا يخلو من حالين: إما أنه باطل كالذي يقول مثلاً: إن الله -تبارك وتعالى- لا يتصف بشيء من الصفات، هذا قول باطل ترده الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة، فنعلم بطلانه، فهذا مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود، يتحدث عن قضية ليس فيها ما يدل على صحتها، ولا ما يدل على بطلانها، وهذا كحال كثير من الإسرائيليات.

الإسرائيليات هي المرويات عن أهل الكتاب، فيذكرون أحياناً أشياء وتفاصيل ليس عندنا دليلٌ على أنها صحيحةٌ أو غير صحيحة، فهذه تكون موقوفة، نتوقف فيها، لا نعلم، كما يقول هنا: إنه بهرج، يعني مزيف، هذا معنى بهرج، ولا منقود يعني من الدراهم، الجيد من الدراهم يقال له: منقود، والبهرج ما كانت زيوفاً (زائفة) فهذا لا نعلم هل هو جيد أو باطل؟ هذا الذي قال فيه النبي ﷺ : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[3]، يعني ما علمنا بطلانه مما يخالف ما جاء عن الله وعن الرسول هذا لا يذكر إلا مع بيان بطلانه. وأما ما يوافق ما عندنا فلا بأس بالتحديث به، وكذلك هذا القسم الذي هو واسطة ليس عندنا ما يدل على بطلانه، ولا ما يدل على صحته، فمثل هذا لا بأس بالتحديث به. ومن هنا دخلت أشياء كثيرة في كتب التفسير لقول النبي ﷺ: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج مع أنه دخل أشياء كثيرة هي مخالفة لما عندنا. هذه أقسام العلم، فما عداه هي دعاوى تفتقر إلى إثبات.

قال: وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخلَق على كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صُدق ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قسمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.

هنا يمكن أن نضع عنواناً، وهو: (الحاجة إلى فهم القرآن)، وبالمناسبة فإن العناوين الموضوعة في هذه الرسالة على اختلاف الطبعات واختلافٍ في ألفاظ هذه العناوين إنما هي من وضع من أخرجوا الكتاب، ليست العناوين هذه من وضع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذين أخرجوا الكتاب هم الذين وضعوها، بعضهم وضعها بين معقوفين، وهذا هو الصحيح، وبعضهم لما تتابعت الطبعات أهمل المعقوفين، تركهما، وصار القارئ يظن أن هذه العناوين هي من وضع شيخ الإسلام ابن تيمية، ومثل هذا يحتاج أن يُبين. وهذا معروف في بعض الكتب، حتى في كتب السنة يعني مثل: أبواب صحيح مسلم مثلاً، هل مسلم بن الحجاج هو الذي وضع هذه الأبواب؟

الجواب: لا، ليست من وضع الإمام مسلم، هذه الجمل التي ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله- هذا مقتبس من حديث رُوي مرفوعاً وموقوفاً عن علي - وأرضاه-، عند أحمد والترمذي وغيرهما، ولكنه لا يصح. لكن هذه الجمل هي في وصف القرآن، بليغة، يكثر العلماء -رحمهم الله- من إيرادها وذكرها، تارةً معزوةً وتارةً من غير عزو، كما فعل شيخ الإسلام -رحمه الله- هنا، ما قال: قال علي، أو قال: قال رسول الله ﷺ، وإنما أورده هكذا على طريق الاقتباس.

قال: قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [سورة طه:123-126].

وقال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ۝ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة المائدة:15-16]،

وقال تعالى: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ۝ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سورة إبراهيم:1-2].

وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [سورة الشورى:52-53]، وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

أقول: ومما يتعلق أيضاً بالتعليم والتعلم أنه أحياناً يُخرج عن المقصود الذي اجتمع الناس من أجل دراسته، وهو الفن المعين، ويُشتغل بالتفسير، تفسير الآيات والشواهد التي تذكر في غير موضع الشاهد، يعني تفسر الآية من أولها إلى آخرها تفسيراً تحليلياً، يعني كأننا انتقلنا إلى درس تفسير، وهذا الكلام غير صحيح، يعني تجد مثلاً يُدرس كتاب التوحيد، الآيات التي يذكرها المفروض أن يُذكر منها موضع الشاهد، فأحياناً تُحوَّل القضية إلى شيءٍ آخر فتحلل أجزاء هذه الآيات، وتدرس بطريقة التفسير التحليلي، كل موضع، فمتى ينتهى من هذا الكتاب؟! وليس هذا هو المقصود من دراسته، فيطول.

وقد سمعت من بعض الفضلاء أنه بقي يُدَرِّس كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ثنتي عشرة سنة، إذا كان كتاب التوحيد يدرس بهذه الطريقة فمتى تدرس إذاً الكتب المطولة في العقيدة وفي غير العقيدة؟!

وما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- أنه ألف هذه الرسالة من إملاء الفؤاد فهذا يدل على تبحره، وعلى سعة علمه وحفظه، وأحياناً يكتب في هذه الأجوبة التي صارت علوماً أو متوناً تُدَرَّس ويذكر أنه ألفها في قعدة بين الظهر والعصر، أو نحو ذلك، أو بعد العصر، وأحياناً يذكر أنه كتب بحسب ما تتسع له أوراق السائل. يأتي السائل ومعه ملفات وأوراق كثيرة حتى يكتب فيها من هذا العلم الجم، فرحمه الله.

قال: فصل في أن النبي ﷺ بيَّن لأصحابه معاني القرآن.

ظاهر كلام شيخ الإسلام أن النبي ﷺ فسر لأصحابه جميع القرآن، والأدلة التي استدل بها شيخ الإسلام -رحمه الله- تدل على أنه يقصد هذا. يعني قد يقول بعض طلاب العلم: إن شيخ الإسلام ما يقصد هذا المعنى بدقة، نقول: الأدلة التي استدل بها تدل على أنه يريد هذا المعنى.

والقول الثاني في هذه المسألة معروف -وعليه الأكثر من أهل العلم- أن النبي ﷺ بيَّن لهم ما يحتاجون إليه، عرب فصحاء لا يحتاجون إلى تفسير الواضحات، والله قد جعل هذا القرآن سهلاً ميسراً ليس فيه غموض ومصطلحات صعبة يحتاج الناس إلى كشفها وبيانها، لاسيما ذلك الجيل، فهم بمنزلةٍ من الفصاحة يفهمون معانيه، لكن بيَّن لهم النبي ﷺ ما يحتاجون إليه إما ابتداءً، وإما جواباً على سؤال، وإما فصلاً لاختلاف وقع بينهم، فيبين النبي ﷺ المراد.

قد يبتدئ ﷺ البيان، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [سورة الأنفال:60]. قال ﷺ: ألا إن القوة الرمي[4]، وقد يكون ذلك جواباً على سؤال، فيُسأل عن معنى من المعاني فيبين المراد؛ سئل ﷺ عن أشياء مثل الكلالة، سئل عن أمور أخرى، وقد يختلفون مثل ما ذكرت في الرجل الخدري والعوفي في أول مسجد أسس على التقوى من أول يوم. وقد يستشكلون المعنى فيبين لهم، الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82]، بين لهم أن الظلم: الشرك، وفسره بآية لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13] فهذا بيانه ﷺ.

وأما العموم في قوله تبارك وتعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل:44]، هذا ظاهره العموم؛ فإن "ما" تدل على العموم، فالجواب عن هذا أن البيان تارة يحصل بمجرد التلاوة. النبي ﷺ يقرأ لهم الآيات التي نزلت: الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، قرأ سورة الكوثر ﷺ، وبين المراد بالكوثر، وقرأ النبي ﷺ آيات الربا، وقرأ عليهم آيات الخمر، وما احتاج الأمر إلى تفسير للألفاظ وشرح كما يحتاج إليه الناس اليوم، كذلك لما نزلت الآيات في سورة النور في براءة عائشة -ا وأرضاها- قرأها النبي ﷺ واكتفى بهذا، وهي جملة من الآيات نحو ست عشرة آية، وما فسرها النبي ﷺ جملة جملة، ولفظة لفظة.

فيقال في قوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ إن "ما" هذه للعموم، لكن هذا يحصل تارة بمجرد التلاوة، وتارة يكون ببيان بعض ما تضمنته الآيات من المعاني أو الهدايات، أو نحو ذلك، هذا كله داخل في البيان.

فكلام شيخ الإسلام -رحمه الله- وأدلته التي أوردها تدل على مراده -كما سبق- من أن النبي ﷺ بين لهم كل شيء، وهذا -والله أعلم- لا يخلو من إشكال.
 

قال -رحمه الله-: يجب أن يُعلم أن النبي ﷺ بيَّن لأصحابه معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه.

كما بيَّن لهم ألفاظه، هو بيَّن لهم جميع الألفاظ بمعنى أنه قرأها عليهم، بلغهم جميع القرآن، إذاً هل فسر لهم جميع القرآن؟

هنا يقول: بين لهم معاني القرآن كما بيَّن الألفاظ، إذاً ظاهر كلامه أنه فسر كل معاني القرآن، أقول هذا لأن هناك من يقول: إن شيخ الإسلام -رحمه الله- لا يريد هذا المعنى بحذافيره، وظاهر كلامه بخلاف هذا -والله أعلم-، ولاحظ الآية قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يتناول هذا وهذا، بيان الألفاظ في قراءتها عليهم وتبليغها، وبيان المعاني.

قال: فقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل:44] يتناول هذا وهذا.

مجاهد الذي سيورد شيخ الإسلام بعض كلامه مما يستدل به على أن النبي ﷺ فسر لهم جميع معاني القرآن، مجاهد -رحمه الله- يقول: المراد بهذا التبيين يعني الذي في الآية لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يقول: تفسير المجمل، وشرح ما أشكل، إذ هما المحتاجان للتبيين. كلام مجاهد واضح في أن بيان النبي ﷺ إنما هو لمواضع دعت الحاجة إليها، وأما ما لا تدعو الحاجة إليه فإن تفسير الواضحات لا يطلب.

قال: وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما: "أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل"، قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا"[5].

عندنا اثنان كل واحد منهما يقال له: أبو عبد الرحمن السلمي، هنا ينبغي أن لا يلتبس، هذا من كبار التابعين، وهو إمام من أئمة القراءة، واسمه عبد الله بن حبيبٍ الكوفي المقرئ، هذا ثقة، ثَبْت، إمام مات بعد السبعين، يعني هذا متقدم من التابعين.

وعندنا آخر يرد اسمه كثيراً -أبو عبد الرحمن السلمي- اسمه محمد بن الحسين النيسابوري، هذا صوفي متأخر، توفي سنة 412هـ، الأول: اسمه عبد الله بن حبيب، تابعي، له مؤلفات كثيرة، يقولون: إنها تزيد عن مائة كتاب، من أشهر كتبه في التفسير الكتاب المعروف بـ(حقائق التفسير)، الذي قال عنه الذهبي: "فيه قرمطة" هذا من كبار الصوفية، هذا تفسيره من النوع الذي يعرف بالتفسير الإشاري، صوفي يعني هو لا يفسر على الألفاظ من حيث ما تدل عليه من كلام العرب، وإنما بإشارات، وتستطيع أن تقول: خواطر وخزعبلات في كثير من المواضع، يلقي فيها الكلام على عواهنه من غير خطام ولا زمام، فيذكر في مواضع من كتاب الله تبارك وتعالى؛ لأن التفسير الإشاري لا يستوعب كلَّ موضعٍ في القرآن، وإنما هو في أشياء مفرقة، فيذكر في مواضع ما عنّ له من هذه الخواطر التي لا تنضبط بحالٍ من الأحوال مع طرق الدلالة المعروفة والاستنباط والأصول التي يبنى عليها الفهم والاستنباط، أبداً، هذا يسمى التفسير الإشاري، فهناك منه أنواع قليلةٍ ومفيدةٍ ولطيفة. سيأتي -إن شاء الله- ذكر أشياء منها في الكلام على تطبيقات التدبر، لكن عامة ما يُذكر هو قرمطة، يعني على طريقة التفسير الباطني، ظواهر الألفاظ لا قيمة لها عندهم، وإنما يقولون: لها معانٍ باطنة.

فهذا أبو عبد الرحمن السلمي، مع أنه محدِّث، وبقي أربعين سنة يحدِّث، ويملي الحديث، وهذا من أغرب الأشياء الاشتغال بالحديث مع هذا التصوف المنحرف.

يقول: "حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن، كعثمان الخ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل،" قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا"، هذا أخرجه ابن شيبة وابن جرير، وإسناده صحيح، هذه الطريقة في التعلم عند السلف خمس آيات أو عشر آيات لا يتجاوزونها هي التي سببت طول المدة التي كانوا يحفظون فيها، ولهذا -كما سيأتي- كان الواحد منهم إذا حفظ سورة البقرة وآل عمران جدَّ في أعينهم؛ لأنه تعلم من الأحكام ما يصير به عالماً بخلاف الحفظ المجرد، لهذا فإن طلاب العلم في السابق في ذلك العصر يقال لهم: القراء، من قُتل من القراء في بئر معونة مثلاً، أو في وقعة اليمامة هؤلاء هم طلاب العلم، هؤلاء علماء، فكانوا يحفظون القرآن، ويحفظون معانيه، ويعرفون الأحكام التي اشتمل عليها القرآن ودل عليها، فهذه كانت طريقتهم.

ينضاف إلى ذلك أمر آخر، وهو أنهم كانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن، كما جاء عن عمر وجندب، فيزدادون إيماناً بذلك، فلما جاء من يتعلم القرآن من غير الإيمان صاروا يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم، فلا يؤثر فيهم القرآن في عمل وسلوك وأخلاق، فتجده يحفظ القرآن من أوله إلى آخره، ولربما قرأه في ليلة، ولكنه لا يعقل منه شيئاً ولا يفهم مضامينه.

ولهذا طريقة السلف: التعلم والعمل والإيمان والامتثال، فيظهر ذلك في سمته وهديه ودَلّه وما إلى ذلك، وهكذا في الحديث يتعلمون الحديث، ويعملون به، ثم الحديث، ثم الحديث، ثم هكذا، ما كانوا يحفظون جزافاً بعيداً عن التفقه والفهم والعلم بما تضمنته هذه الأحاديث فإن هذا وحده لا يكفي ولا يسعف، لا يمكن لهذا الذي يحمل هذه المحفوظات الكثيرة أن ينتفع ويستنبط ويستخرج الأحكام إطلاقاً، مع أن هذا الذي ذكره مع كونه يُشعر أن هذه هي الطريقة المسلوكة كما جاء عن ابن مسعود عند ابن جرير بإسنادٍ حسن: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من القرآن لا يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"[6].

هذه الطريقة هي الشائعة والذائعة عندهم، لكن يوجد صور خارجة عن هذا في زمان السلف مثلاً في كتاب (السبعة) لابن مجاهد -القراء السبعة- ذكر أن مسلم بن جندب الهذلي المقرئ، هذا متقدم من التابعين، هذا شيخ الإمام نافع قارئ أهل المدينة، من القراء السبعة، متوفى بحدود سنة 110هـ، وعَمَّر طويلاً، مسلم بن جندب كان يعلمهم في أول النهار ثلاثين آية، وفي العشي ثلاثين آية، فهذه ستون، وهذا من التابعين.

أبو وائل شقيق بن سلمة هو من التابعين أيضاً، حفظ القرآن في شهرين، وهذا ذكره المزي في (تهذيب الكمال)، هذه حالات قليلة، لكن الغالب أنهم كانوا يتعلمون عشر آيات، عشر آيات، ولو مشى الإنسان على هذا، وتعلم وتفقه وفهم هذه العشر الآيات أو على الأقل قرأ تفسيراً مختصراً لها، فهذا لا شك أنه أفضل، وأنفع، وأكثر بركة.

  1. صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب إن لله مئة اسم إلا واحدا برقم (7392).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (3712)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف كما قال الدارقطني في (العلل) (5/201)"، والمستدرك، برقم (1877)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3528).
  3. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3461)، وأبو داود، كتاب العلم، باب الحديث عن بني إسرائيل، برقم (3662)، وأحمد في المسند، برقم (10130)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن عمرو -وهو ابن علقمة الليثي- فهو حسن الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف".
  4. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه، برقم (1917).
  5. تفسير الطبري (1 /80)، برقم (82)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1184).
  6. تفسير الطبري (1 /80)، برقم (81).

مواد ذات صلة