الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
‏‏(04) قول الماتن " وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف ‏تضاد ... "‏
تاريخ النشر: ١٩ / شوّال / ١٤٣٤
التحميل: 6656
مرات الإستماع: 4369

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فذكرنا نوعين من أنواع -أو صورتين من صور- اختلاف التنوع:

الأول: الأسماء والأوصاف.

الثاني: من قبيل التفسير بالمثال.

الثالث: أن يعبروا عن المعنى بألفاظ متقاربة لا مترادفة، بمعنى أن المترادفة تختلف الألفاظ ولكنها تتفق في المعنى مائة بالمائة، يعني أن كل لفظ يؤدي تمام المعنى الذي يؤديه اللفظ الآخر، وهذا سيتم مناقشته -إن شاء الله- هل يوجد أو لا يوجد في اللغة وفي القرآن؟

فهم يعبرون بألفاظ متقاربة ليست مترادفة، وهذا ذكره شيخ الإسلام ومثل له بتفسير المَوْر: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [سورة الطور:9]، فالمَور فُسِّر بالحركة، هذا معنى مقارب، وإلا فالمور حركة خاصة، يعني حركة سريعة، ليست كل حركة يقال لها: مور، ومثّل لذلك بتفسير الوحي بالإعلام أو الإنزال، شيخ الإسلام وكثير من أهل العلم يقولون: إن الوحي إعلام خاص، يقصدون بهذا أنه إعلامٌ بسرعةٍ وخفاء، بهذين القيدين، قاله ابن حجر وغيره كثير، وإن كان يقال: هذا قد يحتاج إلى شيء من التأمل، فإن الوحي قد لا يكون فيه السرعة ولا الخفاء.

الوحي يطلق على الكتابة، قال: وحْيٌ في حجر: نقش في حجر، أين السرعة والخفاء؟

وأحياناً يكون فيه سرعة وخفاء:

فأوحى إليها الطرفُ أني أحبُّها فأثّر ذاك الوحيُ في وجناتها

يعني أشار إليها بعينه إشارة فهمت المراد، إشارة خفية أوصلت إليها رسالةً أنه يحبها؛ فظهر أثر هذا بالحياء –الخجل- في وجناتها، لكن جبريل لما جاء إلى النبي ﷺ، وعليه ثياب شديدة البياض.. الخ، وسأل النبيَّ ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان جاء بصورةٍ ليس فيها سرعة، وقد يقال: ليس فيها خفاء. المقصود المثال وليس المناقشة للأمثلة، كثير من أهل العلم يقولون: الوحي إعلامٌ خاص، يعني بسرعة وخفاء، هذا يقرب لك المراد، هل هذا شرط أو ليس بشرط؟ هذه مسألة أخرى، المقصود التفسير، فهذا مرادهم.

الرابع: أن يُبنى أحد التفسيرات على أصل وضع اللغة، والثاني يراعى فيه المعنى والاستعمال، يعني في كثير من الأقوال أحياناً يقال: هذا تفسيرٌ على المعنى، يعني أنه لم يراعَ فيه اللفظ بما يكون نظيراً له، وإنما يفسَّر على المعنى مثل -الجميع يرجع إلى شيء واحد في النهاية هذا اختلاف تنوع- في قوله: وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ [سورة الواقعة:73] النار هذه التي في الدنيا وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ حينما يقال: للمسافرين هذا ليس بتفسير على اللفظ، وإنما هو تفسير على المعنى، باعتبار أن أصل هذا اللفظ –للمقوين- يعني للنازلين في الأرض القَواء، الأرض القَواء يعني القفر الخالية، والذين ينزلون بالأرض القفر هم المسافرون، فاختصر هذا لك الطريق وبدلاً من أن يعبر لك بعبارات قد تكون أيضاً صعبة فيكون كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء، يقول: للمقوين: النازلين بالأرض القَواء، ثم تحتاج أن تسأل وتقول: وما المراد بقوله: النازلين بالأرض القواء؟

فقال: للمقوين يعني للمسافرين، هذا ليس بتفسير على اللفظ، وإنما هو تفسير على المعنى، راعى المعنى المراد وأعطاك نتيجةً مباشرة، فهذا يقول: للنازلين في الأرض القواء، وهذا يقول: للمسافرين، هذا الاختلاف يعتبر حقيقياً يحتاج إلى ترجيح؟ فنقول: القول الأول: للمسافرين، القول الثاني: للنازلين في الأرض القواء؟ ما نحتاج إلى هذا، نقول: هذا كله يرجع إلى شيء واحد، هذا فُسِّر على اللفظ، وهذا فُسِّر على المعنى، والحمد لله، الأمر في هذا يسير، هذا من قبيل اختلاف التنوع.

في قوله -تبارك وتعالى-: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌأَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ [سورة الرعد:31] القارعة بعضهم يقول: الداهية التي تفجعهم، وبعضهم قال: سرية من سرايا رسول الله ﷺ، فهذا الذي قال: القارعة هي الداهية (المصيبة) هذا تفسير على اللفظ، والذي قال: سرية من سرايا النبي ﷺ تغزوهم هذا فُسِّر على المعنى. يعني كلمة قارعة في اللغة ليس معناها سرية، لكن هو نظر إلى المعنى ففسر ذلك بالمعنى، لم ينظر إلى اللفظة وما يكافئها، ما معناها اللغوي مثلاً، فهذا يعتبر من باب اختلاف التنوع.

الخامس: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد، مثل حينما يختلفون هل المفهوم له عموم أو ليس له عموم؟

الكلام منطوق ومفهوم، اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة البقرة:257]، المنطوق أنه ولي المؤمنين، المفهوم مفهوم المخالفة ليس بولي للكافرين، هذا مفهوم، هذا المسكوت عنه، فهذا المفهوم هل له عموم أو ليس له عموم؟ بعضهم يقول: لا عموم له، وبعضهم يقول: له عموم، لو أردنا أن نحرر الاختلاف وجئنا وجهنا سؤالاً لكل قائل، وقلنا للذي يقول: فيه عموم، ماذا تقصد بهذا العموم؟

قال: أقصد أنه يشمل جميع أفراد المسكوت عنه، ليس بولي للكافرين بكل طوائفهم ومللهم. جئنا للذي يقول: ليس له عموم قلنا له: ماذا تقصد؟

قال: أقصد أن المنطوق لا يدخل فيه، فأين العموم؟ يقول: نعم، نعم، أنت الأول الذي تقول: له عموم هل تقصد أن المنطوق داخل فيه؟

قال: لا، لا، أنا ما أقصد هذا، أنا أقصد عموم المفهوم من جهة المسكوت عنه يشمل جميع السور.

نأتي للذي يقول: ليس له عموم، نقول: تنكر كلام هذا؟ قال: لا، أنا ما أنكر ويشمل جميع الصور في المسكوت عنه، نقول: إذاً أنت نظرت إليه من زاوية وهذا نظر إليه من زاوية، ليس بينكم اختلاف، أنت تتكلم عن أمر لا ينفيه الآخر، وهو يقرر أمراً أنت لا تنكره، وهذا كثير في المختلفين.

هذا يتحدث عن زاوية وهذا يتحدث عن زاوية أخرى، وتجد الجدال أحياناً، فإذا حررت محل النزاع وجدت أنهم في الواقع يتفقون، ليس بينهم اختلاف حقيقي.

من هذا الاختلاف الذي هو من قبيل التنوع أن يكون التنوع بالصيغ، والهيئات، والصفات، والألفاظ المتلقاة عن الشارع، هذا ما هو اختلاف تضاد، هذا اختلاف تنوع وله صور وله أنواع.

الآن انظر مثلاً في الأذان والإقامة، ألفاظ الأذان والإقامة تجد المذاهب يختلفون في عدد هذه الألفاظ هل هذا اختلاف تضاد أو اختلاف تنوع؟

اختلاف تنوع، هذا بناء على حديث وهذا بناء على حديث، فكل ذلك منقول عن الشارع، ولو أن المؤذن -إذا كان هذا لا يسبب لبساً على الناس- مرة أذن بهذه بناء على هذه الرواية، ومرة أذن على هذه الرواية، فيكون قد نوَّع. مرة أقام بكذا ومرة أقام بهذا، صفة صلاة الخوف متنوعة متعددة، كل هذا منقول عن الشارع، هذا لا يحتاج إلى ترجيح، فيصلي بحسب الإمكان، بحسب الحال الواقعة. عندنا صيغ التشهد والصلاة على النبي ﷺ ينوع في كل مرة نوعاً، أدعية الاستفتاح، ما يقال في الركوع والسجود ينوع، القراءات الصحيحة الثابتة المتواترة، هذا في الواقع كله من اختلاف التنوع.

وفي بعض المواضع تجد الأقوال في التفسير في الآية هذا القول بناء على قراءة، وهذا القول بناء على قراءة، أحياناً يذكر هذا وأحياناً لا يذكر، وإنما يعرف بالتتبع والنظر والاستقراء فتعرف أنه لا يوجد اختلاف حقيقي. مثلاً في تفسير قوله تعالى: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86] تجد أن البعض يقول: حارة، والبعض يقول: متغيرة منتنة، الواقع أن من قال: حارة هو يفسر القراءة الأخرى المتواترة (حامية"، ومن قال: منتنة متغيرة هذا يرجع إلى القراءة الأخرى وهي (حمئة) الحَمَأ: طين متغير، الحمأ المسنون، فهذه العين متغيرة، فهذا كله ليس من الاختلاف الحقيقي.

نوع آخر وصورة أخرى: أن تُنقل الأقوال عن قائل واحد، ويكون قد رجع عن أحد القولين، فقوله هو الذي آل إليه وصار، وأما الذي رجع عنه فلا يعد من الأقوال. ويشبه هذا أن يصدر ذلك من القائل الواحد على سبيل ذكر الاحتمالات، يعني هو ما نسبه إلى قائل، لا يعرف أن أحداً قال بهذا القول، ولكنه ذكره على سبيل الاحتمال، تجدونه في كتب التفسير، ويُذكر في كتب الفقه، وفي شروح الحديث، يقول: ويحتمل كذا، يحتمل أن المراد، أن المعنى كذا. يذكر معنى، ثم يقول: ويحتمل، فإذا نظرنا إلى الأقاويل التي ذكرت في الآية وعددناها، هل نذكر هذا الذي ذكره فلان مثل صاحب التفسير الكبير مثلاً يذكر احتمالات، هل نذكر هذه الاحتمالات؟

ابن جرير مثلاً يذكر الاحتمالات، يقول: لو قال قائل بكذا لم يكن مستبعداً مثلاً، هل هذا الاحتمال الذي ذُكر يعد من جملة الأقوال؟ فنقول: الأول والثاني والثالث والرابع هو الذي ذكر احتمالاً؟ الجواب: لا، لا نذكر مثل هذه الاحتمالات؛ لأنه لا قائل بها أصلاً، لا يوجد من تبناها، وإنما هي ذكرت على سبيل الفرض والاحتمال، فأحيانا قد يوجد قولان أحدهما ذكر على سبيل الاحتمال، فلا يعد ذلك من قبيل الاختلاف.

نوعً آخر: وهو أن يقع الاختلاف في تنزيل المعنى الواحد: فمثلاً عند القائلين بالمجاز بعضهم يحمله على الحقيقة، وبعضهم يحمله على المجاز، والنتيجة أن ذلك يرجع إلى معنى يدخل تحت الآية. خذ على سبيل المثال، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [سورة الروم:19]، من فسره على الحقيقة قال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، الحي من الميت، الفرخ من البيضة، حي من ميت. ويخرج الميت من الحي البيضة من الدجاجة، هذا فسره على الحقيقة.

 طبعاً العلماء سواء كان في التفسير أو في الفقه حينما يقولون: حي وميت، إنما يطلقون الحياة والموت باعتبار الروح، فالإنسان عندهم قبل الأربعة الأشهر ونفخ الروح يعتبر ميتاً، الحيوان المنوي ميت. هم يقصدون بالحياة الحياة الشرعية التي يترتب عليها الأحكام، الروح التي تعمر الجسد، فحينما يقولون: يُخرج البيضة من الدجاجة البيضة لما تخرج من الدجاجة تعتبر ميتاً من حي، هذا على الحقيقة.

من فسره بالمجاز عند من يقول بالمجاز والأمر في هذا يسير، بعض أهل السنة يقولون بالمجاز لكن لا يُعملونه، لا يجعلونه مِعْولاً في تحريف النصوص الصفات وغيرها. فعند القائلين بالمجاز يقول: يخرج الحي من الميت، المؤمن من الكافر، ويخرج الميت من الحي، الكافر من المؤمن مثلاً، هذه حياة وموت مجازي عند القائلين بالمجاز، فالله -تبارك وتعالى- سمَّى المؤمن حياً، وسمى الكافر ميتاً، قال الله تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [سورة الأنعام:122] كان ميتاً بالكفر فأحياه بالإيمان فهذا معنى.

 الآن حينما يقول قائلون في هذه الآية: يخرج الحي من الميت، البيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والآخر يقول: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، هذا كله يدخل تحت معنى الآية، ويدل على قدرة الله التي أريد تقريرها بهذا الموضع من كتاب الله تبارك وتعالى، فلا يحتاج إلى ترجيح.

 لكن انظروا الآن هل هذا يعتبر في ذاته -إذا نظرنا إليه- اختلافاً حقيقياً أو اختلافاً صورياً في ذاته؟ هذا يقول: المؤمن، وهذا يقول: البيضة والدجاجة، هل في حقيقته المؤمن هو الدجاجة؟ والكافر هو البيضة؟ المعنى واحد؟ الجواب: لا، هذا اختلاف حقيقي، لكنه يرجع في المآل إلى شيءٍ واحد، وهو أن هذه المعاني كلها داخلة تحت الآية، ولا نحتاج إلى أن نرجح ونقول: الراجح كذا، وبهذا يكون من اختلاف التنوع باعتبار المآل، كما قلتُ: سأطبق لكم في الأمثلة على ما سبق، وسأذكركم به.

نوع آخر: الاختلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود مع كونه متحداً: بماذا نعبر عن هذا المطلوب؟ مثلاً الخبر، ما هو الخبر؟ يقول: ما يحتمل التصديق والتكذيب، أنا الآن سأورد عليه سؤالاً وانظروا هل يتراجع عن كلامه أو يضطرب أو يثبت؟ إذا قلت لك: قال الله، قال النبي ﷺ، هذا يحتمل التصديق والتكذيب؟ كيف تقول الخبر يحتمل التصديق والتكذيب؟ هذا خبر قال الله كذا، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الزمر:62]، خبر، النبي ﷺ قال: إنما الأعمال بالنيات[1] خبر، هذا يحتمل التصديق والتكذيب؟ إذاً كيف تقول: الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب أو الصدق والكذب؟ أجب، تحير واضطرب.

 بالنسبة للمتلقي أنت الآن تصف الخبر من حيث هو، تقول: يحتمل هو في ذاته التصديق والتكذيب؟ ولهذا يزيدون: بغض النظر عن القائل، وبعضهم يزيد يقول: لذاته، ما معناها؟ يعني بصرف النظر عن نسبته إلى قائل معين، خبر من حيث هو، بعضهم يقول: حتى مع هذا ما نقبل هذا الكلام، بعضهم يقول: هناك قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب. فهذا الاختلاف في التعبير عن الخبر، لكن هم يعرفون حقيقة الخبر، ولا يختلفون في حقيقته، كلهم يعبر عنه بعبارة ليس عليها استدراك. فهذا الاختلاف هو يرجع إلى شيء واحد لكن التعبير عنه اختلف، وإلا فالخبر هم يعرفونه، وهم متفقون على فهمه، وأن الخبر غير الإنشاء، قولهم: جاء زيد، غير اذهبْ، هذا إنشاء أمر ونهي، لكن حينما يقال: ذهب زيد هذا يحتمل الصدق والكذب.

والذي يرد عليه هذه القضية الخبر الذي يضاف إلى الله وإلى النبي ﷺ، فهنا تضطرب الأقوال ويبدأ وضع محترزات، والآخر يعترض عليها، والثالث، فهذا ليس باختلاف حقيقي، هذه صور عشر ويمكن أن يزاد عليها، كما قلت: مجموع ما يؤخذ من كلام هؤلاء العلماء كالجزري، والشاطبي، وابن تيمية -على سبيل المثال هؤلاء الثلاثة- قد يصل إلى العشرين أو يقرب من العشرين.

قال -رحمه الله-: وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر.

هذه الأنواع التي ذكرها شيخ الإسلام ذكرتها فما نحتاج أن نقف معها طويلاً، هي مضت في ضمن الأنواع والصور العشر التي ذكرناها، تكون واضحة.

قال: مع اتحاد المسمى، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة.

شيخ الإسلام هنا يقول: بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة، المترادفة: المعنى متحد والألفاظ متعددة، فحينما تقول: جاء، وأقبل، وأتى. ونحو ذلك جلس، وقعد، هذه ألفاظ هي من قبيل الترادف، ألفاظ متعددة والمعنى واحد. يخشى الله، يخاف الله، الخشية، الخوف، الوجل. سواء كان ذلك في الأفعال أو في الأسماء، هذا كثير جداً، بصرف النظر هل كل لفظ يؤدي إلى معنى اللفظ الآخر بحذافيره أو لا، المقصود الآن تقريب معنى المترادف، ألفاظ متعددة تؤدي معنى واحداً.

فهنا شيخ الإسلام يقول: كل واحد منهم يعبر بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة. المترادفة: ألفاظ متعددة مؤداها واحد. المتباينة: تختلف، تقول: كتاب، ساعة، لاقط، مناديل، كرسي، مسجد، هذه متباينة، فالكرسي غير المسجد غير اللاقط غير الكتاب، هذه متباينة، لكن جاء وأقبل وأتى هذه مترادفة.

الأسماء المتكافئة: هذه الحدود هي في الأصل يذكرها أهل المنطق وتسربت إلى بعض كتب اللغة المتأخرة، وإلا فالأصل في التكافؤ في اللغة معنى التساوي، هذا يكافئ هذا يعني يساويه، هذان متكافئان أي متساويان. فتسربت هذه الألفاظ المنطقية كما تسربت بعض العلل الكلامية في كتب اللغة المتأخرة، عندك القاموس، لسان العرب، وأمثال هذه الكتب تسرب إليها بعض هذه المزاولات التي جاءت من قبل أهل المنطق وعلم الكلام، هذه جاءت للأسف إلى علم البلاغة، علم المصطلح، علم أصول الفقه، كتب اللغة المتأخرة، ولهذا تجد في بعض كتب اللغة المتأخرة استوى بمعنى استولى مع أن هذا لا يعرف في اللغة، جاءت من الانحرافات التي دخلت في العلوم المختلفة، لكن لما ترجع إلى كتب المتقدمين (تهذيب اللغة للأزهري) مثلاً، وأمثال هؤلاء سيبويه والخليل ما تجد عندهم هذه الانحرافات، كتبهم نظيفة نقية.

فالمقصود هنا الألفاظ المترادفة والمتكافئة والمتباينة، هذه النِسَب التباين، التماثل، التناقض، التضاد، هذه تجدها في كتب المنطق، وتسللت إلى كتب أصول الفقه وبعض كتب اللغة.

التكافؤ هذه النسبة لا تكاد توجد في كتب المنطق، ولا في كتب اللغة في جملة هذه النِسَب، يذكرون التكافؤ يقولون: المتساوي في كتب اللغة، فماذا يريد شيخ الإسلام من هذا الإطلاق الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة؟

فالمترادفة ألفاظ متعددة لمعنى واحد، المتباينة ألفاظ متعددة لمعانٍ متعددة، المتكافئة وسط، هي ألفاظ متعددة لمسمى واحد، كل لفظ يحمل صفة لهذا المسمى مثلاً، يعني هي ليست مجرد ألفاظ متكررة لمسمى واحد دون أن يضيف كل لفظ وصفاً أو معنى جديداً غير الذي أضافه اللفظ الآخر. هذه هي التي يقصد بها شيخ الإسلام -رحمه الله- هذا النوع (المتكافئة)

 يقول: كما قيل في اسم السيف، وهذا ما مثلنا له، لكن ما عبرت لكم بعبارة متكافئة، كان المقصود التقريب. السيف المسمى واحد، لو كانت الألفاظ والعبارات كل واحدة تؤدي نفس المعنى بحذافيره الذي تؤديه اللفظة الأخرى لكان ذلك من قبيل الترادف، لكن لما كان كل لفظ يحمل دلالة ومعنى أو صفة أخرى جديدة للمسمى؛ صار هذا من قبيل التكافؤ.

إذاً مسمى واحد، ألفاظ متعددة، كل لفظ يحمل صفة أو إضافة أو معنى لهذا المسمى الواحد، فصار هذا بين المترادفة التي هي ألفاظ تعطينا مائة بالمائة نفس ما يؤديه اللفظ الآخر لهذا المسمى الواحد، وبين المتباينة التي هي ألفاظ متعددة لمسميات متعددة، ساعة، ومسجد، فهذه مسمى واحد وألفاظ متعددة كل لفظ فيه إضافة، مثل ما ذَكر الصارم والمهند، أسماء الله الحسنى، أسماء النبي ﷺ، أسماء القرآن.

أسماؤنا مجرد أعلام محضة لا تدل على أوصاف فينا، قد يسمى الإنسان "صالح"، وقد يسمى "فالح"، و"كريم"، وليس فيه من هذا شيء، هي مجرد أعلام للتعريف.

أما أسماء الله وأسماء القرآن وأسماء النبي ﷺ فإن هذه أسماء وأوصاف، فالمسمى واحد، وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [سورة الأعراف:180]، أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]. فإذا قلت: الرحمن. فالمسمى واحد، لكن هذا يدل على صفة الرحمة، وإذا قلت: العزيز. المسمى واحد، لكن هذا الاسم دلَّ على صفةٍ أخرى، وهي العزة، فإذا قلت: الكريم. صفة أخرى والمسمى واحد.

أسماء القرآن والمشهور أنها أربعة والباقي أوصاف، فعندنا الفرقان من أسمائه؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل. الكتاب باعتبار أنه مكتوب، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن كتابة القرآن في عهد عثمان ليست من قبيل المصالح المرسلة، بل دل عليها القرآن، مع أن هذا مثال مشهور للمصالح المرسلة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]. القرآن باعتبار معنى الضم والجمع أو الإلقاء،

فالمقصود أن أسماء القرآن كل اسم يتضمن معنى، وأسماء النبي ﷺ كل اسم يتضمن معنى، أي صفة يتصف بها النبي ﷺ وهكذا أسماء الله -تبارك وتعالى.

قول النبي ﷺ في حديث جبير بن مطعم: إن لي أسماء أنا محمد (من الحمد)، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي[2]، هذا مخرج في الصحيحين، فهذه الأسماء للنبي ﷺ كل اسم يدل على صفة، أما أسماؤنا نحن فلا تدل على أوصاف ترجع إلينا، سمانا بها أهلنا فقط للتعريف، وإن كان ابن القيم -رحمه الله- يقول: لكل مسمى من اسمه نصيب، لكن يقول: إما على الضد أو المطابقة، إذا كان اسمه "صالح" فهو إما صالح وإما طالح، وإذا كان اسمه "كريم" فهو إما كريم أو غير كريم، وهكذا.

قال: كما قيل في اسم السيف الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسول الله ﷺ، وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضاداً لدعائه باسم آخر، بل إن الأمر كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] وكلُّ اسمٍ من أسمائه يدل على الذات المسماة ويدل على الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة.

دلالته على ذلك جميعاً معروفة بدلالة المطابقة، دلالته على تمام المعنى، وإذا أريد به بعض ذلك، إذا أريد به الصفة مثلا أو الذات فهذا يكون من قبيل دلالة التضمن، دلالة اللفظ على بعض معناه تسمى دلالة تضمن.

قال: ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر.

كأنه يشير إلى ابن حزم -رحمه الله- فابن حزم على ظاهريته في الفروع، فهو كما قال ابن عبد الهادي: على تجهم في الأصول، يعني أن ابن حزم يرى أن أسماء الله -تبارك وتعالى- مجرد أعلامٍ لا تدل على أوصاف، وهذا قول باطل بخلاف قول السلف.

قال: فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال هو حي ولا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين، فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسماً هو علَم محض كالمضمرات.

علَم محض يعني لا يدل على صفة، الآن كالمضمرات حينما تقول مثلاً: "هو"، فهذا لا يدل على صفة، لكن لما تقول: العزيز يدل على صفة العزة، شيخ الإسلام يقول: إن القرامطة الباطنية لا ينكرون أصل هذه الأسماء أنه يسمى بها، لكنهم يقولون: لا تدل على أوصاف تعود إلى الله -تبارك وتعالى-، فيقول: إن هذا الذي يقول: إن أسماء الله هي مجرد أعلامٍ محضةٍ جامدةٍ لا تدل على أوصاف، هذا قوله من جنس غلاة القرامطة والباطنية.

يعني دلالة الله العزيز الحكيم الرحمن الرحيم مثل دلالة "هو" فقط، "هو" لا تدل على صفة، تدل على ذاته فقط، على تعيين المسمى ولكن لا تتضمن أوصافاً.

قال: وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقا لغلاة الباطنية في ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك، وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته، ويدل أيضاً على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم.

كل اسم يدل على الذات وعلى الصفة أو الصفات التي تضمنها هذا الاسم، مثل المجيد، المجد مجموعة أوصاف تدل على السعة في الأوصاف والكمالات، لا يفسر بلفظة واحدة فهناك أوصاف يسمونها الصفات الجامعة، لا تفسر بصفة واحدة، وإنما هي مجموعة أوصاف حتى يكون منها المجد مثلاً، وهكذا مثل العزة لا تكون بمجرد القوة، لابد معها من مجموعة من أوصاف أخرى، مجموعة من الأوصاف يلتئم منها معنى وهو العزة.

يقول: ويدل أيضاً على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم، يعني حينما نقول: من أسمائه -تبارك وتعالى- الرب، رب الناس، رب العالمين، رب هذا اسم يتضمن صفة الربوبية، ويدل باللزوم على صفة الحياة، فإن الرب لابد أن يكون حياً، ويدل على الغنى، كيف يكون رباً ويربيهم بالنعم، ولابد أن يكون قادراً سميعاً بصيراً، كيف يدبر أمر الخليقة وهو لا يعلم بتفاصيل ودقائق أحوال هؤلاء الناس، الخلق؟!فهذا يسمونه بطريق اللزوم.

وهكذا حينما يقال: الخالق الرازق؛ لابد أن يكون قادراً حياً عليماً، لابد أن يكون عليماً بأحوال هؤلاء المرزوقين المربوبين وهكذا.

قال: وكذلك أسماء النبي ﷺ مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب، وكذلك أسماء القرآن مثل: القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب، وأمثال ذلك.

هذه الأسماء التي ذكرها بعضها من قبيل الأوصاف، وبعضها من قبيل الأسماء، فالأسماء الكثيرة التي يذكرها بعض أهل العلم هي من الأوصاف، وإنما الأقرب أن أسماء القرآن أربعة، يعني الأسماء المشهورة هي: القرآن، الفرقان، الكتاب، الذكر، هذه الأربعة والباقي -والله أعلم- من قبيل الأوصاف، بعضهم ألف مجلداً في أسماء القرآن وذكر الأوصاف.

قال: فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم، وقد يكون الاسم علماً وقد يكون صفة.

وقد يكون الاسم علماً، وقد يكون صفة، علم مثل: زيد وعمرو، زيدٌ سافر وعمروٌ درس وما أشبه ذلك فهذا علَم، وقد يكون صفة كأن يقال: ذو اليدين، هذه صفة تعين بها وعُرف أنه فلان، الأعمش، الأعرج معروف هو فلان وما أشبه ذلك، فالمقصود هو تعيين المسمى سواء بذكر اسمه العلم أو بذكر الصفة.

قال: كمن يسأل عن قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي [سورة طه:124] ما ذكره؟ فيقال له: هو القرآن مثلاً أو ما أنزله من الكتب.

يعني هنا المراد تعيين المسمى، ما المراد بالذكر هنا في الآية؟ فإذا قلت: القرآن تكون قد عرفته إياه بذكر اسمه العلم المتضمن للصفة، وإذا قلت: ما أنزله من الكتب، أو الكتاب الذي أنزله على النبي ﷺ عرفته بصفه، أو قلت: الكتاب المعجز المنزل على النبي ﷺ هذا تعريف بالصفة، أو إذا قلت: القرآن هو الشفاء والنور والهدى الذي أنزله على النبي ﷺ هذا تعريف له بالصفة.

قال: فإن الذِكْر مصدر، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل، وتارة إلى المفعول.

الذكر مصدر، المصدر المقصود به ما يأتي ثالثاً في تصريف الفعل، ذكر يذكر ذكراً، والأجود في رد المواد في اللغة إلى المصادر لا إلى الماضي، يعني نقول: ما أصل هذه المادة؟ هل نقول: أصلها "ذَكََرَ" الفعل الماضي كما يفعل أهل اللغة -القواميس-، أو يقال: الذكر، نردها إلى المصادر؟ ردها إلى المصادر أحسن وأدق، وهذا صنيع بعض الأئمة، هذه فائدة جانبية لكن هنا يقول: المصدر، والمصدر عرفنا أنه ما يأتي ثالثاً في تصريف الفعل كتب يكتب كتابة، هذه ثلاثة، رقم ثلاثة هذا هو المصدر قرأ يقرأ قراءة.

يقول ابن مالك:

المصدرُ اسمُ ما سوى الزمانِ مِن مدلولَي الفعلِ كأمْنٍ مِن أمِن

الآن هذا الفعل أمِنَ يأمن أمناً، الأمن هذا هو المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل. الفعل يدل على شيئين لو جئنا الآن فككنا فعلاً من الأفعال، نريد أن ننظر ما بداخله، هذا فعل، الآن فتحنا القشرة سنجد داخل الفعل شيئين: الشيء الأول الزمن ذهب في الماضي، يذهب في المضارع، اذهب في المستقبل، نجد زمناً. ونجد نسبة وهي الذهاب ذهب يذهب اذهب، قرأ يقرأ القراءة، النسبة هي القراءة فدخل عليها الزمن، فصارت في الماضي أو المضارع أو المستقبل، فإذا فككت الفعل تُحصّل في داخله قضيتين، لذلك:

المصدرُ اسمُ ما سوى الزمانِ مِن مدلولَي الفعلِ كأمْنٍ مِن أمِن

يعني أبعِد الزمن، فإذا أبعدتَ الزمن يبقى النسبة: الذهاب، المجيء، لاحظ الذهاب في أي وقت، لو سألتكم الذهاب تقدر تقول لي: في أي زمن؟ ما فيه زمن، القراءة ما فيها زمن، الكتابة، الأكل، النوم، لكن عندما أقول: نام، قرأ، هذا متى؟ في الماضي، يقرأ، يأكل يعني الآن، كل، نم يعني في المستقبل.

فهنا يقول: الذكر مصدر، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة يضاف إلى المفعول، الآن كلمة ذكر هذه مصدر مضاف إلى ياء المتكلم، ياء المتكلم هنا في هذه الآية: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، هل هي فاعل أو مفعول؟ هذا يحتمل أن تكون الياء في محل رفع فاعل، ويحتمل أن تكون في محل نصب مفعول به، وإن كانت من قبيل المضاف إليه، والمضاف إليه مجرور، لكن الأصل، فيحتمل هذا كما يحتمل في قوله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ [سورة الرعد:28] لاحظ هنا أضيف إلى ضمير المتكلم وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، وهنا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، ذكر الله أضيف إلى الاسم الظاهر ولم يضف إلى الضمير، فهو مصدر مضاف سواء إلى ضمير أو إلى اسم ظاهر.

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا [سورة الزخرف:36] فذكر مضاف إلى الاسم الظاهر، وهو الرحمن، كل هذا مصدر مضاف في هذه الآيات، والكلام فيها هو نفس الكلام في هذه الآية: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي مصدر مضاف إلى ياء المتكلم، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، هل هذا من الإضافة إلى الفاعل أو المفعول؟

كيف نعرف أنه إلى الفاعل أو إلى المفعول في هذه الأمثلة، الفاعل كيف يكون المعنى؟ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي عن ذكري يعني عن القرآن، مَن الذي ذكر القرآن وتكلم به؟ الله، فهنا أضافه إلى من تكلم به، ذكر الرحمن، تطمئن قلوبهم بذكر الله، وذكره الذي تكلم به هو القرآن، فيكون: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي يعني عن كتابي الذي فيه المنهاج الذي يسير عليه الناس، فتحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:124].

القرآن هذا فيه البرنامج كما يقال في الكتب التي توضع لتشغيل الآلات وتسييرها كتلوج يمشي عليه هذا الإنسان، فإذا أعرض عنه حصل له الخلل والاضطراب، ويحصل له ضيق الصدر والكآبة، ولو كان يتقلب في أنواع النعيم فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.

تطمئن قلوبهم بذكر الله هو كلامه وقراءة القرآن، والإقبال عليه من أسباب طمأنينة القلب، وهكذا في قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا يعني مَن يعرض عن القرآن.

الآن وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي إضافة إلى الفاعل، يعني الذي ذكرته وتكلمت به، فذكره هو كلامه، فيكون كلامه من قبيل الإضافة إلى الفاعل. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي يعني لم يذكر ربه، سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، لم يذكرني، يكون هنا مضافاً إلى المفعول.

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ بذكر الله يعني يذكرون الله، إذا ذكروه اطمأنت قلوبهم، إذا قالوا: سبحان الله، لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله هدأت النفوس واطمأنت القلوب.

وعلى الأول إضافة إلى الفاعل، بذكر الله: ما ذكره -- وتكلم به وهو كلامه.

بعض العلماء يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، القول الأول: يعني هذا من قبيل الإضافة إلى الفاعل أعرض عن القرآن، وهذا الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم، ومنهم الحافظ ابن القيم -رحمه الله-، واحتجوا على هذا بأدلة منها قرينة في نفس الآية فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [سورة طه:124] قالوا: هذا الهدى هو القرآن، ثم قال بعد ذلك: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي هذا الهدى الذي جاء، فهذا من قبيل الإضافة إلى الفاعل.

وابن القيم -رحمه الله- اعتبر القول الآخر: أنه من قبيل الإضافة إلى المفعول، ذكْر الله أنه يذكر ربه أنه لازم للقول الأول. إذا قلنا: إنه مضاف للفاعل القرآن فإنه إذا قرأ القرآن يكون قد ذكر ربه، إذا أقبل على القرآن واشتغل به ففيه ذكر أسمائه وصفاته وكمالاته وحمده، وذكره بجميع أنواعه.

ابن القيم -رحمة الله عليه- جعل الذكر أنواع:

النوع الأول: ذكره بأسمائه وصفاته، وهذا موجود في القرآن.

النوع الثاني: التسبيح والتحميد والتكبير، وهذا هو الغالب في استعمال الذكر عند المتأخرين، وهذا موجود في القرآن.

النوع الثالث: ذكره بأحكامه ونواهيه وأوامره، وهذا أيضاً موجود في القرآن، التعبد له، فإن الذكر يكون بالقلب واللسان والجوارح.

الرابع: ذكره بكلامه الذي أنزله وتكلم به، قراءة وتلاوة القرآن.

الخامس: بدعائه واستغفاره والتضرع إليه، كل هذا موجود في القرآن.

ثم ابن القيم يذهب إلى أكثر من هذا يقول: أصلاً وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، هذا الذكر ليس المقصود به المصدر وإنما الاسم، هذا من باب إضافة الأسماء وليس من باب إضافة المصادر، فيقول: الذكر هنا المقصود به الاسم الذي هو القرآن، اسم من أسماء القرآن، فإن من أسمائه الذكر والفرقان والكتاب والقرآن، هذه الأسماء الأربعة. فيقول: هذا من باب إضافة الأسماء، طبعا هو بهذا حل المشكلة وأنهى الصراع يقول: أنتم جالسون تتكلمون على إضافة مصدر إلى فاعل وإلى مفعول، هذا من باب إضافة الأسماء، "ذكري" هذا اسمه الذكر أضافه إليه -تبارك وتعالى.

هذا مثال ذكره شيخ الإسلام والمقصود به أنه على القولين: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي يعني عن الكتاب الذي أنزلته، عن الذكر الذي أنزلته، من باب الإضافة إلى الفاعل، فإن المتكلم الفاعل هو الله . القول الثاني: أعرض عن ذكري، أي لم يذكر ربه -تبارك وتعالى-، غفل عن ذكر ربه، هذان قولان، شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: مثل هذا كمن يسأل عن قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، ما ذكره؟ فيقال: القرآن أو ما أنزله من الكتب، يقول: المقصود تعيين المسمى، طبعا نحن لو جئنا لمسألة اختلاف التنوع والتضاد أيضاً نقول: هذان قولان مختلفان اختلاف تضاد أو اختلاف تنوع في الحقيقة وفي الأصل؟ إضافة للفاعل أو إضافة للمفعول؟ تضاد لكن هل يمكن أن نجمع بين القولين؟ نعم.

 القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على النبي ﷺ فالمعيشة الضنك هي ما ينتظره. والمعنى الثاني صحيح، من غفل عن ذكر الله، وجف لسانه، وتصحر قلبه؛ فإنه يكون في معيشةٍ ضنك، كل هذا صحيح، فالذي لا يذكر ربه، والذي لا يشتغل بكلامه ويقبل عليه بتلاوته وتدبره والعمل به؛ فإن له معيشة ضنكا، فكلا المعنيين صحيح، فصار من قبيل اختلاف التنوع.

قال: فإذا قيل ذكر الله بالمعنى الثاني.

المعنى الثاني هو الإضافة إلى المفعول، يعني يقول: ما يُذكر به: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قلنا: إن هذا أكثر ما يطلق لفظ الذكر عليه عند المتأخرين.

فإذا قيل ذكر الله بالمعنى الثاني كان ما يُذكر به مثل قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو، وهو كلامه، وهذا هو المراد في قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي.

إذاً المعنى الأول من قبيل الإضافة إلى الفاعل، كلامه القرآن، وهذا هو المراد في قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي لاحظ شيخ الإسلام يرجح هذا القول أن المقصود به القرآن وكذا ابن القيم، وهذا الذي عليه الجمهور، وذكر القرينة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم.

وهذا هو المراد في قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي؛ لأنه قال قبل ذلك فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وهداه هو: ما أنزله من الذكر، وقال بعد ذلك: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا [سورة طه:126]، والمقصود أن يعرف أن الذكر هو.

هذه القرينة الثانية، القرينة الأولى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ، ما هو الهدى؟ الوحي، القرآن، وبعد ذلك: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا، فدل على أن المراد بالذكر هو القرآن، هذا إذا أردنا أن نرجِّح، كما يقول الشنقيطي -رحمه الله-: "قد يذكر المفسرون القولين في الآية، ويكون في الآية قرينة تدل على ترجيح أحد القولين"، هذا إذا أردنا أن نرجح، لكن الجمع بين الأقوال أولى إذا أمكن، ولهذا كانت القاعدة أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين أو أكثر ولا يوجد ما يمنع حملها على ذلك حُملت على هذه المعاني؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، هذا يفعله ابن جرير كثيراً، وابن كثير، والشنقيطي، وابن القيم.

قال: والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل أو هو ذكر العبد له، فسواء قيل: ذكري كتابي أو كلامي، أو هداي أو نحو ذلك، فإن المسمى واحد.

هذا الشخص السائل يريد أن يعرف المسمى، يريد أن يعرف المراد، وليس مطلوبه تحديد الألفاظ وتفسيرها، تعيين الذكر هذا ما هو؟ هل هو سبحان الله، والحمد لله -ما يذكر به-، أو المقصود به كلامه؟

قال: وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به فلابد من قدرٍ زائدٍ على تعيين المسمى، مثل أن يسأل عن القدوس، السلام، المؤمن.

إذا كان يسأل عن المسمى نقول: هو الله، إذا كان يريد أن يعرف الصفة أي القدر الزائد عن المسمى، ما معنى القدوس؟ السلام؟ فهنا يحتاج أن نُعرِّفَه، نقول له: القدوس مثلاً الطاهر من كل عيب ونقص، أو يقال: القدوس هو السالم من كل عيبٍ في الماضي ونقصٍ في الحاضر، والسلام السالم من كل عيبٍ ونقصٍ في المستقبل، كما يقول بعضهم في الفرق بينهما، وهكذا المؤمن: المصدق للرسل -عليهم الصلاة والسلام- لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات والدلائل الواضحات على صدقهم، المصدِّق لأوليائه بنصرهم وإدالتهم وتمكينهم، المصدِّق لهم فيما يقولون، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأعراف:6].

المؤمن من الأمن، أمِنَ خلقه من أن يظلمهم، الذي يُؤمّن أهل الإيمان أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هذا كله داخلٌ فيه إذا كان يسأل ما معنى المؤمن؟

قال: مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن وقد علم أنه الله، لكن مراده ما معنى كونه قدوسا سلاماً مؤمناً ونحو ذلك؟
  1. أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: (إنما الأعمال بالنية) وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907).
  2. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب في أسمائه ﷺ، برقم (2354).

مواد ذات صلة